آخر الأخبار

“المنكوبون”.. هل الحياة في أمان الشمال أفضل من حيوية الجنوب؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

أمستردام- لا أنكر أني ضبطت نفسي متلبسا بغفوة قصيرة في أثناء مشاهدة هذا الفيلم في قاعة "ذا باثى" الفخمة التي شاهدت فيها حتى الآن أكثر من 6 أفلام ضمن مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية.

طال الفيلم ربما أكثر مما ينبغي، لهذا غفوت وربما لأني لم أنم سوى سويعات قليلة لأحضر ما أستطيع حضوره من فعاليات تمتد من التاسعة صباحا لقرابة منتصف الليل، لكني -وبخلاف الغفوة القصيرة- استمتعت واستعدت ذكريات سنوات طويلة من رحلات الكشافة، وأحببت أيضا وقع الحياة البطيء في الفيلم الذي يعطي فرصة للتأمل.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 وراء الأبواب المغلقة.. متلازمة الـ"هيكيكوموري" تكشف عن جيل يهرب من العالم
* list 2 of 2 فن الحمالين القديم في إسطنبول ينجو من التحديات الحديثة في تركيا end of list

عندما انتهى الفيلم، سألت رفيق المشاهدة الذي تململ قليلا من طول الفيلم: هل شاهدت كيف استطاع المخرج التعبير عن مجتمعه القروي المكسيكي النائي بتقدير ومحبة شديدين، في المقابل، كيف تعرض الأفلام العربية التي تشارك في مهرجانات سينمائية ووثائقية مجتمعاتها وكيف تمثّل بيئتها المحلية خاصة عندما يكون مخرجوها مهاجرون؟

حكمة التيه

30 عاما من الغياب تفصل المخرج المكسيكي الهولندي دييغو غوتيريز عن وطنه الأول.

3 عقود قضاها في هولندا، في أمستردام المنظمة، بعيدا عن آلام المكسيك وأحزانها الكثيرة.

لكن في فيلمه الأخير "المنكوبون" (The Shipwrecked) الذي يُعرض لأول مرة عالميا في مهرجان إدفا 2025، يعود غوتيريز إلى المكسيك ليس بوصفه سائحا -كما يفعل آخرون!- بل باحثا عن إجابات لأسئلة ظلت تؤرقه طوال سنوات المنفى الاختياري.

السؤال ليس بسيطا، هل الحياة الأسهل في بلد آمن ومستقر هي حقا حياة أفضل؟ هل الهروب من العنف والفقر يعني الهروب من الذات؟ كيف نواجه الوحدة والحزن في عالم مضطرب؟ وكيف نتصالح مع الطبيعة ومع أنفسنا؟

تلك الأسئلة الوجودية تقود غوتيريز في رحلة سينمائية فلسفية عبر صحارى المكسيك وجبالها وقراها، حيث يلتقي أناسا عاديين يعيشون على هامش التاريخ الرسمي، لكنهم يحملون حكمة عميقة عن معنى الحياة، يقدمها المخرج على "الشاشة العريضة".

مصدر الصورة "فير" و"مايرا" زوجان شابان يكرسان حياتهما لدراسة الخفافيش وحماية البيئة (لقطة من الفيلم)

يفتتح الفيلم باقتباس للفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت: "أن تحيا يعني أن تجد نفسك تائها، وتقبُّل ذلك هو جزء من طريق التعافي".

إعلان

ربما تلك العبارة هي البوصلة التي توجه الفيلم بأكمله، رحلة في التيه، رحلة في البحث عن معنى وسط الفوضى، رحلة في محاولة فهم ما يعنيه أن تكون إنسانا في عالم يوشك على الغرق.

الكاميرا في الفيلم هنا لا تأتي من الخارج لـ"توثيق الفقر" أو "التعاطف مع الضحايا"، بل تأتي من الداخل، من مخرج يحمل الهوية المكسيكية في دمه حتى لو عاش بعيدا عنها.

يربط غوتيريز صراحة بين الأزمة المكسيكية والأزمة العالمية؛ يقول إن "القارب الغارق هو الكوكب، والمكسيك مجرد استعارة للعالم أجمع".

بهذا المعنى، الفيلم ليس عن الجنوب العالمي فقط، بل عن الإنسانية جمعاء التي توشك على الغرق: بيئيا، اجتماعيا، روحيا. العنوان "المنكوبون" يشير إلينا جميعا، ركاب سفينة الحضارة المتداعية.

"القارب الغارق هو الكوكب، والمكسيك مجرد استعارة للعالم أجمع"

أصوات من هامش الهامش

ما يميز "المنكوبون" عن الأفلام الوثائقية التقليدية هو أنه لا يبحث عن الأبطال الكبار أو الأحداث التاريخية الفاصلة.

بدلا من ذلك، يوجه غوتيريز كاميرته نحو الناس العاديين، أولئك الذين نادرا ما تُسمع أصواتهم في السرديات الرسمية.

هؤلاء هم أصوات الجنوب العالمي الحقيقية، وأفلام مهرجان إدفا يمثل الكثير منهم بالفعل، من فلاحين يعملون الأرض بأيديهم، وعلماء شباب يحاولون حماية البيئة بإمكانيات محدودة، وفنانين يرممون تماثيل منسية في كنائس قديمة.

مصدر الصورة مدخل إحدى قاعات السينما التي استضافت مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)

يبحث المخرج عن السكينة ويجد العزاء في مراقبة حيوات الآخرين، وفي هذه الرحلة للسكينة نلتقي فلورينسيو، الفلاح البسيط الذي عاد ليعمل في مزرعة أبيه.

رجل يملك حكمة الأرض وفلسفة الحياة البسيطة. يقول بسخرية هادئة إن من وُلد وفي فمه ملعقة من فضة غالبا ما يكون عديم الجدوى.

عبارته تعكس انقساما طبقيا عميقا في المكسيك -يمكن تعميمه عالميا- بين من يعرفون معنى الكفاح ومن لا يعرفونه.

لكن فلورينسيو ليس غاضبا، بل إنه راضٍ بحياته، يجد السعادة في المباهج الصغيرة، في فلسفة أبيقورية متواضعة تقول إن الحياة الطيبة لا تحتاج إلى ترف.

ثم هناك فريدا، الفنانة المرممة التي تعيد الحياة إلى تمثال قديم للمسيح، حسب معتقدهم.

عانت فريدا من فقدان الذاكرة لفترة، لكنها تصف تلك التجربة بأنها منحتها نقاء عقليا أشبه بـ"إزالة الضجيج" من حياتها.

تؤمن بقوة اللحظة الراهنة، وبضرورة العيش "هنا والآن" بدل الانشغال المستمر بهموم المستقبل.

في عملها الدقيق على التمثال، نرى استعارة لما يحاول الفيلم فعله: إعادة ترميم الذاكرة الجماعية وإعادة إحياء الأمل في زمن اليأس.

وهناك فير ومايرا، الزوجان الشابان اللذان يكرسان حياتهما لدراسة الخفافيش وحماية البيئة.

صانع الفيلم غوتيريز يرافق فير ومايرا في مغامراتهما البحثية في الكهوف والغابات، ويشعر في حضورهما بنوع من الأمان والرعاية المتبادلة، "رابطة حماية" كما يصفها.

هذان الزوجان البسيطان يمثلان جيلا جديدا يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من كوكب يحتضر، رغم محدودية الموارد وضخامة التحدي.

ثم فيرنر، الشاب من أسرة ثرية الذي تمرد على عالم الترف الفارغ وحوّل منتجع العائلة الفاخر إلى مزرعة عضوية بسيطة، يؤمن بأن "جودة الحياة تعتمد على جودة علاقاتنا مع جميع الكائنات الحية".

إعلان

في قصة فيرنر، نرى محاولة للخروج من الاستعمار الداخلي، من الاستهلاكية والطبقية، نحو علاقة أكثر عدلا مع الأرض والناس.

مصدر الصورة فيلم "المنكوبون" هو جمال طبيعي خلاب تستمتع بمشاهدته من أعلى ومن أسفل (لقطة من الفيلم)

إنهاء الاستعمار بالصورة

"المنكوبون" يصل إلى إدفا في دورة حافلة يركز فيها المهرجان على ثيمة "إنهاء الاستعمار" وإعطاء صوت للجنوب العالمي، والفيلم يجسد هذه الثيمة بعمق، ليس فقط في محتواه بل في شكله أيضا.

وكأن الفيلم يرفض السرد الاستعماري عن المكسيك مصورا إياه على أنه بلد "فاشل" أو "عنيف" -رغم أنه يظهر ذلك الوجه أيضا أحيانا- لكنه لا يكتفي به، بل يكشف عن طبقات أخرى.

جمال طبيعي خلاب تستمتع بمشاهدته من أعلى ومن أسفل، وحكمة شعبية عميقة، ومقاومة يومية صامتة، وأمل يولد من رحم المعاناة.

ويمنح الفيلم أيضا الكلمة لأناس عاديين لا يظهرون عادة في الإعلام أو السينما.

الفلاح والمرممة والعالمان الشابان أشخاص حقيقيون يروون قصصهم بكلماتهم الخاصة، وليسوا ممثلين أو نجوما، ربما هذا بحد ذاته عمل لإنهاء الاستعمار السينمائي أو محاولة لإعادة السلطة السردية لأصحاب القصص أنفسهم.

والأهم أن الفيلم يتحدى الثنائية الاستعمارية بين "الشمال المتقدم" و"الجنوب المتخلف"، فالسؤال الذي يطرحه غوتيريز طوال الفيلم هو: هل الحياة في هولندا الآمنة حقا أفضل من الحياة في المكسيك المضطربة؟ الإجابة ليست بسيطة. نعم، هولندا أكثر أمانا واستقرارا، لكن المكسيك تقدم شيئا آخر: حيوية، وارتباطا بالطبيعة، علاقات وإنسانية أعمق، ومعنى وجوديا ربما يغيب في برودة الشمال.

ليس الفيلم عن أيهما "أفضل"، بل عن فهم أن لكل مكان منطقه الخاص، ولكل حياة ثمنها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار