الدوحة- بينما يستعد العالم لنسخ جديدة من كأس العالم لكرة القدم العام المقبل في كلٍّ من كندا والمكسيك والولايات المتحدة، يعود الحديث مجددا عن التجربة القطرية الاستثنائية، والنجاح الفريد الذي حققته الدولة الخليجية خلال أول بطولة لكأس العالم تُنظَّم في المنطقة. ويُطرح التساؤل: ما الذي يمكن أن تتعلّمه الدول المنظمة المقبلة من هذه التجربة الفريدة؟
وفي هذا السياق، نظم منتدى قطر الاقتصادي جلسة حوارية مع أحد أبرز الشخصيات المرتبطة بهذا الحدث التاريخي، وهو حسن عبد الله الذوادي، الأمين العام للجنة العليا للمشاريع والإرث، وأحد الأعمدة الرئيسية التي عملت خلف الكواليس لإنجاح البطولة.
تحدث الذوادي عن إرث كأس العالم في قطر 2022، مشيرا إلى أن مجرد استمرار الحديث عن البطولة حتى اليوم هو بحد ذاته دلالة على عمق الأثر الذي تركه الحدث، حتى على المستوى اللغوي والسردي.
وأوضح أن التجربة القطرية في تنظيم البطولة لم تكن مجرد إنجاز رياضي، بل كانت مشروعا تنمويا متكاملا أعاد تعريف دور الرياضة في تعزيز الاقتصاد، وصياغة الهوية الوطنية، وتوسيع نطاق القوة الناعمة للدولة.
وتابع: "كانت تجربة تنظيم كأس العالم رحلة طويلة امتدت لأكثر من 13 عاما، بدأت بتقديم ملف الاستضافة، مرورا بالتخطيط والتنفيذ، وانتهاء بتنظيم بطولة وُصفت بأنها الأفضل في تاريخ اللعبة. كان واضحا منذ البداية أن البطولة ليست مناسبة رياضية فقط، بل مشروع وطني وتنموي من الطراز الأول، هدفه ترك إرث دائم وبناء رأس مال بشري يشكل حجر الأساس لمستقبل البلاد".
أوضح الذوادي أن التحديات التي واجهها المشروع كانت ضخمة، إلا أن التعامل معها تم ضمن خطة دقيقة ومسار منهجي يركز على بناء القدرات. وأكد أن الرؤية منذ البداية كانت واضحة: رأس المال البشري هو الركيزة الأساسية لأي نجاح.
وأشار إلى أن لجنة التنظيم أدركت مبكرا أهمية البناء المؤسسي، وسلاسة الهيكل الإداري، وتسلسل القيادة في كافة الجوانب التشغيلية. كما شدد على أن من أهم عوامل النجاح كانت القدرة على بناء قنوات تواصل أفقية وعمودية فعالة داخل المؤسسات الأمنية والتشغيلية، وهو ما انعكس إيجابا على سلاسة التنظيم، خاصة في مجالات أمن الملاعب، وإدارة الحشود، ووضع الخطط البديلة بدقة، مما ضمن تجربة جماهيرية آمنة ومنظمة.
وبشأن النصائح التي يقدّمها للدول المستضيفة المقبلة، دعا الذوادي إلى البدء بسؤال أساسي: "ما الغاية من استضافة حدث رياضي كبير؟ هل الهدف هو مجرد الاحتفال، أم ترك أثر مستدام؟".
وشدد على ضرورة التركيز على البنية التحتية، والتسلسل الإداري، وجودة الاتصال بين مختلف الجهات الفاعلة، باعتبارها عناصر حاسمة في تحقيق النجاح.
تحدث الذوادي عن الأثر الاقتصادي والاجتماعي الهائل الذي خلّفته البطولة على قطر والمنطقة، قائلا: "بكل تواضع، كانت كأس العالم في قطر النسخة الأفضل في تاريخ البطولة، وهي دليل قاطع على أن دول الجنوب قادرة على تنظيم فعاليات رياضية عالمية بمستوى رفيع، لا يقل عن نظرائها في الشمال بأي شكل من الأشكال".
وأكد أن البطولة لم تكن مجرد منافسات كروية، بل تحولت إلى محرك اقتصادي واجتماعي للمنطقة، وأعادت تشكيل صورة الخليج في نظر العالم، وفتحت الباب أمام استثمارات ضخمة في البنية التحتية، والسياحة، والخدمات، والرياضة، والثقافة.
وأشار إلى أن ما نشهده حاليا في السعودية والمغرب من تطور في مشاريع البنية التحتية والفعاليات الرياضية، يُعد امتدادا للموجة التي أطلقتها قطر، موضحا أن دول الجنوب- وخصوصا الخليج وأفريقيا- أصبحت اليوم جزءا أساسيا من المشهد الرياضي العالمي.
رغم أن كرة القدم تظل الرياضة الأكثر شعبية، أكد الذوادي أن رؤية قطر تمتد لما هو أبعد من ذلك. فقد استضافت الدولة بطولات للفئات السنية، وسباقات الفورمولا 1، وبطولات التنس، إلى جانب المؤتمرات والمنتديات الثقافية الكبرى.
وفي سياق متصل، تطرق إلى دور "السرد" وصناعة المحتوى كأدوات إستراتيجية لرسم صورة الدولة وتعزيز حضورها العالمي، مشيرا إلى أن قطر تستثمر بشكل متزايد في صناعة الأفلام والمحتوى الإعلامي.
وقال: "رواية القصص جزء من التراث العربي، وعلينا كعرب أن ننقل سرديتنا إلى العالم من خلال محتوى إعلامي وإبداعي منافس عالميا".
وتساءل: "لماذا لا يكون لدينا نظام جوائز إقليمي ينافس الأوسكار؟ ولماذا لا نؤسس لصناعة محتوى عربي قوي؟" مؤكدا أن دخول هذا المجال يجب أن يكون مدفوعا برؤية إستراتيجية وفهم عميق للسوق العالمي، واستيعاب للسرديات التي تلقى رواجا وتأثيرا.
تحدث الذوادي عن الدروس الشخصية التي اكتسبها خلال هذه الرحلة الطويلة، مشيرا إلى أهمية إدارة الوقت وتجنّب التشتت. وأكد أن كل مشروع يجب أن يُدار بتوازن، وأن النجاح يتطلب التركيز على الإنجاز في التوقيت المناسب، مع مراجعة نتائج المشاريع السابقة قبل الانخراط في مغامرات جديدة.
وقال: "إذا ركزت على مشروع ما، فأتمّه بإتقان، حتى وإن ظهرت فرص أخرى مغرية".
كما شدد على أهمية التمتع بالمرونة، وبناء علاقات مجتمعية قوية، والحفاظ على سمعة الدولة كدولة تفي بوعودها.
اختتم الذوادي حديثه بنبرة تفاؤلية، مؤكدا أن طموح قطر لا يزال كبيرا، وأن البلاد باتت اليوم تمثل نموذجا يُحتذى به في تنظيم الفعاليات الرياضية والثقافية الكبرى.
وأشار بإعجاب إلى عدد من التجارب الفردية الملهمة، من بينها تجربة بدر محمد المير، المدير التنفيذي لل خطوط الجوية القطرية ، معتبرا إياه رمزا من رموز النجاح القطري.
وقال: "نحن نعمل بتفانٍ وفاعلية لنفي بوعودنا، فالطموح هو صديقنا، لكنه بحاجة إلى المرونة، والاتزان، والعلاقات المجتمعية الناجحة."