آخر الأخبار

مراسلو الجزيرة بقطاع غزة بين فاقد ومفقود ومولود

شارك الخبر

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

غزة- بلا درع ولا خوذة، يجلس الصحفي أنس الشريف هادئ الملامح، دون ملاحقةٍ لاستهداف أو هرولةٍ نحو مجزرة، في حجره طفلاه، وعلى جانبيه زوجه ووالدته، في مشهد عائلي حرمته الحرب منه مدة طويلة، يلقّن ابنه "صلاح" وهو وليد الحرب لفظ "بابا". يعيد صلاح من خلفه الكلمة، يبتسم أنس متنهداً "أخيرًا صار يعرفني، هذا هو الشعور الذي قد ينسيني آلام الحرب كلها".

لم ير الشريف ابنه خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلا ساعات معدودة، مما جعل الطفل غير متقبل لأبيه، باكياً كل مرة كانت أمه تصحبه فيه لرؤية والده خلال الحرب.

استعادة أجواء العائلة

ورغم انتهاء الحرب فإن الاعتياد على أجواء العائلة يبدو عسيرا للشريف خاصة بعد الفترة الطويلة التي قضاها بعيدا عنهم خلف الكاميرات وعلى خطوط النار، كما أن تصاعد الأحداث واستمراره في التغطية يحرمه من الاستقرار في منزله.

وبينما كان مراسل الجزيرة وما يزال منهمكاً في الميدان الصحفي، فإن زوجته بيان تمارس دور الأم والأب معاً، وتتولى رعاية طفليهما، وقد كان ذلك يبدد قلق الشريف خلال انخراطه في عمله، ويذكرها بحب وفخر "زوجتي لم تتركني، رفضت المغادرة رغم توفر الفرصة، وتحملت مسؤولية طفليَّ".

إعلان

ويستذكر الصحفي ظروف العمل الصعبة ودخوله في حالة من القلق الدائم خلال شهور من الانقطاع التام عن عائلته وانعدام أخبارهم بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت فقد "مرت علي أشهر لا أعرف فيها عن عائلتي شيئًا، لم أكن أعلم أماكن وجودهم أو حتى إن كانوا بخير".

مصدر الصورة الشهيد الصحفي إسماعيل الغول كان يتلهف للاجتماع بطفلته زينة التي لم يرها منذ بداية الحرب (الجزيرة)

صوت أهلي

وبين أصواتٍ ترى مراسل الجزيرة متهورًا وأخرى تراه بطلاً، يختصر الرجل موقفه بجملة واحدة "من يبادون ويجوّعون ويهجرون هم أهلي وجيراني وأبناء شعبي، ومن واجبي أن أكون صوتهم، مهما كلفني الأمر".

فلم يبرح الشريف الميدان رغم التهديدات المتكررة، وبقي خلف الكاميرا حاملا الميكروفون، ولم يتراجع لحظة عن رسالته، مستمرًا في فضح جرائم الاحتلال طوال 470 يومًا بلا هوادة، فقد خلالها عددا كبيرا من عائلته وأكثر من 200 صديق.

حمل الأمانة رغم التهديد

لم يمر شهر خلال الحرب بلا تهديد إسرائيلي أو اثنين للشريف، تهديد تعددت قنواته فقد كان الاحتلال يمرره إليه عبر منصاته الشخصية بشكل مباشر، أو عبر واتساب، وإما بالنشر على صفحات المتحدثين باسم الاحتلال الرسمية، وقد كانت باكورتها استهداف منزله دون سابق إنذار، وقد استشهد إثر ذلك الاستهداف والده.

ويبتلع الشريف دموعه وهو يتحدث عن فقد والده الذي مازال صدى وصيته، "استمر يا أنس" يُقرع في أذنيه، وسألته الجزيرة نت: هل أخافك استشهاد والدك واغتيال رفيق دربك إسماعيل الغول، فجاء رده حاسمًا "لم أخف، بل على العكس فقد زادني ذلك إصرارًا، وصية والدي أصبحت أمانة في عنقي، كما أنّي الآن أكمل رسالة إسماعيل، وأواصل نقل معاناة الناس التي حاول الاحتلال إسكاتها".

والحنين يملأ عينيه، يتحدث الشريف عن صديقه الراحل "لا يغيب طيفه عني خلال هذه الفترة لقد كان متلهفاً لانتهاء الحرب، ويسألني دوماً: متى تنتهي الحرب لنستقر في مأمن مع عوائلنا؟ ويبوح لي بشوقه للاجتماع بزوجته وابنته".

مصدر الصورة الشهيد الصحفي الغول في لقاء عائلي خاص (الجزيرة)

الحلم المفقود

اجتماع لم يُكتب له التمام، وقد توقف الزمن عنده في عيني ملك (زوجة الغول) فتقول وهي تتحشرج بدمعها "يوم العودة إلى غزة كان حلمنا الكبير، كل المكالمات بيننا كانت عن هذا اليوم، عن لحظة اللقاء على الحاجز" لقد كانت وابنتها زينة تحلمان بعناق طويل تنقلها وطفلتها من ضنك الحرب إلى سعة حضنه، فكل ترتيبات لقائهما كانت تسير على ما يرام إلا أن يختفي الرجل من حياتها هذا أمر لم يخطر على البال ولم يكن في الحسبان.

إعلان

وتسترجع ملك آخر أحاديثها مع زوجها للجزيرة نت، فتقول "سألتُه حين نلتقي من ستحتضن أولا؟ أنا أم زينة؟ أجابني ضاحكا: تغارين من ابنتك؟ قلت نعم، فردّ أنت قبل الكل يا أم زينة". وكل مرة يكتنفها الخوف وتشعر نفسها محاطة بالموت فتبوح له بقلقها فيطمئنها قائلًا "إحنا مش هنستشهد، هنظل عايشين ونشوف بعض وننسى كل الأيام الصعبة".

وتغلب أم زينة الدموع، وتضيف "كل العائدين إلى غزة سيلتقون بأحبابهم وأنصافهم إلا نحن زوجات الشهداء حين نعود سنزور قبورهم ويتحوّل يوم لقاء الحبيب إلى يوم زيارة قبره" وبينما توقف شلال الدم، لكن شلالا من الدموع لم يتوقف منذ إعلان الاتفاق، خاصة حين تفتح ابنتها عليها نيران أسئلتها "متى سنذهب مع بابا إلى البحر؟ متى سنعود إليه؟ متى سنصعد نحو الجنة؟".

سقوط نتساريم ولمّ الشمل

وبين صحفي مفقود وآخر فاقد، كان هناك صحفيون كثر يتلهفون لانتهاء الحرب لينتهي البُعد وتطوى المسافات وليجتمعوا بأطفالهم الذين أجبرتهم الحرب على الابتعاد عنهم، والانشطار في نصفي القطاع جنوبا وشمالا، فلم يكن الصحفي محمد قريقع بحاجة إلى أكثر من لحظة واحدة يحتضن فيها أطفاله ليشعر أن الحرب قد انتهت بالفعل.

فمع اندلاع الحرب، اتفق الصحفي مع زوجته على الانتقال جنوبا مع أطفاله، خاصة بعد أن وضعت زوجته مولودها صبيحة الحرب، بينما بقي هو في غزة مع والدته التي نزح معها داخل المدينة أكثر من 14 مرة، حتى استُشهدت في حصار مجمع الشفاء، حيث أُعدمت أمام بوابته، تاركةً خلفها وجعًا لا يندمل.

وكبر الأطفال بعيدًا عن عيني الأب، في حياة لا تشبه حياتهم القديمة، الأمر الذي جعلهم أكثر إدراكاً ومنحهم وعياً يسبق أعمارهم، وقد كان قريقع يتغلب على شوقه إليهم بتواصله الدائم معهم، يتفقد تفاصيلهم ويستمع إليهم وهم يرددون ما حفظوه من القرآن، لكنه كان يفتقد دفء وجودهم بجانبه، كما أن التوتر والقلق كانا يلازمانه الأيام الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، فقد كانت المخاوف تتضاعف، فكل لحظة كانت تهدده بالخسارة.

إعلان

رجوع الروح

كان يوم عودة أطفال قريقع إليه بمثابة رجوع الروح "فقد ذهب ظمأ البُعد وابتلت العروق" يتحدث للجزيرة نت عن تفاصيل ذلك اليوم حيث كان العثور على أطفاله من بين مئات الآلاف تحديًا مرهقًا، ساروا 9 كيلومترات للوصول إليه، تشيح أعينهم بحثاً عن حضنه الذي افتقدوه طويلًا، عاد قريقع بأبنائه إلى ما تبقى من منزله في حي الشجاعية، محاولا استعادة جزء من الذاكرة.

لكن قريقع حتى اللحظة لم يجد إجابة لسؤال أطفاله عن جدتهم التي آثر البقاء معها ولم يعرفوا برحيلها بعد، فقد كان أول ما نطقت به ألسنتهم عند لقائه "أين جدتنا يا بابا؟".

عودة بلا أحضان

وبينما كان مئات آلاف الغزيين يتدفقون عبر الحاجز الزائل للقاء أحبابهم، كان هناك آخرون يعودون بلا أحضان تنتظرهم، بلا وجوه مألوفة تلوح لهم من بعيد، وكان البحث عن الرفات وانتشال جثامين أحبتهم هو وجهتهم.

"عدت وحيدًا، لم أجد أحدًا من عائلتي ليستقبلني" يصف الصحفي مؤمن الشرافي للجزيرة نت شعوره عندما وطئت قدماه مدينته بعد 15 شهرًا من التهجير القسري، بصوت تختلط فيه الحسرة بالألم فقد "كان الهواء الذي أتنفسه مختلفًا، كأنه أول نفس لي منذ سنوات، هواء غزة هو هواء طفولتي وحياتي".

رجوع إلى العدم

لكن تلك اللحظة التي لطالما حلم بها تحولت إلى صدمة موجعة عند وصوله إلى مخيم جباليا، حيث كان منزله يوما ما، فلم يجد سوى فراغ مطلق، لا ملامح للمخيم ولا حتى أثر للبيوت حيث إن "جباليا لم تعد موجودة، المخيم ممسوح تمامًا عن وجه الأرض" كما يروي الشرافي، وقد استعان بجار له ليحاول التعرف على معالم المنطقة التي محاها الدمار.

وبينما اختطف الموت بعد شهرين من بداية الإبادة أكثر من 20 فردا من عائلة هذا الصحفي، فإن جثث 6 منهم بينهم والده وإخوته لا تزال تحت الأنقاض حتى اللحظة، وهم جزء من 10 آلاف غزي ما يزالون في عداد المفقودين بحسب إحصائيات الدفاع المدني.

إعلان

"رغم كل ما رأيت، لا أستطيع التوقف عن التغطية، هذا الدمار الذي أفنى كل شيء يجب ألا يمر بصمت، هناك آلاف القصص التي لم تُروَ بعد، وآلاف الأرواح التي تحتاج أن يعرف العالم عنها" يقول الشرافي الذي أقصى ما يتمناه اليوم أن تعود غزة كما عرفها: ناسها، ضحكات أطفالها، معالمها التي كانت شاهدة على تاريخها.

وفي انتظار ذلك يتشبث الشرافي بالأمل الذي عاش فيه النازحون وتزودوا به طيلة فترة بُعدهم عن أحضان مدينتهم التي خُلقت لتبقى، كما يقول أبناؤها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا