بينما كان فريق بي بي سي يتوجه لتغطية غارة إسرائيلية استهدفت أحد المنازل على مشارف دمشق يوم الخميس الماضي، كانت لجنة صياغة الإعلان الدستوري في سوريا تُسلِّم مسودة الإعلان إلى رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، الذي وصف ذلك الإعلان بأنه "بداية تاريخ جديد للبلاد"، معرباً عن أمله في أن يمحو "الظلم" الذي تعرض له السوريون.
ويعكس هذا المشهد التحديات الأمنية والسياسية، التي تواجه الدولة السورية الجديدة على مختلف الأصعدة، بينما تسعى لتأسيس مرحلة جديدة، بعد ما يزيد عن أربعة عشر عاماً من اندلاع الثورة في البلاد.
حدد الإعلان الدستوري مدة المرحلة الانتقالية في سوريا بخمس سنوات، ونصّ على "الفصل المطلق" بين السلطات، وأكد على جملة من الحقوق والحريات الأساسية، بينها حرية الرأي والتعبير، وحق المرأة في المشاركة السياسية.
ويقول الدكتور إسماعيل خلفان، عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري في سوريا وعميد كلية الحقوق بجامعة حلب، لـ "بي بي سي" إن الإعلان يُشكل الأساس الذي ستُبنى عليه المرحلة الانتقالية، التي ستشهد تشكيل الحكومة ولجنة صياغة الدستور والبرلمان.
وأضاف خلفان أن الحياة في سوريا كانت متوقفة منذ سقوط النظام السابق وإلغاء العمل بدستور عام 2012، في انتظار هذا الإعلان الدستوري، خاصة مع التحديات الأمنية مثل وجود مناطق تشهد "إشكالات مع فلول النظام"، ومناطق لا تزال تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
من جهته، قال الدكتور أحمد قربي، عضو لجنة صياغة الإعلان نفسه ومدير وحدة التوافق والهوية المشتركة في مركز الحوار السوري، لـ "بي بي سي" إن هذا الإعلان سيعطي صلاحيات واضحة لمؤسسات الدولة للتعامل مع التحديات الأمنية والسياسية.
ولكن بمجرد التصديق على الإعلان الدستوري، أطلق مجلس سوريا الديمقراطية، الذي يمثل المظلة السياسية لقوات (قسد)، بياناً انتقد فيه الإعلان ورفضه، وذلك بعد أيام قليلة من توقيع اتفاق يقضي باندماجها ضمن مؤسسات الدولة السورية، مع التأكيد على وحدة أراضي سوريا ورفض تقسيمها.
وقال مجلس (قسد) في بيان الجمعة، إن هذا الإعلان "يكرّس لحكم مركزي ويمنح السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة". كما طالب بإعادة صياغة الإعلان بما يضمن توزيع السلطة بشكل عادل، ويضمن حرية العمل السياسي، والاعتراف بحقوق جميع المكونات السورية، واعتماد نظام حكم لامركزي ديمقراطي، مع وضع آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية.
ورداً على هذا البيان، علق الدكتور خلفان بالقول إن سوريا دولة واحدة تعتمد على المركزية السياسية، ولا تقبل بالتقسيم أو الانفصالية على حد تعبيره. وأضاف أن اللامركزية الإدارية متاحة في المناطق المختلفة، مثل المناطق التي يسكنها الأكراد، وأنه حتى إذا لم يذكر الإعلان الدستوري ذلك صراحة، فإن الأمر مذكور في قانون الإدارة المحلية، وطالما أنه لم يُلغَ ولا يتعارض مع الإعلان الدستوري، فهو مستمر، بحسب قوله.
تعددت ردود الفعل حول عدة نقاط في الإعلان الدستوري، منها صلاحيات الرئيس أحمد الشرع، الذي سيحكم سوريا خلال الفترة الانتقالية الممتدة لخمس سنوات بحسب الإعلان.
فقد صرح أنور مجني، المشرف على البرامج في منظمة "اليوم التالي" الحقوقية السورية، لـ "بي بي سي" بأن الإعلان الدستوري يجمع كل السلطات التنفيذية للدولة خلال المرحلة الانتقالية بيد الرئيس، فهو من يختار أعضاء الحكومة وأعضاء مجلس الأمن القومي، وقضاة المحكمة الدستورية العليا. وأضاف مجني أن الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويختار اللجنة التي ستعين الثلثين الآخرين. كما أشار إلى ما اعتبره غياباً للمحددات التي يمكنها ضمان تشكيل برلمان يكفل تمثيلاً حقيقياً للمجتمع السوري، بحسب قوله.
غير أن الدكتور أحمد قربي يرى أن صلاحيات الرئيس في المرحلة الانتقالية لا تمثل إشكالية، لأن الإعلان تبنى النظام الرئاسي، مما يعطي صلاحيات واسعة للرئيس. وأضاف أنه في السابق، كان الرئيس في سوريا، يتمتع بصلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية، لكنه لم يعد لديه الآن سلطة التشريع، كما أنه لم يعد رئيساً لمجلس القضاء الأعلى.
وبخصوص تعيين الرئيس لأعضاء المحكمة الدستورية العليا، علل قربي ذلك بأنه تم اللجوء لهذا الأمر "اضطرارياً" في ظل الحاجة لتشكيل المحكمة، وعدم وجود مجلس شعب.
بدوره أكد الدكتور إسماعيل خلفان أن الصلاحية الاستثنائية الوحيدة التي أُعطيت للرئيس بموجب مسودة الإعلان الدستوري، هي إعلان حالة الطوارئ، وهو "أمر طبيعي في دولة مثل سوريا مرت بثورة استمرت 14 عاماً، وتشرد فيها ملايين السوريين".
وأضاف عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري أنه حتى هذه الصلاحية تم تقييدها، إذ يحتاج الرئيس إلى موافقة مجلس الأمن القومي، واستشارة المحكمة الدستورية ومجلس الشعب، لإعلان حالة الطوارئ. كما حُددت مدتها بثلاثة أشهر بحد أقصى، ولتمديدها يحتاج إلى موافقة مجلس الشعب.
وأشار إلى أن صلاحية التشريع لرئيس الجمهورية، التي كانت موجودة في الدستور السابق من خلال منحه صلاحية إصدار المراسيم التشريعية التي كان يستخدمها لتعطيل السلطة التشريعية في مجلس الشعب على حد تعبير خلفان، اختفت في هذا الإعلان الدستوري، وأصبحت صلاحية التشريع حصراً في يد مجلس الشعب فقط.
يرى نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات، أن الإعلان الدستوري منح الرئيس صلاحيات واسعة دون تحديد آليات لرقابة أو محاسبة السلطة التنفيذية، معتبراً أن الإعلان "يصب في مصلحة الرئيس الحالي".
كما يقول الناشط الحقوقي أنور مجني، أن لدى رئيس المرحلة الانتقالية القدرة على التأثير على السلطة التشريعية، إذ يمكنه رد أي تشريع إلى مجلس الشعب، ورفع نسبة التصويت المطلوبة عليه من النصف إلى الثلثين. وتساءل مجني عن سبب تحديد فترة البرلمان القادم بثلاثين شهراً بينما المرحلة الانتقالية هي خمس سنوات. وأضاف أن منح حق مد فترة البرلمان يزيد من صلاحيات الرئيس.
من جهته، قال الدكتور أحمد قربي: "نحن اعتمدنا مسألة الفصل الجامد، فالبرلمان لا يستطيع محاسبة الرئيس، والرئيس لا يمكنه حل البرلمان". وأوضح قربي أنه بالرغم من عدم وجود آلية واضحة لمحاسبة الرئيس، فإن القواعد العامة تنص على أن الرئيس موظف في الدولة، وإذا خالف القانون أو الإعلان الدستوري، سيكون القانون السوري هو الفيصل.
كفل الإعلان الدستوري الجديد، المشاركة السياسية الكاملة وحق الملكية مع مجموعة من الضوابط حتى لا تتحول الحريات إلى فوضى، بحسب رئيس لجنة صياغة هذا الإعلان الدكتور عبد الحميد العواك، خلال مؤتمر تسليم مسودته إلى رئيس المرحلة الانتقالية.
ولكن أنور مجني يقول إن المادة الوحيدة التي تحدثت عن تكوين الأحزاب، علقت عمل هذه الأحزاب على إصدار قانون جديد، دون تحديد مدة محددة لإصداره، مما قد يعطل الحياة السياسية. وأضاف أنه لا يجب انتظار صدور قانون لتشكيل الأحزاب، بل يجب تحديد مدة لإصداره على الأقل، لأن الإعلان الدستوري يفترض أن ينقل البلاد من الاستبداد، وحكم الفرد إلى التعددية وحكم الشعب على حد قوله.
من جهته، نفى خلفان أن يكون ما ورد في الإعلان الدستوري يقيد العمل السياسي، أو يجمد تكوين الأحزاب، موضحاً أنه أرجأ تشكيل الأحزاب فقط حتى يتم إصدار قانون جديد، لأن القانون الحالي لا يمنح الحرية الكافية لتشكيل الأحزاب، ويشترط موافقة أمنية من وزير الداخلية، وهو أمر غير مقبول. وقال: "سيتم إعداد قانون جديد للأحزاب، وبعد ذلك سيتم تشكيل الأحزاب وفقاً للقانون دون أي قيود".
وفيما يخص العدالة الانتقالية، نص الإعلان الدستوري على إلغاء كل القوانين الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية والقرارات الصادرة عنها إبان عهد النظام السابق.
وقال قربي إن من أهم مكاسب هذا الإعلان، أنه أسس للعدالة الانتقالية من خلال إجراءات واضحة، ومهد لتأسيس هيئة مستقلة خاصة بالعدالة الانتقالية، مبنية على جبر الضرر وإنصاف الضحايا، فضلاً عن "حسم الرواية التاريخية وتجريم كل من ينكر جرائم نظام الأسد أو يبررها".
غير أن الناشطة السياسية والنسوية السورية ثريا حجازي، تقول إن العدالة الانتقالية يجب ألا تتضمن فقط انتهاكات النظام السابق، بل يجب أن تشمل أيضاً أي انتهاكات ثبت بعد التحقيق أنها وقعت من قبل أفراد تابعين للنظام الحالي، مشيرة إلى الأحداث الأخيرة في منطقة الساحل السوري.
عبّر الصحفي والباحث السوري نورس عزيز، لـ "بي بي سي" عن تحفظاته إزاء ما نص عليه الإعلان الدستوري من اعتبار الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع، قائلاً إن الفقه الإسلامي بالنسبة له هو مجموعة اجتهادات شخصية وغير موحدة، مما قد يؤثر على فكرة المدنية والديمقراطية في الدولة.
ورأى عزيز أن تأكيد الإعلان على وصف الدولة بـ"الجمهورية العربية السورية"، يُقصي القوميات غير العربية مثل الأكراد والتركمان والأقليات القومية، معتبراً أن الإعلان "يحظى بدعم النظام الجديد من الأغلبية السنية".
وأضاف عزيز أن الإعلان حدد أن تكون ديانة رئيس الدولة هي الإسلام، ما يعتبره الصحفي والباحث السوري حصراً لهذا المنصب و"إقصاء لبقية الأديان والمذاهب، ومخالفة للمادة التي تقول بأن كل المواطنين السوريين متساوون في الحقوق والواجبات".
"أطالب بالتمثيل الحقيقي لكل السوريين وإعطاء أصحاب الكفاءات دورهم في قيادة الدولة وعدم الاستئثار بالسلطة"، هكذا عبّر نورس عن أمله في مستقبل البلاد.
من جهتها، قالت ثريا حجازي، الناشطة السياسية والنسوية السورية، إن عدم تحديد جنسية رئيس الدولة مع وجود عدد كبير من الأجانب يثير مخاوفها، بالإضافة إلى عدم تأكيد الإعلان، على أهمية تداول السلطة والديمقراطية ومدنية الدولة.
وبحسب نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات، لاقى الاتفاق بين الشرع و(قسد) ترحيباً واسعاً، لكن الإعلان الدستوري "ضرب به عرض الحائط"، إذ لا توجد أي مواد تشير إلى أي مكون قومي أو ديني، مثل الأكراد أو التركمان أو الآشوريين، رغم أن الاتفاق بين السلطات في دمشق و(قسد)، ينص على تمثيل كل مكونات السوريين.
ورداً على هذه الانتقادات، قال الدكتور إسماعيل خلفان، عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري، إن تحديد ديانة رئيس الدولة لا يعد إشكالية، خاصة أنه كان موجوداً في الدساتير السورية دائماً. وأضاف أن عدداً كبيراً من الدول، تحدد ديانة رئيس الدولة بحسب ديانة الأغلبية. وأوضح خلفان أن "الإعلان الدستوري لم يحدد طائفة معينة، بل حدد الديانة فقط"، معتبراً أن ذلك لن يؤثر على مشاركة السوريين في الحياة السياسية، لأن الحصر ينطبق فقط على منصب رئيس الجمهورية، بينما تسمح المناصب التشريعية والتنفيذية الأخرى للجميع بالمشاركة الفعالة.
من جهته، استنكر الدكتور أحمد قربي، عضو لجنة صياغة الإعلان، التعليقات التي تقول إن الإعلان لم يشمل كل الأطياف السورية، ورد بأن الإعلان ينص على أن "المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب"، بالإضافة إلى ضمان الحقوق الثقافية واللغوية لكل المكونات السورية، وضمان حرية الاعتقاد وحرية الممارسة الدينية، وصيانة الأحوال الشخصية، مما يضمن تمثيلاً عادلاً للجميع. وأضاف أن ذكر أي مكون بعينه سيشير إلى أن له معاملة تمييزية، "ولا يجب تمييز أي سوري عن الآخر".
وبخصوص جنسية الرئيس، قال خلفان إنه لا داعي لذكرها في الإعلان الدستوري، لأن الدستور الدائم سيحدد ذلك لاحقاً، وسيؤكد أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون سوري المولد، وليس بالتجنيس.
وفي الختام يقول الناشط الحقوقي أنور مجني إنه بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي طالت الإعلان، فإنه يرى فيه أيضاً عدداً من المواد التي أحدثت نقلة نوعية، مثل اعتبار الاتفاقيات الدولية المُصادق عليها من الجمهورية السورية، جزءاً من الإعلان الدستوري. وأضاف أن سوريا مصادقة على أهم المواثيق الدولية، وبالتالي لا يجوز إصدار قانون يتعارض مع هذه الحقوق، ولا يجوز للسلطة التنفيذية اتخاذ إجراء يتعارض معها، مع ضرورة تحديد آليات الرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية.
وأعرب مجني عن أمله في أن يكون هذا الإعلان قادراً على نقل البلاد من حالة الاستبداد وحكم الفرد الواحد إلى حالة التعددية والديمقراطية.