آخر الأخبار

هل نشهد نهاية الإمبراطورية الاقتصادية الأميركية؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

ربما تُعد فترة رئاسة ريتشارد نيكسون للولايات المتحدة الأميركية من أبرز المراحل في التاريخ الحديث، فقد ارتبط اسمه بعدد من الملفات الحساسة والقرارات المفصلية التي غيّرت مسار العلاقات الدولية والتاريخ السياسي والاقتصادي.

ففي خطوة تاريخية غير مسبوقة، أصبح نيكسون أول رئيس أميركي يزور جمهورية الصين الشعبية عام 1972 منهيا أكثر من عقدين من القطيعة الدبلوماسية، ومؤسسا لديناميكية إستراتيجية جديدة أعادت رسم ملامح الحرب الباردة .

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 انتعاش حذر في سوق السيارات الألماني مدفوعا بصعود المركبات الكهربائية
* list 2 of 2 الذهب ينتعش ومساع لاقتناص صفقات قبل بيانات أميركية end of list

عقب زيارته إلى بكين، توجه نيكسون إلى موسكو حيث وقّع مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية (SALT I) ومعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية (ABM) وهما أول اتفاقيتين شاملتين للحد من الأسلحة النووية بين القوتين العظميين آنذاك.

أما في فيتنام ، فقد انتهج نيكسون سياسة "الفتنمة"، أي سحب القوات الأميركية تدريجيا ونقل مسؤولية القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، وهي سياسة أفضت في النهاية إلى توقيع اتفاقيات باريس للسلام عام 1973 التي أنهت التدخل العسكري الأميركي المباشر.

وفي عهده أيضا، شهد العالم حدثا تاريخيا تمثل في نجاح مهمة "أبولو 11" التي هبط خلالها نيل أرمسترونغ وباز ألدرين على سطح القمر في يوليو/تموز 1969، لتدخل البشرية بذلك عصر الفضاء فعليا.

واختُتمت رئاسة نيكسون بفضيحة " ووترغيت " التي ظلت تلاحق اسمه حتى طغت على إنجازاته السياسية والدبلوماسية، لتصبح تلك الفضيحة العنوان الأبرز في إرثه السياسي.

فك ارتباط الدولار بالذهب

ورغم ما شهدته سنوات حكمه من قرارات مصيرية وإنجازات تاريخية وأزمات وفضائح مدوية، فإن أخطرها على الإطلاق ربما كان قراره عام 1971 بـ"فك ارتباط الدولار بالذهب"، حين أعلن إنهاء قابلية تحويل الدولار إلى المعدن النفيس وفرض ضوابط على الأجور والأسعار.

شكّل ذلك القرار نقطة تحول مفصلية أنهت نظام "بريتون وودز" الذي حكم النظام المالي العالمي لعقود بعد الحرب العالمية الثانية ، ومهد لعصر جديد أصبحت فيه الثقة بالاقتصاد الأميركي هي الضمانة الوحيدة لقيمة الدولار.

إعلان

صدمة نيكسون

كان قرار الرئيس ريتشارد نيكسون بفك ارتباط الدولار بالذهب بدافع اقتصادي بحت، إذ كانت الولايات المتحدة آنذاك تعاني من مشاكل اقتصادية حادة، بعدما استنفدت قدرتها على طباعة دولارات مدعومة بالمعدن النفيس، فلم يتبق في خزائنها سوى نحو 8 آلاف طن من الذهب وفقا لمنصة "بالذهب نثق" (In Gold We Trust)، بينما كانت البلاد تغرق في حالة من الركود التضخمي هي الأسوأ منذ الكساد الكبير .

وفي ستينيات القرن الماضي، بدأت الصادرات الأوروبية واليابانية تنافس نظيراتها الأميركية بشراسة، فتراجعت حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي، وتقلصت معها الحاجة الدولية إلى الدولار، مما جعل تحويله إلى ذهب خيارا أكثر جاذبية للدول الأجنبية.

وفقا لموقع "تاريخ الاحتياطي الفدرالي" (federalreservehistory.org) أدى هذا التراجع إلى تفاقم عجز ميزان المدفوعات الأميركي، نتيجة الإنفاق العسكري الضخم في حرب فيتنام وتوسع برامج المساعدات الخارجية، ما تسبب في تدفق كميات هائلة من الدولارات إلى خارج البلاد.

وفي المقابل، ظل احتياطي الذهب الأميركي شبه ثابت أو يتناقص، مما جعل حجم الدولارات المتداولة عالميا يتجاوز بكثير ما تملكه الولايات المتحدة من ذهب لتغطيته.

وهكذا وجدت واشنطن نفسها أمام خطر حقيقي يتمثل في إقبال عالمي واسع على استبدال الذهب بالدولار، وتآكل الثقة في قدرة الحكومة الأميركية على الوفاء بالتزاماتها النقدية، وهو ما هدد بانهيار مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية، وهدد الاقتصاد الأميركي نفسه.

بُذلت جهودٌ حثيثة لضبط ميزان المدفوعات الأميركي والحفاظ على نظام "بريتون وودز"، محليا ودوليا، كان من المفترض أن تكون هذه الحلول "حلولا سريعة" ريثما يستعيد ميزان المدفوعات توازنه، لكنها أثبتت أنها تُؤجل الأمر الحتمي الذي جاء بقرار نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب في 15 أغسطس/آب 1971.

معاناة الاقتصاد الأميركي

في البداية، اعتبرت هذه الخطوة نجاحا سياسيا واقتصاديا، ولكن هذه السياسات نفسها أصبحت المحفز الرئيسي للركود التضخمي في سبعينيات القرن الماضي، فقد تسببت في عدم استقرار العملات المعومة، حيث انخفض سعر صرف الدولار الأميركي بمقدار الثلث خلال تلك الفترة.

وعلى مدار الخمسين عاما الماضية، ظل الدولار الأميركي بعيدا كل البعد عن الاستقرار، مع عدة فترات من التقلبات الشديدة وفقا لمنصة "إنفستوبيديا".

ميلاد نظام البترودولار

شهدت سبعينيات القرن الماضي واحدة من أكثر المراحل اضطرابا في التاريخ الاقتصادي الحديث، إذ ارتفعت معدلات التضخم إلى مستويات قياسية، وتعرض العالم لصدمتين نفطيتين متتاليتين.

ومع حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول (رمضان) عام 1973 واستخدام الدول العربية المنتجة للنفط "سلاح النفط" للمرة الأولى والوحيدة في التاريخ، ارتفعت أسعار الخام بشكل غير مسبوق، وواجهت الاقتصادات الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، نقصا حادا في الإمدادات وموجة تضخم خانقة هزت أسس النظام المالي العالمي.

في خضم تلك التحديات، وفي يوليو/تموز 1974، توجه وزير الخزانة الأميركي الجديد آنذاك، ويليام سايمون، إلى السعودية في مهمة إستراتيجية بالغة الأهمية.

إعلان

كان سايمون خبيرا متمرّسا في أسواق النفط والسندات ، وشغل سابقا مناصب عليا في إدارة نيكسون، وكان الهدف الرئيسي لرحلته يتمثل في إعادة بناء النظام المالي العالمي على أسس جديدة تضمن الاستقرار بعد انهيار نظام الذهب، وفقا لمنصة "بالذهب نثق" (In Gold We Trust).

مصدر الصورة الذهب وصل إلى مستويات قياسية فوق 4381 دولارا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي (شترستوك)

خلال تلك الاجتماعات الحاسمة، جرى التوصل إلى اتفاق إستراتيجي تاريخي لصالح الطرفين، غيّر وجه الاقتصاد العالمي لعقود تالية وذلك في إطار من المصلحة المشتركة والتعاون الإستراتيجي، تعهدت السعودية بتسعير صادراتها النفطية بالدولار الأميركي حصريا، مع إعادة استثمار فائض عائداتها النفطية في سندات الخزانة الأميركية .

ومن رحم تلك الصفقة وُلد ما عُرف لاحقا باسم "نظام البترودولار"، وهو نظام عزز استقرار الدولار وجعله مدعوما ليس بالذهب الأصفر، بل بـ"الذهب الأسود".

ومنذ ذلك الحين، بات على جميع دول العالم الاحتفاظ باحتياطيات ضخمة من العملة الأميركية لتسديد فواتير الطاقة، مما كرّس هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي ورسخ نفوذ واشنطن لعقود لاحقة.

الذهب ينهض من جديد

بينما كانت الهيمنة الأميركية لعقود تقوم على قوة الدولار يبدو أن المعادلة بدأت تتغير، فالمعدن الأصفر الذي لطالما كان مقياسا للقيمة والملاذ الأخير في الأزمات، يعود اليوم إلى الواجهة منتقما من العملة الخضراء التي فرضت سطوتها على الاقتصاد العالمي.

وبلغت أسعار الذهب مستويات قياسية فوق 4381 دولارا للأوقية في الـ20 من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن تتراجع قليلا للتماسك عند مستوى 4 آلاف دولار

تحت ضغط الديون الأميركية القياسية، واهتزاز الثقة بالسياسات النقدية الغربية، تتجه البنوك المركزية حول العالم إلى التحوط بالذهب على حساب الدولار، في مشهد يعيد رسم خريطة القوة المالية العالمية ويفتح الباب أمام سؤال كبير:

هل نشهد بداية نهاية الإمبراطورية الأميركية وبزوغ عصر ما بعد الدولرة ؟

البنوك المركزية تقود

للمرة الأولى منذ 3 عقود، أصبحت البنوك المركزية العالمية تمتلك احتياطيات من الذهب تفوق ما تحتفظ به من سندات الخزانة الأميركية، في تحول تاريخي يعكس تبدلا جوهريا في مفاهيم الأمان والسيولة والثقة داخل النظام المالي العالمي وفقا لمنصة فيجيوال كابيتلايست.

وتراجعت مكانة سندات الخزانة الأميركية، التي كانت رمزا للثقة المطلقة، أمام المعدن الأصفر الذي استعاد دوره كملاذ إستراتيجي للأصول الملموسة في ظل تصاعد مخاطر الديون الأميركية وضعف الثقة بالأصول المقومة بالدولار.

ولا يُعد هذا مجرد تحرك مرحلي في الأسواق، بل يعد تحولا هيكليا نحو أصول ذات قيمة حقيقية، إذ واصلت البنوك المركزية شراء الذهب بوتيرة قياسية بلغت 1136 طنا في عام 2022، وهو الأعلى في التاريخ، واستمر الزخم خلال عامي 2023 و2024، وصولا لعام 2025.

بحسب تقارير مجلس الذهب العالمي، واصلت البنوك المركزية تعزيز احتياطياتها من الذهب، إذ أضافت نحو 19 طنا في أغسطس/آب بعد شراء 10 أطنان في يوليو/تموز.

وبوتيرة الشراء الحالية، يُتوقع أن تصل المشتريات السنوية إلى نحو 900 طن من المعدن النفيس، لتسجل بذلك العام الرابع على التوالي الذي تتجاوز فيه المشتريات العالمية ضعف متوسطها التاريخي الطويل الأمد.

مصير نظام البترودولار

يمر الاقتصاد العالمي اليوم بمرحلة تحول عميقة تمثل تراجعا تدريجيا لعصر البترودولار الذي هيمن على النظام المالي الدولي منذ سبعينيات القرن الماضي، ففي ذلك الزمن، كانت الفائدة المرتفعة ووفرة السيولة الدولارية تجذبان مديري الاحتياطيات والمستثمرين حول العالم إلى سندات الخزانة الأميركية بوصفها الملاذ الآمن والأكثر موثوقية.

أما اليوم، فقد بدأت تلك المعادلة تتآكل أمام واقع جديد يتسم بتنامي الدعوات إلى إلغاء الدولرة (De-Dollarization)، وعودة الثقة إلى الذهب بوصفه ركيزة بديلة للنظام المالي العالمي.

إعلان

ورغم أن مصطلح البترودولار يُشير في جوهره إلى تسعير النفط بالدولار الأميركي، فإن دلالته الاقتصادية أعمق بكثير؛ فآلية إعادة تدوير عائدات النفط عبر شراء الدول المُصدرة للنفط سندات الخزانة الأميركية شكّلت لعقود أحد أهم أعمدة تمويل العجز التجاري للولايات المتحدة، كما منحت واشنطن قوة مالية استثنائية مكّنتها من تمويل نفقاتها الخارجية من دون المساس بثقة العالم في عملتها.

وساعدت هذه الدورة المغلقة من الدولارات النفطية أميركا على ترسيخ نفوذها الاقتصادي عالميا كما تقول الكاتبة والباحثة الاقتصادية كارلا نورلوف في مقالة لها بمنصة بروجيكت سينديكت (Project Syndicate).

إلا أن سندات الخزانة الأميركية بدأت تفقد بريقها مع تضخم الديون الأميركية التي تجاوزت 38 تريليون دولار، في رقم غير مسبوق بتاريخ البشرية، ومع تصاعد العجز المالي وتراجع الثقة بالعملة الأميركية، يلوح في الأفق احتمال نشوء أزمة اقتصادية عالمية لا يستطيع حتى البترودولار احتواءها.

ووسط هذا المشهد، تبدو البنوك المركزية العالمية وكأنها تستعد لدخول الحلبة كملاكمين حاسمين في الجولة الأخيرة من معركة "الدولرة"، عبر تكثيف مشترياتها القياسية من الذهب وتبني سياسات احتياطية أكثر تنوعا، ما قد يُوجه الضربة القاضية لنظام البترودولار الذي حكم العالم لأكثر من نصف قرن.

لماذا تشتري البنوك المركزية الذهب؟

تطبع البنوك المركزية النقود، وبخاصة المركزي الأميركي، من دون حسيب أو رقيب لتغطية العجز في مدفوعاتها، لكنها كلما طبعت المزيد من النقود تآكلت قيمتها، وعلى سبيل المثال انخفضت قيمة العملة الأميركية بنسبة 9.75% منذ بداية العام مقابل سلة من عملات شركاء التجارة الرئيسيين، وفقا لوكالة رويترز.

ومع طباعة المزيد من النقود يزداد جبل الديون العالمي الذي سجل مستوى قياسيا مرتفعا عند 337.7 تريليون دولار في نهاية الربع الثاني من عام 2025، وفقا لمعهد التمويل الدولي.

هذا الارتفاع المستمر بالديون، والانخفاض المتواصل في قيمة الدولار، وتآكل الثقة في سندات الخزانة الأميركية، يدفع البنوك المركزية حول العالم نحو الذهب؛ فهو ليس ورقا يطبع بكبسة زر، بل مخزنا تاريخيا للقيمة التي لا تتآكل بمرور الوقت بل تزداد قيمته على مر السنين.

وتقليديا، كانت البنوك المركزية تحتفظ بمعظم احتياطياتها بالعملات العالمية الرئيسية، وخاصة الدولار الأميركي طوال الخمسين سنة الماضية من هيمنة البترودولار، واليوم، تتغير المعادلات.

يقول دانييل بوسطن، مؤسس شركة بريزيرف غولد، إن "الاحتفاظ بالذهب يقلل الاعتماد على أي أصل أو عملة واحدة" وفقا لشبكة "سي بي إس نيوز" (CBS News).

ويشير رئيس شركة ديلون غيج ميتالز، تيري هانلون، إلى أن "الذهب المادي يمنح البنوك المركزية أصلا يعمل خارج النظام المصرفي التقليدي"، وهو نظام صار مهددا أكثر من أي وقت مضى.

وعلى عكس النقود الورقية، لا يمكن طباعة الذهب ببساطة؛ يقول مدير العمليات والمؤسس المشارك لشركة أليجانس غولد، لتجارة المعادن النفيسة، أليكس إبكاريان فهو "نادر، ويصعب استخراجه، ومعروضه محدود".

حافظ الذهب على قيمته على مر القرون، كما يقول بوسطن، ويفسر هذا السجل الحافل امتلاك البنوك المركزية حول العالم لأكثر من 36 ألف طن متري من الذهب في خزائنها وفق رويترز، فعندما تتغير الظروف الاقتصادية، توفر هذه الاحتياطيات أساسا للاستقرار.

واليوم، كما حاول نيكسون في السبعينيات تأجيل سقوط النظام المالي القديم، يحاول دونالد ترامب إنقاذ نظام البترودولار والحفاظ على هيمنة الاقتصاد الأميركي عبر حروب تجارية ورسوم جمركية.

ومع ذلك، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فالعالم يشهد بداية نهاية عصر الهيمنة الأميركية، وبزوغ نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب تلعب فيه الصين ودول الجنوب العالمي دورا محوريا متزايد القوة والتأثير.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار