آخر الأخبار

اقتصاد الظل في غزة.. تجارة تزدهر على حساب الجائعين

شارك

غزة- في إحدى أسواق مخيم الشاطئ بمدينة غزة ، يقف أبو أحمد، صاحب متجر بقالة ورثه عن والده منذ 20 عاما، أمام أرفف فارغة. يروي بحزن كيف تحولت تجارته من مصدر رزق مستقر لأسرته، إلى عبء ثقيل يهدد قوت يومهم.

"منذ بدء الحرب تغيّر كل شيء، لم يعد السوق سوقا، ولم تعد القوانين هي القوانين. هناك من يحتكر البضائع بالتنسيق مع الاحتلال، يرفع الأسعار كيفما شاء، ونحن الصغار لا نملك إلا أن نشتري منهم ونبيع للناس بأضعاف مضاعفة"، يقول أبو أحمد للجزيرة نت.

اقرأ أيضا

list of 4 items
* list 1 of 4 المجاعة مستمرة في غزة والمساعدات تفشل في ضبط الأسواق
* list 2 of 4 إسرائيل تسمح بدخول السلع التجارية جزئيا إلى غزة
* list 3 of 4 أزمة السيولة في غزة.. "هندسة التجويع" وسلاح الاحتلال الصامت من القصف إلى الجوع
* list 4 of 4 الدفع الإلكتروني يخفض عمولة تجار السيولة في غزة end of list

تجار على حافة الإفلاس

يضيف أبو أحمد "كيف أشرح لزبون يريد كيس طحين أن سعره تضاعف 4 مرات، إذ دخله ما زال معدوما؟" ويؤكد أن ما يعيشه يوميا هو صورة حقيقية لـ"اقتصاد الظل" الذي يلتهم القطاع من الداخل.

ويتابع "الناس يلوموننا نحن الباعة الصغار، بينما الحقيقة أن السوق يُدار من فوق، من تجار يتحكمون في دخول المواد، ونحن مجرد وسطاء مضطرين. في بعض الأيام أتمنى أن أغلق السوبر ماركت، لأن الخسارة صارت أكبر من الربح".

مصدر الصورة أسواق غزة تعاني من شح كبير في السلع (الجزيرة)

وأغلق جيش الاحتلال المعابر في وجه المساعدات الإنسانية والبضائع في الثاني من مارس/آذار 2025، ولم يفتحها إلا جزئيا في أغسطس/آب الماضي، وحينذاك سمح بدخول عدد محدود جدا من الشاحنات لا يكفي غير 15% من حاجات القطاع.

وغالبا ما تتعرض هذه المساعدات للنهب من قبل عصابات منظمة على طرق الدخول. في حين تدخل بعض البضائع للأسواق بالتنسيق مع تجار يتعاونون مع الاحتلال، فيرفعون أسعارها بشكل مبالغ فيه وسط انعدام قدرة الحكومة الغزية على مراقبة الأسواق، يقول مراقبون.

ولادة اقتصاد الظل

ترعرع اقتصاد الظل في غزة خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، ويقول الكاتب والباحث الاقتصادي في الشأن الفلسطيني، حامد جاد، إن الحروب دائما تولّد اقتصادا موازيا "ينشأ هناك اقتصاد ظل، تنشأ أسواق ومعاملات مالية بلا أي أسس قانونية. في هذه الحرب دخل أشخاص لم يكونوا تجارا أصلا إلى عالم البزنس. رجل صناعة صار يبيع مواد غذائية، وآخر يبيع أدوية، فقط بحثا عن الربح السريع".

إعلان

ويتابع للجزيرة نت: "المعايير التجارية التي عرفناها قبل هذه الحرب غابت تماما. الاحتلال سمح بإدخال البضائع لشركات محدودة، لا تتجاوز 10 إلى 15 شركة، وهذه الشركات احتكرت السوق بالتعاون مع أعوانها داخل غزة. والنتيجة: الأسعار صارت غير حقيقية، والناس صاروا أسرى لجشع فئة صغيرة".

أبو وائل عدنان، أحد هؤلاء "التجار الجدد"، يقول صراحة "لم أكن يوما تاجرا، كنت أملك ورشة صغيرة للنجارة. لكن مع الحرب توقفت أعمالي، فدخلت تجارة توريد المواد الغذائية عبر معارف ينسقون مع الاحتلال".

ويضيف للجزيرة نت "صحيح أنني ربحت، لكنني أدرك أنني صرت جزءا من شبكة غير عادلة. أنا أسوغ لنفسي بأنني أُطعم أولادي، لكن في داخلي أعرف أنني أشارك في لعبة قاسية على حساب الفقراء بعد تدمير الاحتلال للاقتصاد الفلسطيني في غزة".

دمار القطاعات الحيوية

يشرح الاقتصادي حامد جاد كيف دمرت سلطات الاحتلال كافة مكونات الاقتصاد الغزي على مدار عامين من الحرب، فـ"كل القطاعات الاقتصادية ضُربت في مقتل. قطاع الإنشاءات كان الأكثر تضررا. نتحدث عما لا يقل عن 100 ألف وحدة سكنية دُمّرت كليا، وأكثر من 200 ألف أخرى تضررت جزئيا. ونسب الدمار في بعض المناطق وصلت إلى 90%. هذا يعني أن البنية التحتية التي كانت أساس الحركة الاقتصادية قد انهارت بالكامل".

ويضيف أن الزراعة جاءت في المرتبة الثانية من حيث حجم الضرر فـ"الأراضي الزراعية لم تُدمَّر فقط، بل تلوثت بعشرات آلاف الأطنان من المتفجرات. أي محصول يُزرع الآن قد يكون مسمما. وهذا يعني أن أثر الدمار سيمتد سنوات طويلة، وبالتالي قد تنعدم الزراعة في غزة في المستقبل القريب.

ويؤكد المزارع أبو سامي من رفح كلام جاد: "كنت أزرع البندورة والخيار، وأعيل عائلتي المكونة من 9 أفراد، الآن أرضي محروقة، ورائحة البارود ما زالت عالقة في التراب. جربت أن أزرع قليلا، لكن الشتلات ماتت بعد أيام. كيف أعيش بلا أرض ولا عمل؟".

قطاع السياحة والمنشآت السياحية -بحسب جاد- لم يعد له وجود أصلا، أما الخدمات الصحية والإنسانية، فقد طالتها أضرار جسيمة، ولم ينجُ أي مرفق من الدمار الكلي أو الجزئي.

وبالمجمل "لم يعد هناك أي مكان سياحي في غزة. فمعظم أو كل الفنادق والمزارات السياحية تمت تسويتها بالأرض".

مصدر الصورة من أخطر صور اقتصاد الظل هي تحول (الكاش) نفسه إلى سلعة للبيع في غزة حسب الاقتصادي حامد جاد (الفرنسية)

تجارة النقود.. الكاش أغلى من الذهب

من أخطر صور اقتصاد الظل التي يرصدها جاد هي تحول "النقد" (الكاش) نفسه إلى سلعة فـ"من لديه سيولة نقدية صار يتحكم بالسوق. 100 شيكل كاش يمكن أن تُباع بـ130 أو 140 شيكلا. بمعنى أن العملة نفسها تباع وتشترى".

هذه الظاهرة ارتبطت بتعطل البنوك ونقص السيولة لأكثر من عام ونصف. فأصبح التاجر يبيع السلعة نفسها بسعر مختلف بحسب طريقة الدفع، فـ"إذا دفعت كاش تأخذها بـ100 شيكل، إذا دفعت عبر التطبيق تدفع 150″.

يتحدث محمود، شاب ثلاثيني يعمل في بيع الكاش، عن حجم المأساة التي دفعت شبابا كثر إلى هذه التجارة، "أنا لا أملك متجرا ولا بضاعة أبيعها. حياتي كلها انقلبت إلى بيع وشراء النقود. أشتري رصيد البنك من الناس الذين لا يستطيعون سحب أموالهم، وأبيعه نقدا بفارق كبير".

إعلان

يتوقف قليلا ثم يضيف للجزيرة نت "أعلم أن هذا يبدو استغلالا، لكنني أنا نفسي محاصر في هذه اللعبة. منذ توقفت البنوك، لم يعد أمامنا سوى هذا الطريق. في البدء كنت أساعد أصدقائي ومعارفي، ثم كبرت الدائرة وصرت أتعامل مع غرباء، حتى أصبحت هذه مهنتي الوحيدة".

محمود لا يخفي شعوره بالعار، "أسمع الشتائم كل يوم. البعض ينادينا مصاصي دماء، والبعض الآخر يتعامل معنا وهو يلعننا في قلبه. أحيانا لا أنام ليلا من التفكير. نحن لسنا وحوشا، نحن مجرد أشخاص نحاول أن نجد طريقة للبقاء".

"أنا نفسي دفعت الثمن. فقدت ثقة كثير من الجيران والأصدقاء. ينظرون إلي وكأني أستغل معاناتهم. لكن الحقيقة أننا جميعا ضحايا. هذه السوق السوداء لم نصنعها نحن، بل صنعتها الحرب والحصار، ونحن مجرد أدوات عالقة بين الحاجة والخوف"، يضيف محمود.

أسعار خيالية واحتكار متعمد

يشير جاد إلى أن الاحتلال سمح أحيانا بإدخال بعض البضائع التجارية، لكن النتيجة كانت انفلاتا كاملا، فـ"في مراحل معينة كانت السلعة تباع بـ10 أضعاف قيمتها الحقيقية. الآن الأسعار أقل قليلا، لكنها ما زالت 3 أو 4 أضعاف".

و"البضائع محدودة الأصناف، معظمها معلبات وبقوليات ودقيق وسكر. إذ اللحوم والأسماك والسلع ذات القيمة الغذائية الحقيقية لا تدخل. هذا ليس عجزا فقط، بل سياسة واضحة تهدف إلى حرمان الفلسطيني من الغذاء المتوازن"، يسرد جاد.

تقول أم أحمد علوان، ربة منزل من غزة: "أشتري كيلو العدس بـ20 دولارا، ثم أعود لأجد أطفالي يسألونني: ماما هل هناك لحمة اليوم؟ أضحك وأنا أقول لهم: العدس فيه بروتين. لكن في داخلي أبكي. الأسعار نار، والدخل معدوم. وحتى لو توفرت السلعة، فنحن لا نملك ثمنها".

وتضيف للجزيرة نت: "كنا في الماضي نعد وجبات بسيطة، لكن على الأقل متنوعة. اليوم نعيد الطبق نفسه يوما بعد يوم. طفلي الصغير صار يرفض الطعام أحيانا لأنه ملّ من الطعم نفسه. أشعر بالعجز وأنا أرى عيونهم تبحث عن شيء غير موجود. الحرب لم تترك لنا طعاما ولا شيء، وكل يوم نكابد معركة جديدة من أجل وجبة واحدة تسد الجوع".

مصدر الصورة باعة يعرضون كميات ضئيلة جدا من السلع بأسواق غزة (الجزيرة)

غياب المؤسسات وتحوّل القيم

يتنامى اقتصاد الظل في غزة وسط غياب كامل للمؤسسات الحكومية، في حين تكتفي المنظمات الأهلية والإنسانية بالمناشدات لتغيير الوضع القائم.

يشرح جاد "ما يجري لا يتجاوز مناشدات ومحاولات محدودة من المنظمات الأممية. أما المؤسسات الحكومية فقد غابت كليا، سواء التابعة للسلطة أو حتى لحركة حماس . وحتى في الأوقات التي تدخلت فيها بعض الجهات، فإنها لم تغير الصورة".

ويضيف أن بعض القيم المجتمعية نفسها تغيّرت فـ"في السابق كانت هناك معاملات إنسانية بين التجار والمستهلكين. اليوم تحكمت عقلية الابتزاز، التحكم بالأسعار، حجب السلع وترويجها متى يشاؤون. هذا ابتزاز مالي كامل".

الناشطة المجتمعية، ألينا اليازجي، تعكس هذا الواقع بقولها "كنا نعرف السوق الشعبي في غزة مكانا يتنفس فيه الفقراء. اليوم صار ساحة للابتزاز. امرأة جاءتني تبكي لأنها اضطرت أن تدفع 3 أضعاف سعر الدواء لطفلها، إذ الصيدلي يسوغ بأن الاحتلال هو السبب.. أين الرحمة؟".

"لم يعد السوق مجرد مكان للبيع والشراء، بل أصبح مرآة للانكسار. كل امرأة تقف أمام البائع تحمل في قلبها سؤالا موجعا: هل ستكفي النقود لما تحتاجه أسرتها؟ رأيت أمهات يساومن التجار على حفاضات أو حليب أطفال كما لو أنهن يساومن على قطعة قماش، إذ البائعون يتعاملون ببرود، كأن هذه الأرواح مجرد زبن عابرة"، تضيف اليازجي.

و"المؤلم أن بعض هؤلاء التجار ليسوا أغنياء تقليديين، بل أشخاص عاديون قرروا أن يصيروا تجار حرب. يستغلون الحاجة وينسون أن الجوع والمرض لا يتركان لأحد كرامة. في السوق الشعبي اليوم لا يعلو صوت فوق صوت الاستغلال، إذ الفقراء هم الضحية الدائمة".

مصدر الصورة جيش الاحتلال أغلق المعابر في وجه المساعدات الإنسانية والبضائع في الثاني من مارس/آذار 2025 ولم يفتحها إلا جزئيا في أغسطس/آب الماضي (الجزيرة)

ثروات من الحرب

"في كل حرب يظهر تجار أزمات"، يقول جاد، وهو يراقب المشهد بعين ناقدة فـ"هناك من حقق ثروات طائلة خلال العامين الماضيين، وهناك من انسحق تماما. الخسائر الكلية يصعب حصرها بالأرقام، لأن ما فقدناه لا يُقاس فقط بالمال، بل بالكرامة الإنسانية وحق الناس في عيش كريم. لكن الأكيد أن فئة صغيرة نجحت في تحويل الدم إلى تجارة، بينما الغالبية الساحقة انزلقت نحو الفقر المدقع".

إعلان

يتنهد في غضب ثم يضيف "هذه ليست قصة غزة وحدها، لكنها تتجلى هنا بوضوح أشد. في وقت يُحرم فيه المريض من الدواء، والطفل من كوب الحليب، ترى البعض يكدّس البضائع في مخازنه ليبيعها بعد أسبوع بأضعاف مضاعفة. إنها منظومة جشع تتغذى على الحرب، وتجد في معاناة الناس فرصة استثمارية".

أبو حاتم عبد العزيز، موظف سابق خسر عمله بعد تدمير مصنع الملابس الذي كان يعمل فيه بمدينة خان يونس ، يوضح الصورة أكثر: "أرى يوميا مركبات فارهة تدخل أحياءنا بينما بيوتنا مهدمة. هناك من اغتنى في الحرب، وأنا لا أملك ثمن رغيف خبز لأولادي. هذا ظلم مضاعف: ظلم الاحتلال الذي يحاصرنا، وظلم من يستغل حاجتنا ليبني مجده الخاص".

ويضيف للجزيرة نت: "في زمن القصف، كنا نتقاسم اللقمة بين الجيران، أما اليوم فقد صار الجار نفسه يقف عاجزا أمام أبواب التجار. البعض لم يعد يرى فينا غير زبائن ضعفاء يمكن ابتزازهم".

الإعمار.. عجز محلي ورهان على الخارج

وبشأن إمكانية توظيف اقتصاد الظل في جهود إعادة الإعمار، بيّن الاقتصادي جاد أن ذلك يفوق قدرة الشركات المحلية حتى لو كانت فاحشة الثراء فـ"ما دُمر يحتاج عشرات المليارات. نحن نتحدث عن خسائر لا تقل عن 60 أو 70 مليار دولار".

ويضيف: "الشركات المحلية لا تستطيع إعادة أكثر من 5% من الدمار. الحل سيكون عبر شركات خارجية، وخاصة مصرية، لما لها من خبرة وإمكانات. دون دعم خارجي لن يكون هناك إعمار حقيقي".

ويؤكد المهندس الغزي خالد شحادة رؤية جاد: "نحن نملك العقول، لكننا لا نملك المعدات. نحتاج شراكة حقيقية مع الشركات المصرية والدولية. وإلا فإن الخراب سيظل شاخصا لسنوات".

ويقول للجزيرة نت: "المشكلة ليست في إعادة بناء الحجر فقط، بل في استعادة الثقة. الناس اليوم يعيشون بين الركام، وأطفالهم يتعلمون في صفوف مؤقتة. إذا لم يبدأ الإعمار بخطوات عملية وشفافة، فإن جيلا كاملا سيفقد الأمل في العودة إلى حياة طبيعية".

ويضيف "نحن كمهندسين قادرون على وضع التصاميم والخطط، لكن التنفيذ يحتاج إلى موارد ضخمة وأدوات لا نملكها. لذلك، فإن أي مشروع إعمار جاد لا بد أن يكون نتاج تعاون إقليمي ودولي يضع مصلحة غزة قبل حسابات الربح".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار