"أن تكون يمينياً يعني أنك تريد عظمة فرنسا. أن تكون يسارياً يعني أنك تريد سعادة الفرنسيين". كانت هذه الإجابة التي يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت – سبونفيل إن والده قدمها له في سنٍّ مبكرة عندما سأله عما يعنيه كلّ من اليمين واليسار.
بهذه العبارة اختصر الرجل الانقسام الأيديولوجي الذي ولد في فرنسا إبّان الثورة الفرنسية عام 1789، ثم صُدّر إلى الحياة السياسية في أوروبا وفي معظم أنحاء العالم حتى يومنا هذا.
ولا يزال هذا الانقسام طاغياً في فرنسا حيث هيمن على الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي فاز فيها اليسار الممثل بائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة بشكل لم يكن متوقعاً، فيما هُزم اليمين المتطرف الممثل بالتجمع الوطني والذي بدا في الجولة الأولى من الانتخابات قريباً من الفوز.
تفيد القصة الشهيرة أن مصطلحي "اليمين" و"اليسار" ولدا من ترتيب الجلوس في الجمعية الوطنية للثورة الفرنسية عام 1789، ولكن المؤرخ الفرنسي مارسيل غوشيه يقدّم تحليلاً أكثر دقةً لأصل هذه التفرقة.
وبحسب القصة الشائعة، فإنّ اعتماد مصطلحي "اليمين واليسار" للتصنيف على أساس الميل السياسي، جاء من تقسيم المقاعد في الجمعية الوطنية أو البرلمان الفرنسي، إذ تحرّك أنصار الملك والنظام تدريجياً صوب يمين الرئيس، فيما انتقل أنصار الحرية والمساواة إلى اليسار.
ولكن، بحسب غوشيه، فإن هذا التصنيف الثنائي لم يصبح استعارة سياسية هامة إلا في وقتٍ لاحق، لا سيما مع صعود الاشتراكية في أواخر القرن التاسع عشر.
ويجادل بأن المعنى السياسي الحقيقي والأثر الاجتماعي الأوسع لهذا التفرقة اليسارية - اليمينية لم ينشأ فقط من أحداث الثورة الفرنسية، أو ترتيب مقاعد البرلمان الفرنسي بحسب الموقف من الملكية، بل من خلال تطور الأيديولوجيات السياسية، وبخاصة ظهور الحركات الاشتراكية.
ينتقد غوشيه تبسيط السرد التاريخي، مشيراً إلى أن استعارة اليسار واليمين اكتسبت أهميتها السياسية الكبيرة وعالميتها مع نمو الاشتراكية الديمقراطية. ويقول إن هذا التصنيف الذي كان ينطبق في البداية على ترتيبات الجلوس البرلمانية، أصبح في النهاية يرمز إلى صراعات أيديولوجية أعمق حول المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتنظيم المجتمع.
وفيما أصبح المصطلحان يستخدمان بمرور الوقت على نطاق واسع لوصف الأيديولوجيات والمواقف السياسية خارج سياق الثورة الفرنسية، يعود بنا تأصيل المعاني التي اقترنت باليسار واليمين تاريخياً إلى ملاحظة الدلالة الأخلاقية التي ترتبط بهما والتي رسّخت التسمية على الأقلّ في بداياتها.
في هذا السياق، يلاحظ كتاب "اليسار واليمين" لمؤلفَيه آلان نويل وجان فيليب تيريان أنه في اليونان القديمة مثلاً، كانت اليد اليمنى مرتبطة بالذكورة، بالخط المستقيم، بالنور وبالخير، بينما كانت اليد اليسرى تشير إلى صورة المرأة، وكل ما هو معوجّ، وإلى الظلام والشر. ثم نجد في التقاليد اليهودية، ثم المسيحية والإسلامية، أنّ "المختارين يكونون على يمين الله والملعونين على يساره". كما يعتبر البوذيون أنه بعد الموت، نقف أمام مفترق طرق، وأن الطريق اليمين هو الذي يؤدي إلى النيرفانا أو حالة الخلاص.
وينقل الكتاب عن عالم الاجتماع روبرت هيرتز أن "اليد اليمنى شكّلت دائماً رمزاً ونموذجاً للأرستقراطية فيما تمثل اليد اليسرى العامة والشعب". ويلفت المؤلفان إلى أن لغات العالم كافة تنقل الرسالة نفسها، حيث أن المصطلحات التي تشير إلى اليمين ترتبط عموماً بصفات حميدة والمصطلحات التي تشير إلى اليسار ترتبط بالعيوب. في اللاتينية على سبيل المثال، الكلمة التي تعني اليمين هي dexter، والتي جاء منها مصطلحdexterity أي المهارة، أما الكلمة التي تعني اليسار فهي sinister التي باتت تشير إلى الشرّ والأذى.
كذلك، في اللغة المحكية في مصر على سبيل المثال نجد عبارة "السكّة الشمال" أي الطريق إلى اليسار والتي ترتبط بالرذائل والأفعال المكروهة اجتماعياً.
ثم انتهى المطاف بانقسام اليسار واليمين ليصبح الاستعارة السياسية العالمية الأشهر حتى يومنا هذا. هذا "التصنيف الثنائي الفقير والتبسيطي" كما يقول غوشيه بتعجّب، "تمكّن من تجسيد المشاعر، والعواطف، والأفكار والذكريات لأجيال بأكملها، في كل أنحاء العالم".
على الرغم من كون اليسار معروف تاريخياً بتبنّيه قيم المساواة والعدالة الاجتماعية والتقدّم، فيما يرتبط اليمين بقيم المحافظة والرجعية وعدم إيلاء المساواة أهمية كبرى، يظهر تاريخ نشأة هذا الانقسام في فرنسا أنه لطالما كان انقساماً سلساً أو مرناً أو متحرّكاً (سائلاً بالتعبير الحرفي أي بعكس الجامد).
تاريخياً، تبادل المعسكران العديد من القيم والأدوار، كما أن الحركة السياسة جعلت الجهات والتنظيمات تتبدل، فمن كان يُصنَّف يسارياً في مرحلة ما اقترب شيئاً فشيئاً من اليمين وأحياناً بالعكس.
في فرنسا كما في أماكن أخرى، تحت النظام القديم قبل الثورة، لم تكن الاستعارة السياسية الأساسية أفقية بل عمودية، أي بين من هم "فوق" ومن هم "تحت".
ويقول غوشيه إنه خلال معظم القرن التاسع عشر، بقي التمييز بين اليسار واليمين محصوراً في مؤسسة واحدة وفي بلد واحد فقط. وكان يخص حياة الجمعية الوطنية الفرنسية وجزءاً من المفردات التقنية للشؤون البرلمانية فقط.
وعند تبنّي حقّ الاقتراع العام للذكور في عام 1848، كان السياسيون والناخبون الفرنسيون يتحدثّون بدلاً من ذلك عن المعارضة الحادة بين الجمهوريين والمحافظين، أو بين "الحمر والبيض"، وهما الفريقان اللذان انقسم بينهما المدافعون عن الثورة والمعارضون لها.
كان هذا الانقسا ....