يهدف الاحتلال الإسرائيلي من تشويه المناهج الدراسية في القدس إلى خلق جيل من الفلسطينيين منزوع الهوية، متسامح مع المحتل، فاقد لثقافة القوة والاعتزاز بتاريخه وهويته.
لقراءة المقال كاملا: https://t.co/2fShLQr6pW pic.twitter.com/TfI9ssFYiA— الجزيرة – قدس (@Aljazeeraquds) November 18, 2025
القدس ليست مجرد جغرافيا يثقلها الاحتلال، ولا ساحة تتنازعها السياسات والخرائط، بل كيان رمزي يسكن الوجدان الإنساني قبل أن تسكنه الحدود، تلتقي فيها السماء بالأرض، والتاريخ بالوعي، لتغدو أكثر من مدينة محاصرة بالجدران، فهي ذاكرة للعالم ومرآة لضميره الأخلاقي، تُختبر فيها قدرة الإنسان على الوفاء لفكرة العدالة والكرامة.
أُغرقت القدس على مدى قرن من التحولات في سرديات متناقضة، "دينية تُحاول احتكار القداسة، وسياسية تختزلها في مفهوم السيادة"، حتى تراجعت صورتها الثقافية في الوعي العالمي، وهكذا جرى تفريغها من معناها الأعمق، من كونها فضاء جامعا للأديان والثقافات، إلى أن أصبحت عنوانا للنزاع بدل أن تكون رمزا للتلاقي.
تسعى هذه المقاربة إلى إعادة القدس إلى موقعها الطبيعي، "مدينة فلسطينية عربية ذات طابع إنساني ووجدان عالمي"، تستعاد لا بالتحرر الجغرافي وحده، بل بإحياء معناها الثقافي والحضاري في الوعي الإنساني، فحماية القدس لا تبدأ من استرداد أرضها فحسب، بل من استعادة معناها، لأن المدينة التي تُفهم تُستعاد، وحين تُفهم القدس كقيمة إنسانية جامعة، يُعاد الاعتبار لهويتها العربية ويُعاد وصلها بالعالم كرمز للحرية والمقدس الإنساني.
تتأصل هوية مدينة القدس في الوعي الفلسطيني والعربي، بوصفها مدينة مقاومة وقداسة وتاريخ، لكنها في الوقت ذاته تكتسب بُعدا كونيا يجعلها حاضرة في الضمير الإنساني العالمي.
شكلت القدس منذ قرون ملتقى للثقافات والأديان، مدينة عبور وتفاعل حضاري نادر، لم تعرف الانغلاق، بل عرفت التنوع الذي جعلها رمزا للإنسانية قبل أن تصبح عنوانا للنزاع، ورغم محاولات الاحتلال منذ عام 1948 لتفريغ هذه الهوية من مضمونها، ظلّت الذاكرة الجمعية للفلسطينيين أقوى من محاولات الطمس، فحملت القدس في الوعي الشعبي كرمز للكرامة والصمود، لا كموضوع سياسي فحسب.
أدرك الاحتلال أن أخطر أشكال الصمود هي تلك التي تنمو في الوعي، لذلك يستهدف التعليم والمناهج والفضاء البصري العام، محاولا فرض روايته التاريخية والسياسية
تتجلّى مقاومة القدس اليوم في الثقافة أكثر مما تتجلّى في السياسة، ففي ظل الاحتلال وتراجع الحضور العربي، أصبح الفضاء الثقافي سلاحا إستراتيجيا للحفاظ على الذاكرة وحماية الهوية، فالفنان يرسم ليبقي الوجود حيا، والمعلّم يدرّس ليحافظ على اللغة، والكاتب يوثّق ليقاوم المحو.
لقد أدرك الاحتلال أن أخطر أشكال الصمود هي تلك التي تنمو في الوعي، لذلك يستهدف التعليم والمناهج والفضاء البصري العام، محاولا فرض روايته التاريخية والسياسية، لكن الفن والأدب الفلسطينيين أعادا بناء السردية البصرية والأدبية، لتعملا على ربط الأرض بالكرامة والرمز بالإنسان.
ومن هنا، فإن الثقافة المقدسية ليست حيادية، ولا تعد نشاطا إبداعيا فحسب، بل هي بنية دفاعية رمزية تعيد إنتاج الهوية من داخلها، وتواجه مشروع الأسرلة بمنظومة من المعنى والممارسة، فالقدس تقاوم بالقصيدة كما بالموقف، وباللوحة كما بالمؤسسة الثقافية، وبالوعي الجمعي الذي يرفضُ التطبيع الرمزي كما يرفض التطبيع السياسيّ.
ما يميز القدس ليس كونها مجرد مدينة فلسطينية عربية، بل كونها تحمل في وجدانها معنى الإنسانية المشتركة، فهي مركز للأديان السماوية، ومكان لتلاقي الحضارات، ومرآة لتجربة الإنسان في بحثه عن العدالة والسلام.
تاريخيا، لم يكن توصيف القدس مسألة وجدانية فقط، بل قانونية أيضا، فمنذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947، الذي اقترح وضع القدس تحت نظام دولي خاص (Corpus Separatum) باعتبارها مدينة ذات وضع فريد، اعتُبرت القدس كيانا يتجاوز السيادة الأحادية ويخضع لحماية دولية على أساس قدسيتها وتنوعها البشري.
هذا المنظور القانوني تعزز بعد عام 1967 عندما أكد مجلس الأمن أن ضمّ القدس بالقوة غير شرعي، ورفض لاحقا إعلان إسرائيل للقدس "عاصمة موحدة" (القرار 478 لعام 1980)، ما ثبت توصيفها كأرض محتلة لا يجوز تغيير طابعها الديمغرافي أو الثقافي قسرا، يدعم هذا البعد القانوني حقيقة أن هوية القدس ليست مجرد سردية فلسطينية، بل أيضا حقيقة معترف بها دوليا حتى وإن جرى انتهاكها عمليا.
من هذا المنطلق، يمكن للقدس أن تتحول من رمز للمواجهة إلى رمز للضمير العالمي، إذا ما أعيد تقديمها للعالم كمدينة تجسد القيم التي يدّعيها العالم ذاته، "الكرامة، العدالة، الحرية"، يتحقق ذلك عبر بناء تحالف ثقافي وإنساني حول القدس، يتجاوز الخطاب السياسي إلى خطاب قيمي كوني، هو المدخل الأنجع لحمايتها اليوم من العزلة الرمزية.
فالقدس، بما تحمله من رموز إنسانية عابرة للثقافات، قادرة على أن تكون جسرا بين الشعوب لا ساحة للمواجهة بينها، شرط أن تُقدَّم للعالم من خلال روايتها الفلسطينية الأصيلة، كما أن استعادة القدس كقيمة كونية تعتبر استعادة لفكرة العدالة ذاتها، بوصفها التجسيد الأعمق لحق الإنسان في الوجود والكرامة.
تواصل سلطات الاحتلال تنفيذ مشاريع عمرانية تستهدف قلب القدس، لتغيير طابعها العربي والإسلامي، وفرض مشهد بصري جديد يرسخها كعاصمة مزعومة للاحتلال.
لقراءة المقال كاملا: https://t.co/JvTVKjfyUc pic.twitter.com/J5ZmicC9bp— الجزيرة – قدس (@Aljazeeraquds) October 6, 2025
ستواجه القدس، في إطار رؤية إستراتيجية تمتد حتى أفق عام 2030، منعطفا مصيريا بين مشاريع الأسرلة الشاملة ومحاولات الصمود الثقافي والمجتمعي، إذ تهدد التحولات الديمغرافية والإدارية المتسارعة الطابع العربي للمدينة، في حين ما تزال المبادرات المقدسية في مجالات التعليم والثقافة والفن تبني شبكات مقاومة محلية صامتة، تعيد تعريف الوجود الفلسطيني في المدينة وتثبت حضوره في وجه محاولات الطمس والتغييب.
منذ اعتراف الإدارة الأميركية، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها، تراجعت قدرة النظام الدولي على أداء دور الضامن الرمزي لوضع المدينة، وانتقل العبء الفعلي إلى المبادرات المقدسية المحلية "التعليم، والثقافة، وحماية الذاكرة في الشارع"، وقد جعل هذا التحول مسألة القدس أقل حضورا كملف قانوني دولي، وأكثر وضوحا كمعركة صمود يومية على المعنى والهوية في الحياة المدنية ذاتها.
يتطلب مستقبل القدس رؤية ثقافية طويلة المدى تُحوّل الفعل الثقافي إلى سياسة عامة، تضمن بقاء الهوية حاضرة في المدرسة، في الشارع، في المشهد البصري، وفي الوعي الجمعي، وتستند هذه الرؤية إلى 3 محاور:
بهذا يمكن للقدس أن تدخل العقد القادم كمدينة تُنتج الثقافة لا كموضوع للسيطرة عليها، وكمدينة تُعلّم العالم معنى الكرامة الإنسانية، فصمود القدس كمدينة فلسطينية عربية إنسانية مرهون ببقاء مؤسساتها الثقافية حية ومستقلة، لأنها ليست مجرد مكان يدافع عنه، بل رمز حضاري يختبر إنسانية العالم في قدرته على حماية المعنى قبل الحجر.
"تبقى القدس في زمن تتناقص فيه قيم الإنسانية، الدليل الحي على أن المعنى لا يحتل، وأن الذاكرة، ما دامت تنبض بالثقافة والوعي، قادرة على صياغة مستقبل يعيد للمدينة مكانتها في قلب العالم"
رغم ما فُرض على القدس من جدران وعزلة، ما زالت المدينة تحتفظ بقدرتها على مخاطبة العالم بلغة تتجاوز السياسة والمصالح الإقليمية والدولية، فهي تختصر تجربة الإنسان في بحثه المستمر عن العدالة، وتذكّر بأن الاحتلال يستطيع أن يفرض الوقائع على الأرض، لكنه لا يستطيع أن يحتل الوعي أو يطفئ الذاكرة.
القدس اليوم ليست اختبارا للشرعية الدولية فحسب، بل مرآة لضمير العالم بأسره، إذ يطرح واقعها سؤالا وجوديا عادلا: كيف يتعامل هذا العالم مع مدينة تجسد في جوهرها معنى العدالة والكرامة والتعايش الإنساني؟
وحين تستعاد القدس كمدينة فلسطينية عربية ذات طابع إنساني ووجدان عالمي، تستعاد معها منظومة القيم التي تمنح الإنسانية معناها الأعمق، "الحرية، والكرامة، والحق في الوجود".
تبقى القدس في زمن تتناقص فيه قيم الإنسانية، الدليل الحي على أن المعنى لا يحتل، وأن الذاكرة، ما دامت تنبض بالثقافة والوعي، قادرة على صياغة مستقبل يعيد للمدينة مكانتها في قلب العالم، فثباتها في الوجدان الإنساني، بوصفها رمزا للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، هو أعظم أشكال انتصارها.
* كاتب وباحث وفنان بصري فلسطيني من القدس، تُركّز أعمالُه على قضايا الهوية والسياسات الثقافيّة والصمود، ويبحث في دور الثقافة والعمل الأهلي في مواجهة الهيمنة وتعزيز الحضور الفلسطيني في المدينة.
المصدر:
الجزيرة