في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
لندن – يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر لم ينجح -منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض – فقط في تدبير علاقة بلاده برئيس أميركي صعب المراس، بل استطاع أيضا ضخ دماء جديدة في التحالف التاريخي بين لندن وواشنطن عبر إطلاق شراكة تكنولوجية كبرى بين البلدين في مجال الذكاء الاصطناعي .
ففي الوقت الذي اختار فيه ترامب ألا ينهي زيارته الثانية والتاريخية إلى بريطانيا بتصريحات سياسية صاخبة، مكتفيا بترديد مواقفه التقليدية بشأن الحرب على غزة والحرب على أوكرانيا أو سياسات الدفاع عبر الأطلسي، آثر الرئيس الأميركي أيضا أن يختتم الزيارة بالتوقيع على اتفاقية "الازدهار التكنولوجي" إيذانا بولادة تحالف تقني جديد بين لندن وواشنطن.
وتقود شركة مايكروسوفت حزمة الاستثمار الأميركية الضخمة في بريطانيا، والتي تقدر بـ150 مليار جنيه إسترليني، عبر التزامها بضخ 22 مليار جنيه إسترليني في مجال الذكاء الاصطناعي إلى حدود عام 2028، لإنشاء بنية تحتية للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي في بريطانيا. (الجنيه الإسترليني يعادل 1.35 دولار أميركي)
ووصف رئيس الوزراء البريطاني الصفقة بأنها ليست محض نصر استثماري لبلاده يكسر الأرقام القياسية ويعيد ثقة المستثمرين في السوق البريطانية، ولكنها تحول جديد في العلاقات السياسية والتجارية بين بريطانيا والولايات المتحدة .
كما تعهدت شركة إنفيديا، أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية، بضخ 11 مليار جنيه إسترليني لبدء أكبر عملية لإعادة تأهيل البنية التحتية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في بريطانيا. حيث ستدعم إلى جانب شركات تكنولوجيا أميركية أخرى بناء أكبر حاسوب فائق في بريطانيا بـ23 ألف شريحة ذكاء اصطناعي بالإضافة لإنشاء مراكز جديدة لتخزين البيانات الضخمة، تعد الأكبر في أوروبا.
وتستعد شركة غوغل أيضا لتحريك استثمارات تقدر 5 مليارات جنيه إسترليني خلال عامين في السوق البريطانية عبر تطوير برامج وتقنيات أيضا على ارتباط بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
كما ستعمل شركة "أوبن إيه آي" (OpenAI) على المشاركة في إعادة تأهيل البنية التحتية لمراكز البيانات في سياق مشروع تطوره إلى شركة نيسكا الأميركية عبر بناء منطقة خاصة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي شمال شرق إنجلترا.
وكانت النخب التكنولوجية، التي تقود سباقا عالميا للسيطرة على صناعات وأبحاث الذكاء الاصطناعي، التفت أيضا حول مأدبة العشاء التي أعدها الملك تشارلز لضيف بريطانيا دونالد ترامب ورافقته خلال أطوار الزيارة، في إشارة للدور المحوري الذي يلعبه قادة كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية في بناء التحالف البريطاني الأميركي الجديد.
ويقارن البريطانيون بين هذه الشراكة التقنية الجديدة والتعاون العسكري القوي بين لندن وواشنطن، والذي يبدو أنه لم ينقطع أو يتأثر بالجفاء الذي يطبع علاقة الإدارة الأميركية الحالية بالحلفاء الأوروبيين والغربين، حيث تهدف الصفقات التكنولوجية الأخيرة لمواءمة الإستراتيجية التقنية لكلا البلدين في أفق مواجهة القوى المنافسة وفي مقدمتها الصين .
ويشير مركز أبحاث "TechUK" البريطاني إلى أن قيمة سوق الذكاء الاصطناعي البريطاني بلغت العام الماضي 72.3 مليار جنيه إسترليني، ويعد أكبر سوق في أوروبا من نوعه، لكنه يظل محدودا بالمقارنة مع السوق الأميركي الذي يقدر بـ171 مليار جنيه وينمو بشكل متسارع، في حين تحاول بريطانيا جاهدة الاستفادة من هذه القفزة غير المسبوقة.
ولم يتأخر رئيس شركة "إنفيديا" الأميركية جنسن هوانغ قبل أشهر عن توجيه نقد مباشر وحاد لرئيس الوزراء البريطاني خلال مشاركته في "أسبوع التكنولوجيا بلندن" بسبب ما وصفه ضعف البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في بريطانيا مقارنة بعدد من الدول الأوروبية.
ويفتح هذا التقارب في قطاع الذكاء الاصطناعي بين لندن وواشنطن الباب لوضع الأسس لاتفاق تجاري رقمي دائم بين الجانبين، بعد أن انتزع البريطانيون في وقت مبكر مقارنة بالحلفاء الأوروبيين اتفاقا تجاريا مع الولايات المتحدة لتخفيف الرسوم الجمركية الأميركية.
لكن ما زالت بريطانيا تقاوم الضغوط الأميركية لإلغاء ضريبة الخدمات الرقمية التي تفرضها لندن على نشاط شركات التكنولوجيا الأميركية، وتقدر بـ2% من إيراداتها في الأسواق الرقمية البريطانية.
ويرى ديفيد هينيغ، مدير برنامج السياسات التجارية البريطانية بالمعهد الأوروبي للاقتصاد السياسي، في حديث للجزيرة، أن بريطانيا التي يقوم اقتصادها بالأساس على قطاع الخدمات ستمثل هذه الاستثمارات قوة دفع مهمة، ويجعل من البلاد محطة أساسية في سلاسل توريد هذه التكنولوجيا للسوق العالمية ويفتح أمامها أبواب الأبحاث التي تتقدم بسرعة فائقة في الولايات المتحدة.
لكن الباحث البريطاني يؤكد أن الحكومة بصفتها من تضع السياسات التجارية يجب أن تدرس بعناية ميزان الخسارة والربح والإستراتيجي المترتب عن شراكة بهذا الحجم قبل أن ترجح المسار الذي ستندفع إليه على المدى الطويل، في وقت تبرز فيه قوى أوروبية ودولية أخرى يمكن بناء تحالفات تجارية موازية معها في هذا المجال.
بيد أن الجموح الأميركي لتطوير هذه التكنولوجيا على أراضي حليف إستراتيجي كبريطانيا، تقابله أيضا مخاوف بشأن عدم رغبة كل من واشنطن ولندن في وضع أطر قانونية صارمة تضبط تطوير هذه التقنية.
ففي وقت لم تحسم فيه بريطانيا بعد تفاصيل قانون الذكاء الاصطناعي الذي أقر بداية العام الحالي لضبط استخدام هذه التقنيات المتقدمة والحفاظ على حقوق الملكية والمعطيات الشخصية، رفضت كل من لندن وواشنطن التوقيع في فبراير/شباط الماضي على بيان "قمة باريس بشأن العمل على الذكاء الاصطناعي" والذي وافقت عليه 60 دولة وينص على وضع قواعد سلامة وحماية لحوكمة تطوير هذه التكنولوجيا.
وفي هذا السياق يشدد نايك كلودري، أستاذ سياسات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسي، في حديث للجزيرة نت، على أن عقيدة السياسية والاقتصادية لشركات التكنولوجية الأميركية قائمة على أساس الهيمنة والسيطرة على الموارد التقنية التي تضمن لها تحكما تاما في هذا المجال.
ويحذر كلودري من أن هذه البنيات التحتية ستجعل سوق التقنية البريطانية مرتهنة للرأس المال الأميركي بشكل متزايد، مما قد يمنع بريطانيا من تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل أكثر استقلالا، في وقت قد يصبح فيه الاستثمار في البنيات التحتية لا يخدم إلا شركات التكنولوجيا العملاقة نفسها ويزيد أرباحها في سوق كبريطانيا وخارجها.