آخر الأخبار

هل تضطر واشنطن لمحاكاة “استراتيجية بكين” لإنقاذ قوتها الاقتصادية؟

شارك

لم يعد الجدل في واشنطن يدور حول ما إذا كانت أميركا أخطأت في الرهان على "تحويل" الصين إلى ديمقراطية ليبرالية عبر التجارة الحرة، بل حول ما الذي ينبغي فعله الآن بعد اتضاح فشل هذا الرهان.

فبحسب تحليل لـ"بلومبيرغ"، فإن الحزب الشيوعي الصيني لم يُخفِ يوما إستراتيجيته بعيدة المدى، ولم ينحرف عنها طوال 4 عقود، مستخدما الإصلاح الاقتصادي لا لتقويض حكم الحزب الواحد، بل لتعزيزه في الداخل وتوسيع نفوذ الصين في الخارج.

ووفق بلومبيرغ، فإن الخطأ الأميركي لم يكن في سوء تقدير نيات بكين فحسب، بل في الإصرار على قراءة التجربة الصينية من منظور أيديولوجي، بدل التعامل معها كنموذج براغماتي لبناء القوة.

ويرى التحليل أن الوقت قد حان لكي تتوقف أميركا عن التباكي على ما لم تصبح عليه الصين، وأن تبدأ بدلا من ذلك بمحاكاة ما فعلته بكين لتعزيز نظامها الاقتصادي والسياسي.

إستراتيجية صينية معلنة واستخفاف أميركي

وتشير بلومبيرغ إلى أن قادة الصين كانوا واضحين منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي بشأن هدفهم الإستراتيجي. فبعد قمع احتجاجات ساحة تيانانمن في يونيو/حزيران 1989، حذّر دنغ شياو بينغ من أن التخلي عن حكم الحزب الواحد سيحوّل الصين إلى "تابع" للغرب.

مصدر الصورة صعود الصين السريع جاء نتيجة انشغال أميركا لا نتيجة اندماجها في النظام الليبرالي (أسوشيتد)

وبعد أشهر قليلة، حدّد المهمة الإستراتيجية طويلة الأجل للصين بأنها "مناهضة الهيمنة وسياسات القوة"، في إشارة مباشرة إلى النفوذ الأميركي، والعمل على "إقامة نظام سياسي واقتصادي دولي جديد".

وبحسب بلومبيرغ، فإن هذه التصريحات لم تكن سرية، ومن غير المرجح أن تكون أجهزة الاستخبارات الأميركية قد غفلت عنها. غير أن صناع القرار في واشنطن استخفوا بها، معتبرين أن دمج الصين في النظام الليبرالي العالمي يمثل رهانا منخفض المخاطر، خصوصا في ظل الفجوة الاقتصادية الهائلة آنذاك، إذ لم يتجاوز الناتج المحلي الصيني عام 1992 نحو 6.5% من نظيره الأميركي بالقيمة الدولارية.

الحروب الأميركية والفرصة الصينية

تلفت بلومبيرغ إلى أن لحظة "الغرور" الأميركي الحقيقية لم تكن مرتبطة بالصين، بل بخيارات واشنطن بعد عام 2001. فعلى الرغم من أن إدارة جورج دبليو بوش رصدت مبكرا صعود الصين كتهديد إستراتيجي، اختارت في الوقت نفسه الانخراط في مشروع "تغيير الأنظمة" في العراق، ثم الغرق في حربي العراق وأفغانستان.

إعلان

وتشير بلومبيرغ إلى أن هذه "الحروب الأبدية" كلّفت الولايات المتحدة نحو 3 تريليونات دولار، واستنزفت طاقتها السياسية والعسكرية لعقد كامل، بينما استغلت الصين هذا الانشغال لتقليص الفجوة الاقتصادية بسرعة. فبحلول نهاية ولاية بوش الثانية، ارتفع الناتج المحلي الصيني إلى نحو 32% من الناتج الأميركي، ليس نتيجة "الاندماج" بقدر ما كان ثمرة انشغال واشنطن.

من المواجهة إلى إعادة بناء الداخل

وبحسب بلومبيرغ، فإن إدارة دونالد ترامب الأولى حاولت تصحيح المسار عبر المواجهة المباشرة مع الصين "في كل اتجاه"، وهو رد مفهوم لكنه، في نظر التحليل، لا يقل خطأ عن سذاجة الإدارات السابقة. فسياسة تبادل الاتهامات لا تعالج نقاط الضعف الداخلية، بينما تؤدي المواجهة الدائمة إلى رفع مخاطر صدام كارثي.

مصدر الصورة محاولة دونالد ترامب في ولايته الأولى لتصحيح السياسة تجاه الصين جاءت كردّ فعل حاد على عقود من الرهان الأميركي المخطئ (أسوشيتد)

وتقترح بلومبيرغ بدلا من ذلك استلهام "البصيرة المركزية" لدنغ شياو بينغ، الذي رأى أن الاستقرار شرط مسبق للتحديث الاقتصادي، وأن الشعار الأهم هو "إنهاء الفوضى والعودة إلى المسار الصحيح".

وبالمثل، تحتاج أميركا اليوم إلى "ترتيب بيتها الداخلي" عبر:


* إعادة بناء القاعدة الصناعية
* تعزيز الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا
* إصلاح نظام التعليم
* تقليص العجوزات المالية غير المستدامة

صفقات مؤقتة بدل أوهام كبرى

ويشدد تحليل بلومبيرغ على أن على القادة الأميركيين التخلي عن أوهام "تحويل الصين إلى ديمقراطية" أو استعادة الهيمنة الأميركية الكاملة كما في تسعينيات القرن الماضي.

وبدلا من ذلك، يُنصح باللجوء إلى صفقات ظرفية مرنة، شبيهة بالهدنة التجارية الهشة التي أبرمها ترامب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وتقر بلومبيرغ بأن مثل هذه الصفقات لا يمكن تسويقها كـ"انتصارات حاسمة"، لكنها تسهم في الحفاظ على توازن هش في التنافس، وتجنّب خسائر جسيمة، مثل الاضطرابات الاقتصادية الواسعة التي قد تنتج عن حظر المعادن النادرة أو انهيار التجارة الثنائية.

السباق التكنولوجي.. الخطر الحقيقي

وتحذّر بلومبيرغ من أن الفجوة بين أميركا والصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا تتقلص بوتيرة سريعة، فوفق بيانات المؤسسة الوطنية للعلوم، تراجعت حصة الحكومة الفدرالية من تمويل البحث والتطوير من 28% إلى 18% بين عامي 2012 و2022.

وفي المقابل، أنفقت الصين العام الماضي أقلّ من الولايات المتحدة على البحث والتطوير بنحو 40 مليار دولار، ما يضع الريادة التكنولوجية الأميركية موضع شك إذا استمر هذا الاتجاه.

مصدر الصورة تقلص الفارق في الإنفاق على البحث بين الصين وأميركا مؤشر خطر إستراتيجي لا تفصيلي (شترستوك)

كما تؤكد بلومبيرغ أن تقليص دعم الطاقة النظيفة، أو تشديد القيود على هجرة الكفاءات، ولا سيما تأشيرات إتش-1بي، قد يؤدي إلى خسارة أميركا تفوقها في مجالات ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والمواد المتقدمة، في وقت تعاني فيه الصين من شيخوخة سكانية متسارعة.

اللعب على المدى الطويل

وتخلص بلومبيرغ إلى أن الدرس الأهم من التجربة الصينية هو أن "اللعب على المدى الطويل ينجح". وإذا كان على الصين أن تصبر لعقود حتى تحصد ثمار إستراتيجيتها، فإن الدور اليوم على أميركا لكي تُحسن استغلال الوقت، وتتجنب مغامرات عسكرية خارجية مكلفة، وتعيد تركيز مواردها على الداخل.

إعلان

وتختم بلومبيرغ بالقول إن "الرهان الحقيقي ليس في احتواء الصين، بل في إنقاذ القدرة الأميركية على التجدد"، معتبرة أن تقليد التجربة الصينية في الانضباط الإستراتيجي، لا في النموذج السياسي، قد يكون أفضل طريق أمام واشنطن إذا كانت فعلا تريد أن "تعود عظيمة".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار