في الموعد المُحدد كنت على باب ديوان وزارة الأوقاف بجوار جامع العثمان بدمشق. هذه المرة الأولى التي أدخل فيها مبنى لوزارة الأوقاف. مبنى قديم مكون من ثمانية طوابق تغطيها صورة ممزقة لبشار الأسد وعلم سوريا القديم المتدلي على كل طابق من طوابق المبنى. وأمام الوزارة متظاهرون من أرباب شركات السياحة الدينية يعترضون على قرارات إصلاحية في ملف الحج والعمرة قام بها سامر بيرقدار مدير مديرية أوقاف دمشق الجديد. لم يُسمح لأحد من المتظاهرين بالدخول إلى مبنى الوزارة، ولم يقترب أحد منهم من المدخل، بينما تسللت أنا من جوارهم واقتربت من الباب.
"عندك موعد يا أستاذ؟" سألني الحارس بلطف.
"نعم" أجبته.
"من حضرتك؟"
يمكنك أن تقول لهم إن الصحفي الذي يُعِد ملفا عن الحالة الدينية في المُحرر قد وصل.
كان الحارس فتى إدلبيّا بسّامًا على مشارف العشرين، أخذ اسمي وتأكد من موعدي بجهازه "اللاسكلي" ثم رافقني إلى الأعلى.
"مبنى الوزارة كان هِبة كويتية للأوقاف لكن بشار جعل 75% من مرافقه لوزارة الاقتصاد، ورصدنا أن أغلب العاملين في مفاصل أوقاف دمشق من الطائفة العلويّة" همس لي الفتى الإدلبي وهو يسير بجانبي، وكأنه يريد فتح حديث معي حتى نصل إلى الطابق الثامن، حيث مكتب الوزير ومعاونيه.
"كانت البلد لهم يا أستاذ. عموما الكهرباء قاطعة، وسندخل من مدخل الوزير الخاص، لأن فيه مولد كهربائي خاص بالمصعد لا ينقطع" قالها بنبرة من يعتذر.
قادنا انقطاع الكهرباء، إلى المدخل الخاص الذي كان يدخل منه محمد عبد الستار السيد وزير الأوقاف في عهد بشار، وهو سليل بيت في وزارة الأوقاف. فقد كان أبوه "عبد الستار السيد" وزير أوقاف حافظ الأسد من قبل. كان "محمد عبد الستار السيد" مديرًا لأوقاف دمشق إلى عام 2007، قبل أن يتولى الوزارة أواخر العام ذاته بدلا من سلفه زياد الأيوبي، الذي ينتمي إلى مدرسة مفتي سوريا السابق، الشيخ أحمد كفتارو. ومنذ تولي محمد عبد الستار منصبه، انقضت الهدنة التي كانت بين بشار والحالة العلمائية في الشام، وزاد الخناق على الجماعات العلمائية واعتقال بعض النافذين فيها، وإطلاق يد وزارة الأوقاف ضمن سياسات الوزارة التي هدف بها السيد إلى توسيع هيمنة الدولة على الحالة الدينية.
بقي السيد في منصبه 17 عاما كاملة، ورغم كل التقلبات التي شهدتها سوريا وعلى رأسها الثورة السورية إلا أن بشار كان مصرًا على بقائه طوال هذه المدة. كان الأسد يشيد بجهود وزارة الأوقاف كلما سنحت الفرصة، ويرى أنها رديف للجيش في الحرب على الإرهاب، ويعتبرها وزارة سيادية إلى جوار الداخلية والخارجية والدفاع، كما يقول محمد الجلالي، آخر رئيس وزراء لبشار الأسد.
دخلنا من مدخل الوزير الخاص، والذي كان متواضعا مقارنة بمداخل الوزراء في العالم. كان الظلام دامسا، فالكهرباء منقطعة عن المدخل أيضا كما هي مقطوعة عن الوزارة كلها، سوى المصعد الذي يعمل بمولد خارجي ويصعد منه الوزير ومعاونوه. صعدنا إلى الطابق الثامن، حيث مكتب الوزير. وجدت إلى جوار المصعد غرفة مليئة بالكتب التي طبعتها أوقاف الأسد في باب التجديد الديني ونبذ التطرف. وأول ما يلفت في هذه الكتب، أن أغلبها يحمل صورة بشار واسمه على غلافه. أخذت أربعة منها، وكان على غلاف الكتاب الأول صورة بشار الأسد وخلفه زخرفة دمشقية وعنوانه "إضاءات من فكر الرئيس بشار الأسد في الدين والفقه الإسلامي"، أما الكتاب الثاني فكان على غلافه صورة أخرى لبشار مع مسؤولي الأوقاف، وعنوانه "عوامل النهضة الإسلامية في لقاء الرئيس بشار الأسد بالسادة العلماء ورجال الدين وأئمة وخطباء المساجد والداعيات"، وكتاب ثالث مطبوع في ستينيات القرن الماضي بعنوان: "منهج المسلمين العلويين عقيدة وشريعة وتصوفا". أما رابعها فعنوانه "دمشق بين الشيخ الأكبر ابن عربي وشيخ التكفير ابن تيمية" وقد وضع المصمم على اسم ابن عربي مسبحة، وعلى اسم ابن تيمية بندقية!
بعض مطبوعات وزارة الأوقاف في عهد الأسد (الجزيرة نت)
عند مدخل مكتب أمين الوزارة، استقبلني مستضيفي معرفًا عن نفسه: "أنا أبو علي، أحمد حلاق، مسؤول العلاقات العامة في وزارة الأوقاف، درست الشريعة وأكتب أطروحة الماجستير الآن".
"في الفقه" قال وهو يعدل جلسته "هل لي أن أستأذنك في مَد قدمي، فأنا مصاب بطلقتين في الفخذ من المعارك".
ذكرتني كلمته تلك بكلمة مشابهة سمعتها من ع ميد كلية الشريعة في إدلب ياسين علوش حين قال لي: نحن مجاهدون أولا ثم طلاب جامعيون أو أساتذة أو مدنيون. وتكررت هذه الجملة على مسامعي من جُل من قابلتهم ضمن الحالة الدينية في إدلب، بدت تلك المقولة من سمات العمل الدعوي في سوريا الجديدة.
دخل الساعي بفنجانين من القهوة، أخذت رشفة، ثم سألت أبا علي: أريد أن أسمع عن المعارك التي لا تروى بين ضجيج السياسة ومدافع العسكر، أريد أن أسمع عن الحالة الدينية وكيف أدرتموها في المحرر، لنبدأ من البداية، لماذا أسستم وزارة أوقاف في إدلب، وكانت وقتها بقعة جغرافية صغيرة محاصرة في وضع حرب؟
اعتدل أبو علي في جلسته وقال لي: إلى عام 2017 كان كل شيء في إدلب يسير بعشوائية. كل فصيل يعمل بمفرده في الساحة وله مرجعيته الخاصة الشرعية به. الشيء الوحيد الجامع بين الفصائل هو مظلة الثورة السورية، لكن في عام 2017 تشكلت حكومة الإنقاذ في المحرر. كانت حكومة الإنقاذ مدنية وخدمية بالأساس وليست عسكرية. في الحقيقة كُنا نحاول تأسيس شبه دولة في المُحرر، ولكي تُشكل دولة عليك أن تؤسس قواعدها الفكرية، وهذه القواعد الفكرية لا بد أن تتوحد على المرجعية الشرعية، ومن هنا كانت فكرة وزارة الأوقاف ودورها في توحيد هذه المرجعية.
"جمعنا الناس على مقولة بسيطة، وهي أننا جميعا مسلمون. هذه مُسلمة أولى ننطلق منها. ثم علينا أن نُنحي الخلافات بيننا، ونتوحد جميعا على الجهاد في سبيل الله لإسقاط نظام الأسد قبل كل شيء!".
هذا يعني أن وزارة الأوقاف في المُحرر كان هدفها ضبط مساحات التدين في هذه المنطقة. قلتُ معلقًا
"طبعا، كان أهم دوافع تشكيل وزارة الأوقاف في المحرر تشكيل مرجعية شرعية للثورة، وكانت البداية بالأئمة والخطباء، ثم تطورت الأمور مع الوقت حتى شمل عملنا كل شرائح المجتمع، أنا رسالتي للماجستير في موضوع قريب من ذلك، في نوازل الحكم والسلطة".
كيف بدأتم العمل مع الأئمة والخطباء؟
"اتخذ النظام السوري الأئمة والخطباء رهينة له، لا يخرجون عنه، ومعاشهم من الدولة رأسًا، فأردنا قلب المعادلة. عندما دخلت الفصائل إلى المُحرر كان كل فصيل يسيطر على الوقف الذي في منطقة نفوذه، وعندما توحّدنا في المُحرر، كان أول شيء فعلناه هو ضم هذه الأوقاف إلى جهة مسؤولة عنها وهي وزارة الأوقاف، واستعادة الأموال الوقفية، وخلال عامين أو ثلاثة استعدنا الأوقاف المسروقة، ثم سيرناها بما يضمن استمراريتها بالاستثمار في مشاريع نوعية تعود عائداتها إلى هذه الأوقاف، وبالتالي استطعنا أن نضمن حالة مالية جيدة للعاملين في المجال الديني يعينهم على معايشهم."
تأمل أبو علي الأهداف وكأنه يستعيد حوادث قصة قد شارك في صناعة أحداثها لكنه لم يُحدث بتفاصيلها من قبل. ثم اندفع قائلًا "لوزارة الأوقاف قبل التحرير أربعة مرتكزات أساسية قامت عليها، وأربعة مسارات سارت فيها. أما المرتكزات: فصناعة المرجعية الشرعية للثورة. وضم الأوقاف المسروقة لتعزيز الاستدامة المالية للحالة الدينية. والشمولية في التأثير المجتمعي والعسكري والسياسي. وتعزيز الشراكات مع المؤسسات المختلفة والجهات الخارجية.
كانت هذه الرباعية هي المنظار الأوسع الذي ننظر منه إلى المحرر، ونبني من خلاله شراكتنا ونضبط حركتنا، أما المسارات الأربعة التي سرنا فيها توازيا فهي: مسار رعاية الوقف واستثمار تنميته، ومسار المسجد والانطلاق منه، ومسار التعليم الشرعي لعموم الناس والنخب، ومسار التوعية والتوجيه المجتمعي."
أجاب بكلمة واحدة: "المساجد."
"استثمرنا في الأئمة والخطباء أول ما استثمرنا. يزيد راتب الإمام في المُحرر 10 أضعاف في أقل تقدير على راتب إمام الأوقاف عند النظام. فالإمام مكفول ماليا بالمستطاع، وكلما طور من كفاءته الشرعية زادت كفايته المالية، ولذلك أنشأنا "صندوق كفالة طالب العلم" ليكفل الأئمة ويفرغهم للدعوة، وفي وزارة الأوقاف لا نأخذ قرشا واحدًا من الأوقاف، فرواتبنا من الحكومة، وأموال الأوقاف موقوفة على مصارفها الشرعية."
"قرابة 2500 مسجد، ورممنا أكثر من 400 مسجد تضرر من القصف، وفتحنا قرابة 200 مسجد جديد، ولدينا أكثر من 4000 موظف في هيئة المساجد، وجاوزت فاعلياتنا المرصودة في المساجد 200 ألف فاعلية في المحرر، والمساجد عندنا لخدمة قضية أمتنا وإشعال روح الجهاد في المسلمين."
ذكرني حديثه بكلمة لزعيم الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش: لو يعطونا خطب الجمعة لحكمنا البلد.
أرجع أبو علي ظهره إلى الخلف بعد أن كان يلقي أرقام المساجد بحماسة بين يديّ، ثم قال: "في عام 2022، وجدنا أننا إذا أردنا التأثير حقا في المحرر، فعلينا أن نتجاوز أثر خطبة الجمعة الأسبوعي إلى الأثر المستدام في كل فئات المجتمع، فقسمنا المجتمع إلى شرائح دعوية، ثم جعلنا لكل شريحة مديرية متخصصة، وهذه المديريات هي: مديرية شؤون الوقف، مديرية شؤون المساجد، مديرية شؤون القرآن الكريم، مديرية التعليم والمعاهد، مديرية شؤون المخيمات، مديرية التوعية الإلكترونية والفاعليات، مديرية شؤون الأسرة، مديرية التوجيه الجامعي، مديرية المؤسسات التربوية، مديرية التراخيص والمعاملات الوقفية إلى غير ذلك من مديريات متخصصة.
وكان لكل مديرية منها مساحة عمل تركز عليها مجتمعيا، فضلا عن المديريات المناطقية التي تخدم كل منطقة على حدة. لكن أهم مديرية من هذه المديريات هي مديرية شؤون المساجد. وإذا أردت أن تتعرف إلى النقلة النوعية لوزارة الأوقاف، فلتعلم أنها تبدأ بعد استقرار أمر المساجد وضبط خطب الجمعة فيها.
فمن المساجد انتقلنا إلى تقسيم المجتمع إلى شرائح للدعوة، وكانت أول شريحة للأئمة والخطباء، وبدون ضبط المساجد والأئمة والخطباء لم نكن نستطيع فعل أي شيء. كان عندنا هدف أن نجعل وزارة الأوقاف في المحرر ليست مجرد منبر ومحراب فقط، بل وزارة الأثر المجتمعي الممتد، فكان الإمام والمسجد هو البداية. ولذلك اعتنينا كثيرًا بمديرية شؤون المساجد وأسسنا ما يُعرف بـ "الأسرة المسجدية" وهي تجمع في مسجد الحيّ يرأسه إمام المسجد ويكون لهم برنامج متكامل أسبوعي، من زيارات وعزاءات وعيادة المريض ودروس خاصة بأهل الحيّ، وكنا نرى أن هذا هو رأس مالنا الأكبر."
"كنا جميعا في الوزارة نعمل لترسيخ هذه الثقافة المعيارية بين الأئمة والخطباء، وكنا نؤكد عليها مرة تلو أخرى، ونقدمها إليهم مكتوبة!."
"نعم، لقد كتبنا عددا من الأوراق التي تتضمن المهام المرجوة من العمل المسجدي، وصفات الإمام الذي نُريده في المُحرر، وأدواره المختلفة، بل نبهنا أيضا إلى بعض الإرشادات والمحظورات، وسميناه "ميثاق العمل المسجدي"."
أجاب بأريحيّة "هو غير منشور، لكني سأُطلعك عليه. وفي هذا الميثاق حددنا أدوار ومسؤوليات الإمام في المحرر."
"للإمام في المحرر 6 أدوار أساسية: دور شعائري، وآخر تعليمي، وثالث دعوي توعوي، ورابع اجتماعي، وخامس توجيهي قيادي إداري، وسادس اقتصادي."
" لضبط عملية الرقابة على المسجد وتوحيد البوصلة نحو هدف التحرير، تصل المحظورات إلى 20 محظورا، لكني اختار محظورًا واحدًا أحدثك عنه، ألا وهو "الطعن في المجاهدين وبث الأراجيف والشائعات"، هذا ممنوع تماما، لأننا نُريد أن نُخرج أئمة مجاهدين، أو على الأقل مناصرين للمجاهدين وليسوا مفرقين لأمتهم!."
خلع صاحبنا ساعته، وشعرت أن الحديث قد شابه شيء من الارتياح، فسألته وأنا أبحث عن مزيد بيان: إذا كانت هذه أدوار المساجد في المحرر، وهذه مهام ومحظورات الأئمة، فكيف تضمنون أن الأئمة كانوا مستوعبين لهذه المفاهيم؟
"كان همنا الأساسي هو تطوير الأئمة والخطباء لاستيعاب هذه المضامين، كان هدفنا أن نمكنهم من الفنون المختلفة التي يؤثرون بها في المجتمع، فدربناهم على دورات عدة، وأنشأنا لهم تطبيقا هاتفيا ليَنظم عمل الأئمة والخطباء في المديرية. ليس ذلك فحسب، بل حرصنا على تعريف الأئمة والخطباء على كل أهل المحرر."
"عندنا مساجد مركزية في المحرر، هذه المساجد يتناوب عليها الأئمة والخطباء حتى لا يُستأثر بمنابر المساجد الكبيرة خطيب واحد. ثم إن الإمام يبقى في المسجد 6 أشهر ويُمدد له مرة واحدة ثم ينتقل إلى مسجد آخر!."
"لا، فالخير الذي عند الإمام ينبغي أن ينتقل إلى بقية مناطق المُحرر؛ تخيل لو أن الإمام بقي يكرر ما عنده في كل مناسبة، في رمضان والحج والعيدين، والإسراء والمعراج، وما إليه، فأين يسمع الناس الجديد؟ هذا الذي أفسد خطباء النظام، وأيضا إلى جوار الخطب، فعلنا المحاضرات والندوات في المساجد بشكل كبير."
"المعهد التخصصي لتكوين الأئمة والخطباء." أجاب دون تفكير.
"نعم، لقد أسسنا هذا المعهد، وهو معهد تابع فنيا لمديرية شؤون المساجد، لكنه إداريا معهد تعليم عالٍ تابع لوزارة التعليم العالي ويمنح المعهد دبلوم تأهيل وتخصص في الخطابة، ومن جمع مع هذا المعهد درجة من "المعهد التخصصي للقراءات" فيُمنح درجة الماجستير."
"سوف أحدثك عنه حين نأتي لمديرية شؤون القرآن. لكن دعني أحدثك الآن عن معهد تكوين الأئمة والخطباء. هذا المعهد غرضه الأساسي صناعة طالب علم واع ومتبصر بقضايا أمته حتى ينُافح عنها حين يصعد على المنبر. ولذلك فإننا ندرس الأئمة إلى جانب الخطابة والإمامة مواد تخدم أبواب السياسة والفكر والعسكر وبقية مؤسسات الدولة."
"الطبيب يُسأل عن الطب، والنجار يُسأل عن النجارة، وكل صاحب مهنة يُسأل عنها، إلا الشيخ يُسأل عن كل شيء، يُسأل الشيخ عن الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن وكل شيء. ولذلك كان علينا في المعهد أن نُوفر شيئا من المعارف في كل هذه الأبواب. يأتي إلينا الطالب 4 أيام أسبوعيا، يبيت في المعهد ولا يذهب إلى بيته. في هذه المدة يتلقى الطالب على مدار الساعة محاضرات إثرائية في جميع هذه المجالات."
"كنا نستضيف الوزراء للحديث عن وزارتهم، والعسكر للحديث عن المعارك والتخطيط والصناعات العسكرية، وكنا نستضيف السياسيين والإعلاميين والشرعيين والمفكرين، كما أن الخطاب السياسي والاقتصادي والعسكري حاضر بقوة في هذا المعهد.
"خرجنا دفعتين من هذا المعهد قبل التحرير. كل دفعة فيها 100 إمام وخطيب."
أطرق للحظات ليجمع أفكاره ثم قال: "أول شيء عملنا عليه كان إصلاح "الثانويات الشرعية". لقد تسلمنا إدلب وفيها ثانوية شرعية واحدة مهملة من النظام، والآن عندنا 36 ثانوية شرعية في الفرعين العلمي والأدبي ويستفيد منها 5000 طالب وطالبة في المحرر، و12 معهدا وزاريا متوسط مدة التعليم فيها نحو سنتين، لإعداد مدرسين شرعيين ويستفيد منه نحو 2000 طالب. لم يكن عملنا في هذه المعاهد عشوائيا، فهذه المعاهد تشرف عليها وزارتا الأوقاف والتربية والتعليم معا. فالمنهاج الخاص بالشق العلمي تابع لوزارة التربية والتعلم، أما الإدارة والمنهج الشرعي فتابع لوزارة الأوقاف."
أجاب بنبرة حاسمة: "كلّا، المنهج موحد من لجنة مختصة من الأوقاف لتوحد المعايير العامة المشتركة بين الكل العاملين الدعويين في المحرر.
"هذه مسألة حسمناها أيضا؛ لأن أغلب أهل سوريا على مذهب الشافعي، فقد اعتمدناه مذهبا تعليميا في الفقه، فتستطيع أن تقول إن المذهب الشافعي هو مذهب المحرر."
"لأن بعض المهاجرين من بيئات حنفية، وخاصة إخواننا التركمان، فقد رخصنا معهدا واحدا للمذهب الحنفي حتى لا يخالفوا معهودهم الفقهي في بلادهم. وعلى كل حالٍ من أراد أن يدرس مذهبا آخر فليدرس ما يشاء لا أحد يمنعه، إنما حديثنا عن المعاهد التي نركز عليها في معاهد الوزارة."
"كنا نحارب هذه الظاهرة أشد المحاربة. عندنا معاهد مشهورة في المحرر اسمها معاهد "الإمام النووي" وهي معاهد يغلب عليها الطابع الصوفي الأشعري. صعد مرة أحد الخطباء المنبر وحذر منهم ورماهم بالبدعة، وكاد يُحدث فتنة، مباشرة أوقفناه عن الخطابة، لأن النقاش العلمي ينبغي أن يكون في مكانه، أما بوصلتنا فتظل على ما يجمع المسلمين خاصة وقت الأزمات ولا يفرقهم."
"نعم.. في المحرر نشرنا معاهد علمية عُرفت بمعاهد "الإمام الشافعي" للذكور، ومعاهد "الفتح الإسلامي" للإناث، ويقارب عدد الطلاب في هذه المعاهد 500 طالب، بينما يستفاد من دورات هذه المعاهد نحو 2000 مستفيد خارجي … هذه المعاهد لتأصيل طلاب العلم خارج الدراسة النظامية، موجودة في مناطق متفرقة من المحرر، سرمدا وسلقين وأطمة وغيرها من المناطق. لكن غير العلوم الشرعية هناك ما هو أهم من ذلك ويقبل عليه كل مسلم وحاولنا أيضا تيسيره لكل مسلم في المحرر."
"كتاب الله، القرآن الكريم. ولذلك أنشأنا مديرية كاملة في المحرر لخدمة كتاب الله وسميناها مديرية شؤون القرآن الكريم".
اتجه الحديث إلى مسار آخر، فعلينا أن ننتقل من الدور التعليمي التي قامت به وزارة الأوقاف في المحرر إلى الحديث عن القرآن والدعوة المجتمعية.
"كنا على وعي بأهمية محاضن القرآن في المحرر، وكثير من الجمعيات السورية تعمل في المحرر على تحفيظ القرآن لكن دون مرجعية إشرافية أيضا على جودة المخرجات، فأسسنا مديرية لشؤون القرآن الكريم للارتقاء بمستوى هذه الحلقات المنتشرة طوال المحرر، وضبطنا عمل جمعيات تحفيظ القرآن في نظام عمل موحد … ثم أصبحنا نمنح "البطاقة القرآنية"، وهي بطاقة تُخول لصاحبها تدريس القرآن الكريم حسب الفئة التي مُنح البطاقة فيها"
"هي أربع فئات، فئة [أ] و [ب] و [ج] و [د]، أعلاها الفئة [أ] وهي لحملة الإجازات في القراءات وحملة الشهادات الجامعية. واستطعنا بفضل الله إنشاء المعهد الأول على مستوى سوريا في تخصص القراءات وعلوم القرآن، فأسسنا "المعهد التخصصي للقراءات وعلوم القرآن" وهو معهد مختص بتأهيل المجازين بالقراءات العشر بالسند المتصل وذلك بالجمع بين الدراسات الأكاديمية والإقراء على الشيوخ، ويمنح المعهد شهادة ماجستير، كما يمنح شهادة تأهيل وتدريب معترف بها من وزارة التعليم العالي. ليس ذلك فحسب، بل استضفنا مشايخ الإقراء المتقنين في العالم في فاعليات هذا المعهد والمسابقة القرآنية الكبرى.
"المسابقة القرآنية الكبرى هي مسابقة على غرار المسابقات القرآنية التي تعقد في بقية البلاد العربية، وأُطلقت في المحرر على مدار 3 سنوات، تبدأ في شعبان وتنتهي في شوال، أي أنها تستمر ثلاثة أشهر، ويحق للحفاظ التقدم مرة واحدة بناء على ترشيحات جمعياتهم في رواية حفص وبقية القراءات العشر، وشارك فيها قرابة 2000 متسابق إلى الآن في المحرر فقط."
صورة خاصة من الحلقات القرآنية اليومية التي تشرف عليها وزارة الأوقاف (وزارة الأوقاف في حكومة الإنقاذ)
"نعم، أشرفت وزارة الأوقاف على جمعية اسمها جمعية البيان، تُعنى بإنشاء الحلقات القرآنية بين الناس في المساجد وغيرها من الأماكن المناسبة … وبلغت الحلقات التي تشرف عليها وزارة الأوقاف 750 حلقة في 7 مراكز في المناطق المحررة يتربى فيها قرابة 14 ألف طالب وطالبة! … ليس ذلك فحسب، بل بدأنا أيضا تأسيس كلية الدراسات القرآنية ضمن الجامعة الإسلامية في إدلب التي تشرف عليها وزارة الأوقاف."
جاوز مجلسنا الساعة، وكان مقررًا أن يكون نصف ساعة، نظر أبو عليّ في هاتفه وقال لي: "عندي اجتماع بعد قليل لكن قبل أن ننهي دعني أحدثك عن دورنا في الدعوة المجتمعية وما فعلناه في المجتمع الإدلبي فهذا موضوع مهم ذكره. لا شك أنك تعرف أن الثورة يصاحبها تغير ديموغرافي كبير، وقد انعكس هذا سلبا على سكان إدلب. كان في إدلب وحدها خمسة ملايين ساكن، وانتشرت حالات الطلاق بكثرة، لذا كان علينا التصدي لهذه الظاهرة فأسسنا مديرية شؤون الأسرة".
"نعم، نحن كنا نرى أنفسنا مستخلفين في إقامة الدين ونشره بين الأهالي في المحرر، وكل مشكلة دينية علينا أن نذلل سبل حلها. خذ مثلا مشكلة "الطلاق" التي كثرت في المحرر. أردنا في مديرية شؤون الأسرة أن نعلم الشباب كيف تكون بيوتهم عامرة؛ فأنشأنا 6 مراكز فخمة التأثيث والتزيين في 6 أماكن مختلفة في المُحرر، أنصحك أن تزورها إذا زرت إدلب، في هذه المراكز نستقبل المقبلين على الزواج ونخضعهم لدورات تدريبية مع مدربين متخصصين في ورش عمل في أربعة مجالات يحتاج إليها الشباب في المحرر في حياتهم الأسرية … المجال التربوي، والمجال الشرعي، والمجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي."
"نستقبل شهريا 5000 شاب وشابة من المقبلين على الزواج، وهو رقم كبير كما ترى، لكن هذا يُبين الأثر الذي تغرسه الأوقاف في المجتمع."
صورة لمراكز التأهيل والإرشاد الأسري (وزارة الأوقاف في حكومة الإنقاذ)
"نعم … كان لنا محاولات في الإصلاحيات."
"الإصلاحيات هو اسم السجون في إدلب، ولأن معدل الجريمة يزداد وقت الأزمات فلم نترك السجناء يلاقوا مصيرهم، وإنما أنشأنا "مديرية التوعية الإصلاحية" والتي كان غرضها الأساسي تأهيل السجناء، إما بإصلاحهم والتفريج عنهم، مثل التفريج عن الغارمين، أو بتذليل العقبات التي يواجهونها بعد خروجهم."
"كنا نبدأ بمحو أمية الأمي منهم، واستطعنا محو أمية 300 نزيل في السجون، ثم نعلمهم علوما مختلفة تساعده في العمل بعد الخروج. وإلى جانب ذلك ركزنا على الجانب الديني لديهم، فأعددنا لهم منهجا سميناه "زاد النزيل" لتعليم الضروري من الإسلام، واهتممنا بتخريج الحفاظ فيهم، وفعلا أخرجنا 10 حفاظ لكتاب الله في غضون 6 أشهر فقط. كما أن برنامجا إثرائيا دينيا ثقافيا كنا نقدمه لهؤلاء النزلاء لمن يرغب منهم."
"بالطبع، كنا نرى أن حكومة الإنقاذ دولة مصغرة، ودور وزارة الأوقاف أن تُديّن المجتمع، وأن العسكر عليهم تحرير البلد، لكن لن يتم هذا التحرير إلا بهذا التدين المجتمعي كما تخبرنا به أدبياتنا الإسلامية. ولذلك كان لنا عمل موسع في أغلب شرائح المجتمع، وكان لنا مديريات أخرى مثل مديرية "التوعية في الجامعة" وكنا نستهدف بها الشباب الجامعي، ودائرة للفاعليات، وكان نشاطها المجتمعي ملحوظا جدًا، وهي المسؤولة عن الأنشطة والمهرجانات الدعوية خارج المساجد، وخاصة في المناسبات.
من الحملات التي يذكرها أهل إدلب وتحتاج لتقرير كامل حملة "كن داعية" وحملة "رمضان تقوى وإيمان" وحملة "قدوتي رسول الله.
كان الناس يتفاعلون معنا في الحملات الموسمية لأنهم يشعرون أنها تمس احتياجهم. وفي الحرب الأخيرة على غزة أقمنا حملة كانت الأكبر من نوعها عربيا، وهي حملة "الأقصى هوية". لا أظن دولة عربية قامت بالجهد الذي قمنا به في هذه الحملة وشارك فيها كثير من أهل المحرر، وكذلك عند حادثة الرسوم المسيئة لسيدنا رسول الله ﷺ أقمنا معرض "النبي القدوة" وصاحب هذا المعرض محاضرات وملتقيات دعوية وفاعليات نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حضرها 30 ألف مشارك!."
في هذه اللحظة دخل علينا شاب ملتحٍ، فسلم ثم قال لأبي علي إن اجتماعكم قد طال وتجاوز الوقت المحدد له. قال لي أبو علي، هذا أخونا أبو الربيع، مسؤول مديرية "الدعوة الإلكترونية"، التي كنت سأحدثك عن عملنا فيها، لكن عليّ أن أذهب، وهذه فرصة طيبة أن تتعرف إلى أبي الربيع وتسمع منه مباشرة في وقت يناسبكما.