"كثيرا ما راودتني فكرة تأليف كتاب حول السرطان، لكن الشعور بالرهبة من طول الرحلة ووحشة الطريق وقف عائقا حال بيني وبين خوض غمار هذه التجربة المعقدة، وما يكتنفها من مخاطر جمة، فهذا المرض الذي استنزف جل حياتي المهنية جعلني أختصر الطب في بعدين: السرطان، والأمراض الأخرى، ونجح في تغيير نظرتي للحياة".
بهذه الكلمات افتتح الدكتور عاصم منصور، المدير العام لمركز الحسين للسرطان في الأردن، مقدمة كتابه الجديد "السرطان من المسافة صفر: عندما تخون الخلايا".
ويتابع منصور "فالسرطان ليس مجرد مرض، بل هو ظاهرة محفزة بتعقيدات ومسارات تنطوي على جوانب مختلفة، منها الصحي والاجتماعي والاقتصادي، بل والفلسفي، فهو سيرة لمرض ولأشخاص يعيشونه ويعيش في دواخلهم، ويقتات على أجسادهم وأرواحهم، فلحظة أن يتلقى الإنسان خبر إصابته بهذا المرض يعلم تماما أن حياته ستتغير مرة واحدة وللأبد، إذ لا عودة إلى حياة ما قبل الخبر، كما لو كان يولد من جديد، وعندها يتحتم عليه أن يكيف حياته بناء على هذا المعطى، وأن يبحث لحياته عن معنى جديد".
ويقول المدير العام لمركز الحسين للسرطان "إن هذا الكتاب سيكون بمثابة الأطلس الذي يرسم ملامح جغرافيا معقدة من خلايا انحرفت عن مسارها، ومن حيوات تمت إعادة توجيهها من جديد بواسطة تشخيص المرض، وأبحاث علمية تعود إلى قرون سحيقة، وعلماء أفذاذ رفضوا الانصياع للتيار السائد في زمنهم، ومن نظم اجتماعية جديدة يعاد تشكيلها بمجرد نطق كلمة سرطان".
يستعرض الكتاب بمقاربة علمية مبسطة مرض السرطان، ويتحدث عن طرق العلاج التقليدية والحديثة مثل الطب الدقيق والعلاج المناعي. كما يقدم الكتاب قصصا حقيقية لتجارب مرضى في رحلتهم مع المرض الخبيث.
ويقع الكتاب في 23 فصلا، على امتداد 677 صفحة من القطع المتوسط.
واختار الدكتور منصور عنوان الكتاب ليعكس تجربته الشخصية مع السرطان، بدءا من مرض جده، وصولا إلى عمله في مركز الحسين للسرطان.
وكان الدكتور منصور بدأ عمله في مركز الحسين في قسم الأشعة التشخيصية، وفي عام 2012 تولى منصب المدير العام، وما زال حتى اليوم.
الجزيرة صحة حاورت الدكتور منصور حول الكتاب:
كما ذكرت في مقدمة الكتاب، راودتني فكرة تأليف هذا العمل لفترة طويلة، إلى أن اتخذت قرارا حاسما بالبدء في الكتابة بعد أن نضجت الفكرة في ذهني. واليوم، وبعد سنوات من التفكير والبحث والكتابة، أصبح هذا الكتاب بين أيدينا ليعكس تجربتي مع مرض السرطان من المسافة صفر، حيث أدركت أن السرطان ليس مجرد مرض عضوي، بل تجربة نفسية واجتماعية تترك أثرها العميق على المرضى وعائلاتهم.
أيضا عمدت إلى إنتاج هذا العمل بحيث لا يقتصر على تقديم المعرفة العلمية المجردة، بل يسعى إلى اصطحاب القارئ في رحلة تمزج بين المسار العلمي والتجربة الإنسانية. ولم يكن سلاحي الوحيد في مواجهة المرض العلم والمعرفة، بل كنت شاهدا على قصص إنسانية غنية بالألم والأمل والانكشاف أمام لحظة الحقيقة. لقد تركت هذه التجارب أثرا عميقا في نفسي، وكان أقواها تأثيرا وفاة جدي بالسرطان في أثناء دراستي الجامعية. وكما قلت في مقدمة كتابي: "كان ذلك أول عهدي بهذا المرض، نعم التقينا للمرة الأولى وجها لوجه". هذه التجربة شكلت نقطة تحول في فهمي للسرطان، ليس فقط كمرض، بل كحالة إنسانية تتطلب مواجهة صريحة مع الواقع.
كما أريد لهذا الكتاب أن يرى النور ليكون مثل البوصلة التي تساعد القارئ على التنقل بين تعقيدات المرض ودهاليزه. فهو زبدة سنوات من الخبرة التي جمعت فيها بين المعرفة الطبية العميقة والرؤية الإنسانية والإدارية، حيث أعرض تاريخ تطور السرطان بطريقة تتجاوز السرد الطبي التقليدي.
لهذا، يأتي هذا الكتاب ليضع المرض والمريض في قلب التجربة الإنسانية، بعيدا عن الأرقام الجافة، ويكشف للقارئ ليس فقط تاريخ السرطان والثورة التكنولوجية في علاجه، بل أيضا الواقع الذي يحيط به، من تحديات الرعاية الصحية إلى الأمل في مستقبل أكثر إنصافا، فضلا عن رغبتي في تسليط الضوء على ضرورة تحسين الرعاية الصحية لمكافحة السرطان في المنطقة العربية، التي تواجه عديدا من التحديات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
في كتابي، قاربت موضوع السرطان من منظور شامل يجمع بين البعد العلمي والاجتماعي والنفسي. فمن الناحية العلمية، يستعرض الكتاب تاريخ السرطان منذ العصور القديمة حتى العصر الحديث، موضحا تطور تشخيصه وعلاجه، بدءا من الأساليب التقليدية وصولا إلى العلاجات الحديثة مثل العلاج المناعي والعلاج الجيني، مع تسليط الضوء على دور الذكاء الاصطناعي والروبوتات في تعزيز دقة التشخيص وتحسين نتائج العلاج.
أما من الناحية الاجتماعية، فأود أن أشير إلى أن السرطان ليس مرضا يقتصر تأثيره على الجسد فقط، بل إن له أبعادا اجتماعية كبيرة تؤثر على المريض وأسرته والمجتمع ككل. وهنا سلط الكتاب الضوء على الفوارق الاجتماعية في الوصول إلى الرعاية الصحية، ففي الدول النامية، يواجه المرضى تحديات كبيرة للوصول إلى أبسط الخدمات الطبية، مقارنة بالدول المتقدمة التي توفر لهم العلاجات الحديثة بفضل التكنولوجيا الطبية المتطورة. وتتجلى هذه الفجوات الاجتماعية أيضا في الاختلافات بين الطبقات الاجتماعية، إذ إن المرضى الذين لديهم تأمين صحي جيد تكون لديهم فرص أكبر للحصول على العلاج المتقدم مقارنة بالآخرين الذين لا يمتلكون مثل هذا التأمين؛ هذا يعكس حجم التحديات التي يواجهها المرضى في الحصول على الرعاية الصحية في ظل الفجوات الاقتصادية والسياسية. ويعرض الكتاب هذه الاختلافات ليجعل القارئ يفهم أن العدالة في الوصول إلى العلاج هي قضية محورية تجب معالجتها.
فالسرطان قد يكون مرضا يمكن علاجه في مكان ما، لكنه قد يكون حكما بالإعدام في مكان آخر بسبب نقص الأدوية وضعف البنية التحتية الصحية.
أما على الصعيد النفسي، فقد تناولت تأثير السرطان على المريض من الناحية العاطفية والنفسية، وكيف أن التشخيص بالسرطان ليس مجرد تشخيص طبي، بل هو صدمة نفسية للمريض وعائلته. الخوف من الموت، والقلق المستمر بشأن العلاج والتعافي، والشعور بالعزلة كلها مشاعر مر بها العديد من المرضى، ولمستها من خلال تجارب حية لمرضى عرفتهم.
فالجانب النفسي لا يقتصر على عرض المشاعر السلبية فحسب، بل إن كثيرا من المرضى أظهروا قوة داخلية غير عادية في مواجهة المرض. وقد شهدت وعايشت عديدا من قصص الأمل التي تجلت فيها الروح البشرية في معركة مع المرض، مثل التحديات النفسية التي يواجهها المريض عندما تتقاطع الألم الجسدي مع القلق النفسي.
وهنا، فأنا أشدد على أن الدعم النفسي للمرضى عنصر لا يقل أهمية عن العلاج الطبي، وسواء جاء هذا الدعم من الأسرة أو المجتمع أو جماعات الدعم.
لا أوافق على اعتبار السرطان ذنبا يتحمله المريض بشكل كامل، وفي الوقت نفسه، أنبه إلى ضرورة تجنب عوامل الخطورة مثل الإدمان على التبغ بشتى أشكاله، واتباع حمية غذائية متوازنة وممارسة النشاط البدني، والمواظبة على عمل فحوصات الكشف المبكر لأهميتها. كما أشير إلى أن السرطان مرض متعدد العوامل وقد يرتبط بالعوامل الوراثية، والبيئية أيضا.
وفي كتابي، قدمت صورة شاملة للسرطان، تظهر كيف يتداخل الجانب العلمي مع الاجتماعي والنفسي، مما يجعل القارئ ينظر إلى المرض من منظور أكثر إنسانية وشمولية.
من المتوقع أن تشهد الدول العربية تزايدا في أعداد حالات السرطان في السنوات العشر القادمة، وهذا الأمر يضعنا أمام تحديات تضاف إلى التحديات الأخرى الصحية والاجتماعية والجيوسياسية التي تختص بها المنطقة العربية.
معظم هذه الدول تفتقر إلى بنية تحتية قوية، وغياب إستراتيجيات شاملة لمكافحة السرطان، وشح في الموارد المالية المرصودة لمكافحة السرطان: بدءا من الوقاية والتوعية إلى الكشف المبكر والتشخيص السليم والعلاج الشمولي وانتهاء بالرعاية التلطيفية. وأشير هنا إلى أن ارتفاع نسب الإصابة في هذه الدول تعزى إلى عدة أسباب:
وفي ظل اتساع الهوة بين الفقير والغني سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الدول، لن تستطيع الدول مواكبة الحصول على التشخيص المبكر أو علاج السرطان.
وأؤكد هنا على ضرورة إجراء حملات توعية فعالة، وتحسين برامج الكشف المبكر، وتعزيز البنية الصحية في المنطقة، وأضيف أن نقص البيانات الدقيقة عن السرطان يشكل عائقا أمام التخطيط الفعال لمكافحة المرض في الدول العربية.