قبل أذان المغرب بدقائق قليلة، يجلس أحمد النجار - فلسطيني من بلدة جباليا في شمال غزة - وعائلته حول مائدة الإفطار في غرفة نصف مضاءة بوهج الشموع المتراقصة، إذ باتت الكهرباء زائراً نادراً في البيوت الغزية بعد قرار إسرائيل قطعها عن القطاع.
في 9 مارس/ آذار، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، قرار قطع الكهرباء عن غزة التي يزيد عدد سكانها عن مليوني نسمة، وذلك في محاولة للضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لديها في سياق مفاوضات معقدة لوقف إطلاق النار.
وجاء القرار بعد نحو أسبوع من قطع إسرائيل جميع الإمدادات الإنسانية عن القطاع، ما يزيد من أزمة إنسانية آخذة في التفاقم بالقطاع. وفي 3 مارس/ آذار، كان وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، قد هدد بقطع إمدادات المياه والكهرباء عن غزة، مشددا على ضرورة شن هجوم عسكري واسع النطاق يفضي إلى "احتلال القطاع".
"نتناول السحور والفطور في ظلام دامس .. فهل يعقل أن أستيقظ من نومي لأقوم بإعداد السحور أنا وزوجتي لأطفالنا بعد إشعال النيران في وقت متأخر من الليل؟ يحصل ذلك بالتوازي مع قلة توفر الحطب وعدم وجود الغاز من الأصل. الآن لا كهرباء ولا غاز ولا مياه صالحة للشرب لدينا"، يقول النجار لبي بي سي، مشيرا إلى أن أهالي القطاع يعانون كثيرا في شهر رمضان إذ يصومون طوال النهار ويفطرون على مياه غير صالحة وطعام غير صحي.
يضيف: "نحن بشر والله.. بشر مثل أي بشر في العالم، ومن حقنا الحصول على أبسط مقومات الحياة."
المعاناة ذاتها عبر عنها زكريا خضر، وهو مواطن فلسطيني آخر من بلدة جباليا شمالي قطاع غزة. يقول لبي بي سي إنه يستيقظ في الليل لتحضير وجبة السحور على أضواء الشموع، وهو "ما يزيد من احتمالية اندلاع الحرائق في البيوت" ويسأل، "ألا يكفي ما تعرض له سكان القطاع من قتل ودمار؟".
ويضيف: "لا يمكننا الاستغناء عن الكهرباء مطلقا، فهي تدخل في كل تفاصيل حياتنا، كما أن المياه أيضا مرتبطة بالكهرباء، فالمياه تضخ من الآبار إلى البراميل للتخزين بواسطة مضخات تعمل بالكهرباء".
أزمة الكهرباء في غزة ليست جديدة، فمنذ هجمات السابع من أكتوبر 2023، قررت إسرائيل قطع الكهرباء ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل محطة التوليد الوحيدة في القطاع، ما أدى إلى تعطيل العمل في الغالبية الساحقة من المستشفيات وانعدام الكهرباء في القطاع.
وعن تفاصيل هذه الأزمة، تحدث المهندس محمد ثابت، الناطق باسم شركة كهرباء غزة لبي بي سي، موضحا أن إسرائيل قطعت مصادر الطاقة كافة عن قطاع غزة منذ اليوم الأول للحرب، وذلك من خلال فصل 10 خطوط رئيسية كانت تغذي القطاع من الطاقة، بقدرة إنتاجية تقدر بنحو 120 ميغاوات . كما منعت إدخال مادة المازوت وكل أنواع المحروقات عقب قرار إغلاق جميع المعابر في بداية الحرب، ما أدى لاحقا إلى توقف تام لمحطة الكهرباء الوحيدة بعد نفاد مخزون المازوت، وحينها بات سكان القطاع بلا كهرباء لنحو 521 يوما.
ولكن بقي خط كهرباء واحد موصول بمحطة تحلية مياه البحر في مخيم دير البلح وسط القطاع وذلك بعد تنسيق من منظمة اليونيسيف وبالتعاون مع سلطات المياه والكهرباء المحلية، وهو الخط الذي قررت إسرائيل قطعه في 9 مارس / آذار. وأشار ثابت إلى أن هذا الخط كان قد تعرض في السابق لأعطال فنية جراء القصف الإسرائيلي الشديد، قبل أن تنجح شركة الكهرباء في إصلاحه مرة أخرى، وهو يمتد على طول ثمانية كيلومتران من داخل إسرائيل مباشرة إلى المحطة.
وأوضح ثابت أن محطة تحلية مياه البحر التي كانت تزود بالكهرباء من الجانب الإسرائيلي استمرت بالعمل لعدة أشهر العام الماضي، حتى جاء القرار الأخير بفصل الكهرباء، وأضاف أنه تم توقيف العمل بخط كهرباء فرعي كانت قد استحدثته الشركة بغية تشغيل محطة معالجة لمياه الصرف الصحي في المخيم ذاته.
ويشير ثابت إلى أن 70 ٪ من شبكات الشركة مدمرة بفعل الحرب، إلى جانب نحو 80٪ من الآليات والمعدات الخاصة بالشركة، و 90 ٪ من المخازن والمستودعات، بل و 6 مبان تابعة للشركة كذلك،"حتى أنه لم تبق مكاتب يجلس فيها العاملون أو الفنيون في الشركة".
