تحفل السردية الفلسطينية بالكثير من "المسلمات" المحصنة بأطواق من "القداسة"، لا يجوز المسّ بها بحال من الأحوال، وعند تناولها، ليس ثمة من حاجة لمناقشتها أو تحدي صحتها، هي هكذا، عليك أن تأخذ بها أو تقامر بالخروج من رحمة الإجماع الوطني، فتصبح "نشازًا" صوتًا وصورة وموقعًا، سُيّجت لفرط التشديد عليها، بقوالب رومانسية، تعالت أن يحيط بها "نظمٌ من الشعر أو نثر من الخُطب".
من هذه "الرومانسيات"، ما اتصل بمسألة الوحدة والإجماع الوطنيين، فما من حركة تحرر وطني في العالم، مجّدت هذا الشعار مثلما فعلت الحركة الوطنية الفلسطينية، وما من حركة تحرر وطني في العالم، عانت ويلات الفرقة والانقسام، مثلما عانت الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ بواكير انطلاقتها وحتى يومنا الحاضر، قبل حماس وبعدها.
تضرب هذه "الرومانسية" جذورها عميقًا في جغرافيا الشتات الفلسطيني، وما استدعته من تدخلات خارجية بعضها نافع وأغلبها ضار للغاية، وصراعات إقليمية على "الورقة" الفلسطينية التي تستمد قيمتها من ارتفاع أو هبوط مكانة القضية الفلسطينية ذاتها، وتستقي مسوغاتها من انقسامات العقائد والأيديولوجيات والمرجعيات، وما ترتب عليها من اختلافات في النهج والمقاربة، بعضها له ما يبرره، فيما بعضه الآخر، يعود لحسابات أنانية ضيقة، من شخصية وفصائلية.
في المخيال الشعبي الفلسطيني، تستبطن الوحدة "قيمة عليا"، مستمدة من مظلومية هذا الشعب: ضياع أرضه وشتات أبنائه وبناته، وتتعاظم "رمزيتها" بتعاظم الوعي المتجذر بطبيعة العدو الإحلالي- الإلغائي، ومشروعه القائم على التبديد وإنكار الآخر، لا سيما بعد أن سقط في مستنقع العنصرية والفاشية والإبادة والتطهير العرقي.. يلوذ الفلسطينيون بـ"رمزيّاتهم" كلما اشتدت وطأة "جريمة العصر" التي مضى على فصلها الأول، أكثر من مئة عام.
وعلى وقع الخذلان العربي، تكتسي مسألة الوحدة طابعًا "وجوديًا" بالنسبة للفلسطينيين، فما حكّ جلدك غير ظفرك.. وصرخة "يا وحدنا"، تعيد تمتين حبال الأمل والرجاء، باستعادة الوحدة ذات يوم، مع أن كل فلسطيني يعرف في قرارة نفسه، أنها حبال واهية، وأقرب ما تكون إلى "التفكير الرغائبي".
بالفطرة والتفكير السليم، يحق للفلسطيني أكثر من غيره، أن يحلم بوحدة الشعب والقضية والسلاح والقرار والإرادة، فحرب الاستقلال والاسترجاع التي يخوضها بأشكال وأدوات متعددة، طوال سنوات وعقود ومراحل، وضعته وجهًا لوجه أمام عدو مقتدر ومتفوق، مدعوم من أعتى آلة اقتصادية وحربية وسياسية في العالم.
بهذا المعنى، فإن الحاجة تبدو ماسة لصرف الجهد كله في التصدي لعدو الخارج، ولا مطرحَ من حيث المبدأ، لصراعات الداخل. والفلسطيني لا يمتلك "ترف" الانخراط في معارك جانبية، لكن الحياة الواقعية للأسف، تقول بغير ذلك، والأفكار والنوايا مهما عظمت مقاصدها، لا تصمد أمام الوقائع الصلبة والحقائق العنيدة.
باستذكار تجربة الحركة الوطنية المعاصرة، أجزم بأن سِني الانقسام كانت أطول بكثير من سِني الوحدة.. صحّ ذلك عندما كان اليسار يسعى في لعب دور "القطب الثاني" المعادل لفتح، ويصح اليوم، بعد أن غدت حماس لاعبًا لا يمكن تجاهله أو القفز من فوقه.
وحتى عندما كانت مجالس الوحدة والمصالحة تلتئم بين الحين والآخر، كنت ترى القوم جميعًا، وقلوبهم شتى، فلكل فصيل أن يلتزم أو لا يلتزم بمقررات الإجماع، لكن عوامل ثلاثة أسهمت في الماضي في حفظ "صورة" للوحدة:
أولها: أن هذه الحركة نمت على جذع فتح، العمود الفقري. كان يكفي فتح أن تأتلف مع نفرٍ من فصائل وشخصيات، أو انشقاقات عنها، حتى تظل عجلة الوحدة دائرة، ويظل "الممثل الشرعي الوحيد"، غير قابل للتنازع.
ثانيها: انقسام الجغرافيا الفلسطينية، حال دون "الحسم"، أو تنفيذ انقلابات محتملة، لا سيما حين كانت الجغرافيا العربية، تحتضن هذا الفصيل وتقصي ذاك، تبعًا لحسابات الأنظمة والحكومات.
ثالثها: روابط مصلحية ترتبط بـ"مكاسب" فصائلية مترتبة على الانضواء تحت راية المنظمة و"صندوقها القومي".
اليوم يبدو الوضع مختلفًا تمامًا.. منذ عقدين على أقل تقدير، نشأ "عمود فقري" ثانٍ للحركة الوطنية الفلسطينية، وتحصّن بجغرافيا غزة، دون التقليل من وجوده المتعاظم في الضفة والشتات.. لم تعد "ريادة" فتح سببًا كافيًا لقيادتها للمشهد الفلسطيني، لا سيما بعد قيام السلطة وتماهي الأولى مع الأخيرة.
اليوم، شئنا أم أبينا، ثمة مركزان فلسطينيان، ليس بمقدور أحدهما أن يستتبع الآخر.. المقاومة برصيد شعبي متعاظم، والسلطة بـ"شرعية" رسمية بلا شعبية، ومطعون في شرعية مؤسساتها التي لم تعرف الانتخاب منذ عقدين، وما زالت تتصرف وكأن التاريخ توقف عند "أولى الرصاصات".
لم تنطلق فتح ولا الحركة الوطنية في بواكيرها الأولى، بوصفها تعبيرًا عن الوحدة والإجماع.. نشأت كحركات "أقلوية" سرعان ما استحدثت طوفانًا من التأييد الشعبي العارم.
لو انتظرت فتح الإجماع لما انطلقت، ولو أنها قَبِلت من قَبل بما تطالب به حماس اليوم، لما كسبت قصب السبق والريادة، ولما تربعت على قمة هرم القيادة الفلسطينية.
حركات التحرر في العالم، تبدأ هكذا، وتشق طريقها هكذا، وتراهن على دعم ومؤازرة كتلة وازنة، أو أغلبية من شعبها، أما الإجماع والتوحد، فمكانهما في دواوين الشعر والأدب.
ولا أعرف ثورة في العالم، بما فيها أكثرها إثارة للحماسة والمشاعر: الجزائر وفيتنام، قد نشأت على الإجماع أو انتصرت بفعله.. حارب الجزائريون جزائريين كثرًا، من عملاء الاحتلال الفرنسي، كثرة منهم رحلت إلى فرنسا برحيل الاستعمار، واستقرت فيها.
وحارب الفيتناميون سايغون وجواسيسها، وعجزت المروحيات الأم ي ركية عن التقاطهم من على سطح السفارة الأم ي ركية فيها.
أما الثورة الصينية العظمى، ففشلت في إنتاج وحدتها حتى بعد أن صارت دولة، ولم تكن تايوان لتكون على قيد "الدولة" لو أن ماو تسي تونغ، نجح بالإطاحة بالكومنتانغ وتشانغ كاي شيك.. ويبدو أن الرئيس شي جين بينغ، يسعى اليوم لتحقيق ما أخفق "الزعيم" في تحقيقه من قبل.
وتصبح قضية الوحدة، أكثر صعوبة وخطورة، عندما يغدو وجود فريق فاعل من الفرقاء، مرتبطًا بالعدو ودرجة رضاه عن أدائه.
وفي الحالة الفلسطينية، عندما يبدأ مشوار التكيف مع مخرجات المشروع الإسرائيلي، وينتقل خلاف الرؤى والبرامج، من المستوى اللفظي إلى المستوى العملي، فينخرط في مشاريع استئصال المقاومة وشيطنة شهدائها وأسراها، ولا يجد قبحًا في البحث مع قادة أجهزة العدو، في أنجع السبل لاستئصال شأفة المقاومين في جنين وشمال الضفة.. هنا لا يمكن الحديث عن "فجوة برامج ومناهج"، بل عن خنادق متقابلة واصطفافات عصية على التجسير.
ولأن منظمة التحرير الفلسطينية، هي عنوان الوحدة والإجماع، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد، باعتراف عربي ودولي، فإن النظر إليها حظي بقدر هائل من التضليل والتدليس، المسيّج برومانسية قاتلة هذه المرة.
وقد آن أوان النظر لكيفية استعادة هذا "المكتسب"، لا الإطاحة به، كيفية استرداده لا تمكين خاطفيه من استخدامه لممارسة أعلى درجات الابتزاز الذي لا وظيفة له، سوى تجيير هذا المنجز، في لعبة الاتساق مع الحل الإسرائيلي، وتحويله من ذخر إلى عبء، ومن ورقة قوة إلى ورقة ضعف.
كل حديث عن إصلاح منظمة التحرير، بعد أزيد من أربعين عامًا على المناداة بإصلاحها، يصبح عبثًا ومضيعة للوقت وهدرًا للجهد، هذا لم يحدث في "سِني الخير"، فما بالكم اليوم، والمنظمة في أرذل أوضاعها، ويتم الإبقاء عليها لممارسة طقوس الختم والتوقيع على أسوأ الصفقات والتفاهمات.
هذا السلوك، يطيل في أمد الانهيار، ويصرف الجهد عن وجهته وغايته الرئيسيتين.. إن لم تكن كل الكوارث التي مرّ بها شعب فلسطين، ويمر بها اليوم، سببًا كافيًا لإقناع "القوم" بالوحدة، فمتى سيقتنعون، ومن سيقنعهم؟
انتزاع المنظمة وتحريرها، يجب أن يكون الهدف، أما الطريق إلى ذلك فيكون في حشد الجهود والقوى، فصائل وشخصيات ومنظمات وتنظيمات شعبية، في أعرض جبهة وطنية متحدة، والشروع من دون إبطاء في تنظيم الشعب الفلسطيني بمختلف قطاعاته، وإعادة بناء المنظمات والاتحادات الشعبية، وخلق عنوان فلسطيني ثانٍ، وتخليق قيادة فلسطينية وطنية، مستندة إلى هذه القاعدة العريضة، والسعي بكل الطرق المتاحة لمزاحمة الأطر والهياكل العظمية المتخشبة على قلوب الفلسطينيين وعقولهم.
عندها تصبح المنظمة ثوبًا بلا جسد، لجسد بلا ثوب، وتُستعاد بصورة خلّاقة تجربة انتزاع المنظمة من أيدي النظام العربي الرسمي في مثل هذا الشهر من العام 1969.
الإكثار من الرهانات على الوحدة والمصالحة والمنظمة، لا نتيجة له اليوم، سوى صرف الجهود في الاتجاه الخاطئ، وتعطيل أي محاولة جادة لاستنهاض الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد، بانتظار أن يأتي "غودو".
أمرٌ كهذا، يُبقي المترددين على ترددهم، والواهمين في ظلام أوهامهم يعمهون، فيما القيادة الممسكة بالختم، تواصل ممارسة طقوس الابتزاز والاتهام، لأنها ببساطة، لا تجد تهديدًا جديًا من منافسيها، الذين يسبقونها في إضفاء آيات القداسة وهالات الرومانسية على "الممثل الوحيد".. ويمتنعون عن القيام بالعمل الصائب، درءًا لشبهة المسّ بـ "البقرة المقدسة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.