هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لا بد من التريّث دونما تسويف لما لا بد منه. لا يمكن استيعاب ما جرى في سوريا في أقل من 10 أيام، ولا استشراف تداعيات زوال نظام مستبد فاسد وصل إلى السلطة بانقلاب عام 1971 وتم منحه قُبلة الحياة "دستوريا" على عجل بتعديل البند الخاص بعمر الرئيس، بالتصويت العلني برفع الأيدي وبالإجماع في "مجلس الشعب"، قبل 24 عاما حتى يصبح مناسبا لعمر بشار حافظ الأسد ، لا يمكن فهم ما جرى ومعرفة ما هو قادم، فقط عبر ما تعرضه الفضائيات والمنصات منذ فجر الثامن من ديسمبر الأحد، اليوم الذي لن تنساه سوريا ولا جوارها والمنطقة برمتها، لسنوات وربما لعقود.
بصرف النظر عن بنود صفقة "لجوء الأسد وأسرته السياسي إلى موسكو"، فإن ما تم إدارته "بهدوء" وفق ما ورد في حديث الرئيس التركي رجب طيب أروغان للأمين العام للأمم المتحدة انتونيو غوتيريش من الواضح أنه كان حصيلة أشهر وربما سنوات. السقوط كان محتوما في نظري بعد الكلمة الأخيرة للأسد في قمة الرياض الثانية من حرب السابع من أكتوبر، حيث بدا منفصلا عن الواقع، مكابرا متشبثا بأوهام دعم حلفاء وصفهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بـ "المشتتين" في إشارة إلى إيران وروسيا، ليعلن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يوم سقوط الأسد بأن الأمر كان من نتائج مراهنته على دعم موسكو التي تم استنزاف قدراتها في أوكرانيا، وهو تصريح لافت غداة لقائه نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ومضيفه الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش الاحتفال بإعادة ترميم ما احترق من كاثدرائية روتردام التاريخية .
وبين انطلاق شرارة الأحداث يوم دخول الهدنة بين حزب الله وإسرائيل ويوم سقوط الأسد، لم يكتف رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو بتحذير "الأسد من اللعب بالنار" بل قام بضرب المنسحبين من مدينة القصير السورية من تعزيزات ميلشيا حزب الله إلى داخل الأراضي اللبنانية، وكذلك التعامل مع خطر مخزون الأسلحة الكيماوية والصوارخ والأسلحة الاستراتيجية في سوريا إضافة إلى انتشار الجيش الإسرائيلي الذي وصفه نتانياهو بـ "المؤقت" والسيطرة على المنطقة العازلة على الحدود إثر السقوط العملي لقرار فض الاشتباك عام 1974 إثر حرب اكتوبر 1973.
سقوط بشار كرئيس والأسد كنظام لا يمكن قراءته إلا أنه تعبير آخر لسقوط كذبة أو وهم "وحدة الساحات" وانهيار المعبد على رؤوس "محور المقاومة والممانعة" على نحو بات يشي بوجود اتفاق دولي بترتيبات إقليمية قد لا تقف عند إسقاط التنظيمات والنظم بل تتعداها إلى تغيير خرائط "سايكس-بيكو" لشرق أوسط جديد. قد تكون معادلة "سوريا مقابل أوكرانيا" مجرد رأس الجبل الجليدي لتايتانيك النظام الإقليمي "القديم" أو بالأحرى الآيل للسقوط.
يُحسب لواجهة سوريا ما بعد الأسد، أحمد الشرع، "أبو محمد الجولاني" سابقا، أنه كان من ضمن الترتيبات التي تفادت أخطاء إسقاط نظام صدام وسقوط بغداد عام 2003. تم الإبقاء أو الإيحاء بنية الإبقاء على الدولة السورية ومؤسساتها، خاصة العسكرية (الجيش وربما الاستخبارات سيما الضباط المعروف عنهم المهنية والوطنية بمعنى الولاء لسوريا الوطن والدولة لا النظام ولا حلفائه).
لا يمكن لأي مراقب منصف إلا وأن يفرح للإفراج عن آلاف المعتقلين والمعذبين بطرق وحشية، سيما القابعين عقودا في سراديب الموت بصيدنايا وتدمر وغيرها. الجيران ومن بينهم الأردن ودول الخليج، في حال ترقب لبشائر توقف تصنيع وتهريب المخدرات، وكذلك الحال بالنسبة للبنان الذي تجرّع الكثير الكثير من تجبّر نظام الأسد، لكن صانع الصفقات ترامب الخبير في الهدم والبناء كمقاول، يعرف تماما كيف يتخلص من الكرة الفولاذية "رِكِنْغْ بوول" بعد إنجاز المهمة. فهل يلحق الجولاني بالبغدادي (زعيم خلافة داعش المزعومة) أم بسليماني (جنرال إيران في أربع ساحات عربية)؟ أم أن "السيد الشرع" كما يشار إليه في بعض التصريحات "الدبلوماسية" قد تم إعداده وتوظيبه من سنين خلت لمهمة كهذه؟
حتى الآن ثمة "ارتياح" عربي ودولي لغياب الثأرية، فهل يسمح لسوريا باستثناء كسر سجال القمع والفساد مقابل الإرهاب والفوضى؟ البداية ستكون بالعلَم واسم الدولة وجيشها. وأمام الشرع نماذج للاختيار، المشير عبدالرحمن سوار الذهب في السودان الذي سلم الحكم بعد سقوط النظام، أو أمراء الحرب في أفغانستان. أمام من دعموا "فتح" الجولاني "للشام" فرصة لتخويف أو تشجيع الشعوب التواقة للحرية في الشرق الأوسط بعيدا عن البلقنة والأفغنة..