ويحذر الناطق باسم شركة كهرباء غزة من تداعيات انقطاع الكهرباء عن القطاع مشيرا إلى أن الأمر سيؤدي لحرمان أكثر من مليوني نسمة من شرب المياه النظيفة، وهو ما يؤدي بالتبعية لزيادة الأمراض والأوبئة، وارتفاع نسب التلوث في البحر، لأن البلديات ستضطر لضخ مياه الصرف الصحي دون معالجة تجاه البحر.
أما في الداخل الإسرائيلي، فالهدف من قرار قطع الكهرباء عن غزة وتداعياته هو محط نقاش واسع. فلا اعتراض على فكرة الضغط على حماس لتسليم الرهائن، لكن بعضهن يتساءل عن التبعات العكسية لهذه الخطوة على إسرائيل، خاصة في ما يتعلق بالمحتجزين أنفسهم أو بردود الفعل الدولية والمواقف القانونية لها كذلك.
ويرى أريك رودنيتسكي، المختص في شؤون الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، أن قرار قطع الكهرباء ليس إلا جزءاً من استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى الضغط على حركة حماس.
ويقول رودنيتسكي لبي بي سي إن هذه الخطوة تأتي في وقت حساس، تسعى فيه إسرائيل إلى دفع حماس لقبول المقترحات الأمريكية الأخيرة المتعلقة بصفقة تبادل الأسرى، أو فرض شروط تتناسب مع المصالح الإسرائيلية. ويرى هذا القرار بمثابة استمرار لسياسات العقوبات التي تم تطبيقها منذ بداية الحرب، غير أن تأثير قطع الكهرباء على حياة السكان في غزة يثير المخاوف من التبعات القانونية والحقوقية لهذه الخطوة على إسرائيل.
فقد تتعرض إسرائيل - وفقا لرودنيتسكي - لاتهامات بارتكاب جرائم حرب بسبب تأثير هذه الإجراءات على المدنيين في غزة.
وأضاف الأكاديمي الإسرائيلي بأن هناك مخاوف داخل إسرائيل من تأثير هذه الإجراءات على مصير الرهائن الموجودين في غزة كذلك، وهو ما يجعل الحكومة الإسرائيلية تسعى لتحقيق توازن صعب بين الضغط على حماس والحرص على تجنب تداعيات قانونية قد تؤثر على موقفها دولياً.
رأي اتفق معه يوحنان تسوريف، كبير الباحثين في معهد البحوث الأمنية والقومية في تل أبيب، الذي قال إن هناك احتمالية متزايدة لتجدد الاتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب جراء هذا القرار، وهو ما يمثل تحدياً قانونياً يضعف موقفها في الساحة الدولية.
ويعلق تسوريف على موقف اليمين المتشدد في إسرائيل قائلا إنه على الرغم من فشله في بعض الجوانب العسكرية والسياسية، فإنه لا يزال يلعب دوراً كبيراً في دفع الحكومة نحو اتخاذ خطوات أكثر قسوة في الحرب.
ورغم هذه الضغوط، يعتقد تسوريف أن الحكومة الإسرائيلية ستجد صعوبة في تنفيذ هذه الاستراتيجيات بشكل كامل على المدى البعيد، خاصة في ظل الانتقادات الدولية المستمرة.
وإجابة على سؤال بشأن أهداف هذه الخطوة، قال تسوريف إن هذه الإجراءات تمثل جزءاً من استراتيجيات الحرب النفسية للضغط على حماس، وإضعاف قدرتها على المقاومة. فهي خطوة لا تقتصر على تحقيق الأهداف العسكرية فحسب، بل محاولة من إسرائيل لتقليص قدرة غزة على المقاومة والقتال في ظل ما يصفه بالعداء المستمر.
ومن منظور حقوقي، أدانت تانيا هاري، المديرة التنفيذية لمركز الدفاع عن حرية التنقل "جيشاه" - وهو مركز حقوقي يهتم بشكل خاص بحماية حقوق الإنسان مع التركيز على سكان غزة- القرار الإسرائيلي بقطع الكهرباء عن القطاع، مشيرة إلى أن الخطوة تشكل انتهاكًا واضحًا للقانون الإنساني الدولي.
وقالت هاري أن قطع الكهرباء عن قطاع غزة يمكن أن يُعد "جريمة حرب" إذا تم عمدًا بهدف التأثير على المدنيين، ما يندرج تحت العقوبات الجماعية المحظورة وفقًا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان. وأشارت إلى أن قطع الكهرباء يشكل ضغطًا جماعيًا على المدنيين في غزة، ما يعكس أسلوبًا من أساليب العقوبات الجماعية، وهو ما يعد محظورًا بموجب القانون الدولي.
كما تقول إن "هذا التصرف يتعارض مع الالتزامات الأساسية بموجب القانون الإنساني الدولي، والتي تهدف إلى حماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة".
وتقدم مركز "جيشاه" بطلب إلى المحكمة للحصول على أمر قضائي مؤقت ضد هذا القرار الذي يشمل أيضًا وقف دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.