طهران – منذ تصويت مجلس الأمن الدولي، يوم الجمعة الماضي، لصالح إعادة فرض العقوبات على طهران إثر تفعيل الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) آلية الزناد ، أظهرت الأسواق الإيرانية ردود فعل متسرعة، رغم أن القرارات الأممية السابقة لم تُستأنف بعد.
وعلى النقيض من الدعاية الإعلامية الواسعة التي روّجت لتقديرات رسمية وآراء محللين وباحثين إيرانيين، والتي أكدت أن العقوبات الأميركية المفروضة خلال السنوات الأخيرة كانت وما زالت أوسع نطاقا وأكثر صرامة، وذات ضمان تنفيذي أقوى مقارنة بالعقوبات الأممية المزمع إعادتها، فقد شهدت بعض الأسواق الإيرانية ردود فعل وُصفت بـ"الهستيرية" -وفق مراقبين- خلال الساعات الماضية.
وقد أظهرت البيانات الرسمية ارتفاعا ملحوظا في أسعار الذهب والعملات الصعبة، مقارنة بالفترة التي سبقت فشل مجلس الأمن في تبني مشروع قرار بتمديد تعليق العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية، في حين سجلت بورصة طهران تراجعا حادا خلال تداولات اليومين الماضيين.
وبعد أن استقر المؤشر العام لبورصة طهران في نهاية جلسة تداولات يوم الأربعاء الماضي -آخر جلسة قبل تصويت مجلس الأمن لصالح إعادة العقوبات- عند مليوني و992 نقطة، فقد تراجع 50 ألفا و666 نقطة يوم السبت الماضي، ثم انخفض مجددا بمقدار 38 ألفا و247 نقطة بنهاية جلسة الأحد، وواصل وتيرة التراجع حتى استقر عند مليوني و544 نقطة في نهاية جلسة تداولات اليوم الثلاثاء.
في المقابل، اضطربت العملة الإيرانية مع تزايد احتمالات تفعيل آلية الزناد وعودة العقوبات الأممية، إذ قفز الدولار الأميركي من 980 ألفا و800 ريال إيراني يوم الجمعة الماضي إلى مليون و600 ريال في السوق غير الرسمية حتى مساء الأحد الماضي، قبل أن يتراجع إلى مليون و300 ريال عصر اليوم الثلاثاء.
وإلى جانب صعود العملة الخضراء وأسعار السيارات في طهران، شهدت أسعار الذهب ارتفاعا لافتا خلال الأيام القليلة الماضية، إذ بلغ غرام الذهب عيار 18 نحو 93 مليونا و330 ألف ريال حتى عصر اليوم الثلاثاء، فيما سجل اليورو مليونا و200 ألف، وفق ما رصدته مكاتب الصيرفة في ساحة فردوسي وسط العاصمة.
وتجمع الأوساط الإيرانية على أن التدهور السريع في الأسواق يفتقر إلى أساس اقتصادي قوي، معتبرة إياه رد فعل هستيري لتفعيل آلية استعادة العقوبات.
ومع ذلك، تنقسم الآراء بشأن تداعياته ووتيرة استمراره، إذ ترى شريحة من المراقبين أنه -وفق التجارب السابقة- فإن مثل هذه التقلبات عادة ما تكون مؤقتة، وأن الأسواق ستستعيد هدوءها بعد فترة وجيزة، بينما يخالف آخرون هذا الرأي.
ويرى الباحث الاقتصادي وعضو غرفة إيران للصناعة والتجارة زين العابدين هاشمي أن آلية استعادة العقوبات لا تمثل مجرد بند قانوني في الاتفاق النووي لعام 2015، بل تُعد تهديدا وجوديا للاستقرار المالي والاجتماعي، كونها تبرر إعادة العقوبات الأممية على طهران، وهو ما يضع الأخيرة أمام أصعب اختبار اقتصادي منذ سنوات.
وفي حديثه للجزيرة نت، يشير الباحث الاقتصادي إلى أن تأثير العقوبات الأممية بدأ فعليا قبل تنفيذها، إذ ارتدت بورصة طهران ثوبها الأحمر المعهود، فيما قفز الذهب والدولار إلى مستويات قياسية، وتحولت العملات الرقمية إلى ملاذ آمن للمواطنين القلقين على مدخراتهم.
ولا يستبعد هاشمي أن تفقد بلاده كميات كبيرة من صادرات النفط والبتروكيمياويات، بما يعني خسائر إضافية بمليارات الدولارات، ويضيف أن العقوبات الأممية سوف تمنح خصوم إيران ذريعة لممارسة الضغط على دول أخرى من أجل منعها من التعاون الاقتصادي مع إيران.
كما يرى أن تزايد الضغوط الدولية على مبادلات إيران المالية، وارتفاع تكاليف التحويلات عبر الوسطاء، وتراجع السياحة، ستكون من أبرز التداعيات المباشرة لعودة العقوبات، فضلا عن تسارع هروب رؤوس الأموال من البلاد، وتقويض قدرة البنك المركزي على التدخل لدعم العملة الوطنية، وتعثر الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة.
ويخلص عضو غرفة تجارة إيران للصناعة والتجارة إلى أن الاقتصاد الإيراني كان عمليا يرزح تحت ضغوط خانقة منذ الانسحاب الأميركي الأحادي من الاتفاق النووي عام 2018، حين فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات قاسية شملت النفط والمصارف والصناعة والملاحة الجوية والبحرية، ولذلك فإن عودة العقوبات الأممية لا تعني فرض عقوبات جديدة أو غير مسبوقة.
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي علي محمدي، في تصريح للجزيرة نت، أن أهم تأثير لتفعيل آلية استعادة العقوبات يكمن في جانبها النفسي، ويوضح أن الأجواء المشحونة بعودة العقوبات تمنح السماسرة فرصة لإثارة القلق وزيادة الطلب في الأسواق، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
ويشير إلى أن الجزء الأكبر من العقوبات -المزمع عودتها بعد نحو أسبوع- قد تم تفعيله بالفعل منذ عام 2018، لافتا إلى أن الشركاء الأوروبيين أوقفوا تعاملهم الاقتصادي مع طهران منذ سنوات.
وبرأيه، يظهر الاقتصاد الإيراني حساسية فائقة تجاه الأخبار السياسية، ويرجع ذلك إلى هشاشة بنيته الأساسية، فضعف احتياطيات النقد الأجنبي، والاعتماد الكبير على عائدات النفط، وغياب أدوات مالية متطورة لتحييد الأخطار، كلها عوامل تزيد أثر الصدمات النفسية.
ويعتقد محمدي أن التنفيذ العملي للعقوبات الأممية سيواجه عوائق جدية، ناجمة عن معارضة قوى كبرى مثل الصين و روسيا ، فضلا عن تحولات الجغرافيا السياسية العالمية، ولذلك، لن يكون الأثر الإضافي لهذه العقوبات على الشركاء التجاريين الرئيسيين لإيران ملحوظا بشكل كبير.
ويؤكد أن الآثار النفسية للحرب الإعلامية الغربية حول عودة العقوبات ستكون أكبر من الحقائق الاقتصادية، متوقعا أن تكون ردة فعل الأسواق الإيرانية قصيرة الأمد، وأن تُعدّل خلال فترة لاحقة.
وخلص محمدي إلى أن الأسبوعين المقبلين سيشكّلان ذروة الضغط النفسي على الأسواق المالية في طهران، لكن التقلبات المترتبة عليها ستبقى محدودة المدى، ورغم أنها تبدو شديدة، فإنها وحدها لن تغير مسار سعر الصرف على المدى الطويل.
وقبيل الاستعادة العملية للعقوبات الأممية، دخلت الأسواق الإيرانية في دوامة من عدم الاستقرار، لكن يبقى التحدي الأكبر أمام السلطات هو إدارة عنصر "الترقب" الذي يسيطر على الأسواق.
فنجاح السياسات الاقتصادية في الأشهر المقبلة لن يُقاس فقط بقدرة طهران على مواجهة الصدمات الخارجية، بل أيضا بقدرتها على استعادة ثقة الرأي العام الإيراني وكسر حلقة التوقعات السلبية التي تغذيها العوامل السياسية، وفق مراقبين.