في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أمستردام – التاسعة ونصف صباحا، الجو بارد والمطر اخترق حذائي الرياضي غير المقاوم للماء، لكني لن أعود لتغييره بل أمشي سريعا إلى محطة القطار التي أمرّ منها فقط إلى الساحل البحري، ومنه آخذ السفينة المجانية الصغيرة إلى الضفة الأخرى حيث سينما "العين" الجميلة.
أدخل القاعة في اللحظة الأخيرة، وسرعان ما يصل صوت بيروت قبل صورتها على الشاشة، فـ"هل تحبني" (Do You Love Me) للمخرجة اللبنانية لانا ضاهر يحمل معه حكايات وأصواتا وصورا من لبنان مكثفة في عاصمته التي تجمع شتاتها ثم تبعثره في أحيائها المتناقضة.
"هل تحبني" رحلة بصرية عاطفية (هل أسميها مقالة بصرية شاعرية؟!) عبر 7 عقود من الذاكرة اللبنانية المبعثرة، مُجمَّعة من أكثر من ألفي قطعة أرشيفية، بينها أفلام سينمائية قديمة، وبرامج تلفزيونية، وفيديوهات منزلية، وصور فوتوغرافية، ونشرات أخبار، وبالتأكيد مع موسيقى وأغان لبنانية كثيرة تحاول تركيبها على الصور خلال المشاهدة.
محظوظ أنا بالطبع أن أفهم الصوت العربي بينما يقرأ المشاهدون الترجمة التحتية للفيلم، لكنهم بالتأكيد يستمتعون مثلي بفسيفساء سينمائية تحكي قصة وطن عالق بين الحب واليأس.
يحاول الفيلم منح الذاكرة الجماعية جسدا بصريا يمكن لمسه، تقول لانا ضاهر في حديثها لنا بعد الفيلم إن البداية كانت "من أرشيفي العائلي في فترة طفولتي ثم تحوّل إلى فيلم".
ما بدأ كبحث شخصي عن ذكريات طفولة ضائعة في بيروت تحوّل إلى مشروع استغرق 8 أعوام من العمل المضني، كما عبرت بعد اختتام العرض، وأضافت "8 أعوام من التنقيب في الأرشيفات، ومشاهدة آلاف الساعات من اللقطات، واتخاذ قرارات مؤلمة حول ما يُستخدم وما يُستبعد".
واحدة من أكثر الحقائق إيلاما التي يكشفها الفيلم هي أن لبنان لا يملك سردا تاريخيا موحدا لأبنائه.
وقالت لانا ضاهر بعد الفيلم: "ليس لدينا كتب تاريخ رسمية موحدة في التعليم اللبناني"؛ فالحرب الأهلية التي مزقت البلاد طوال 15 عاما غائبة تقريبا عن المناهج الدراسية، والذاكرة الجماعية مشظاة بين طوائف ومناطق وروايات متضاربة.
يشرح فيلم ضاهر بإيجاز واقع بلد تتعدد فيه الهويات والذكريات ويتوسل بالشخصي خاصة مع غياب أرشيف وطني مركزي وفي ظل تجاهل رسمي للتاريخ القريب، مما يجعل اللبنانيين يعتمدون على ذكريات شخصية متناثرة وروايات عائلية لفهم ماضيهم، وهذا ما يفعله الفيلم أيضا.
يحاول الفيلم إعادة تجميع هذه الشظايا، لتقديم تاريخ بصري جماعي يمكن للأجيال الجديدة أن تعود إليه، كمحاولة لكتابة التاريخ بالصورة لملء الفراغ الذي تركته كتب المدارس.
جمعت لانا مادة الفيلم من أكثر من 100 فيلم لبناني من الستينيات وما بعدها، مضيفة إليها مواد أرشيفية متنوعة، لتبني سردا موازيا لما عاشه اللبنانيون عبر العقود.
لا يقدم الفيلم تاريخا رسميا من أعلى، بل يستكشف بيروت من الداخل، بعيون أهلها وأصواتهم.
نرى في الفيلم صحافيا لبنانيا يعود إلى منزله المدمّر بعد غارة إسرائيلية على بيروت، يتفحص الأنقاض بصمت، ونسمع سائق أجرة يروي بحماسة حكاية برج من الهيكل الخرساني الشاهق الذي بقي مهجورا منذ الحرب الأهلية، رمزا حيا لجرح لم يلتئم.
نتابع مرشدا سياحيا يصطحب زوارا غربيين في جولة على معالم المدينة، في تباين ساخر بين فضول السائح وبرودة الواقع الذي يعيشه أهل البلد.
هذه القصص الصغيرة، اليومية، الشخصية، هي ما يمنح "هل تحبني" قوته الإنسانية؛ فالفيلم لا يتحدث عن الحروب كأحداث كبرى، بل عن أثرها على الناس العاديين، على بيوتهم وأحلامهم وحياتهم اليومية.
للموسيقى دور محوري في الفيلم، وهو أمر مقصود تماما من المخرجة. تقول لانا ضاهر "إن الموسيقى مهمة جدا لنا نحن اللبنانيين، وتلعب دورا كبيرا في حياتنا اليومية. لهذا كان لدي حسّ شخصي لاستخدامها، وحاولت خلطها بالتاريخ والأرشيف".
عنوان الفيلم نفسه مستوحى من أغنية شهيرة لعائلة بندلي اللبنانية صدرت عام 1978. لكن السؤال البسيط "هل تحبني؟" يكتسب في سياق الفيلم عمقا يتجاوز بعده الرومانسي، وربما هو سؤال موجّه للوطن نفسه، عن علاقة حب معقدة وعنيدة بين اللبنانيين وبيروت.
تشرح ضاهر اختياراتها الموسيقية: "اخترت أغاني تتجاوز الأجيال وتتقاطع مع الطبقات المختلفة، وحاولت دمجها في سرد الفيلم".
لا يكتفي "هل تحبني" بإثارة الحنين الرومانسي لبيروت الجميلة، بل يغوص في التناقضات العاطفية العميقة التي يعيشها اللبنانيون.
تصف المخرجة رؤيتها: "لا خلاصة في الفيلم، لكني أردت الغوص في المساحة الرمادية، بين الهدوء الذي يسبق العاصفة والضبابية والقلق المستمر".
هذه المساحة الرمادية هي ما يميز التجربة اللبنانية، أي العيش المستمر على حافة الأزمة، في حالة من الترقب الدائم بين لحظة فرح ولحظة انهيار.
الفيلم يرصد تلك اللحظات الفاصلة بين الانفراج واليأس، ويحلل حالة الانفصام الوجداني بين الرغبة في الهجرة بحثا عن أمان، وبين العجز عن ترك الوطن والتخلي عن عشق متجذّر في النفوس.
يبرز الفيلم هشاشة مفهوم "الوطن" في بلد يمكن أن تنقلب أوضاعه بين ليلة وضحاها، وحتى البيت والأرض معرضان للضياع في أي لحظة.
لكنه في الوقت نفسه يصوّر بيروت كأنها "عروس الشرق" الجميلة المفعمة بالحياة رغم الندوب، من خلال عيون سكانها الذين يحبونها بإخلاص رغم كل شيء.
الأثر العاطفي للفيلم على مشاهديه كان واضحا منذ عروضه الأولى، فأحد المشاهدين عبّر عن تجربته بعد انتهاء العرض بقوله: "كنت أبكي لمدة ساعة، ولو أن الفيلم 4 ساعات فربما كان ذلك سيعالجني"، وبالفعل فرؤية الذاكرة الجماعية معروضة على الشاشة تمنح نوعا من التطهير العاطفي.
وصول "هل تحبني" إلى مهرجان "إدفا" يحمل أهمية خاصة، فهو منصة عالمية لأصوات لا تُسمع عادة في السينما التجارية، والفيلم حقق انطلاقة عالمية قوية بعرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي (أيام البندقية 2025)، ثم جال في مهرجانات دولية مرموقة.
في مهرجان هامبورغ 2025 حصدت لانا ضاهر جائزة الفيلم السياسي من مؤسسة فريدريش إيبرت، حيث رأت لجنة التحكيم في الفيلم "فسيفساء من الذكريات" ترسم صورة شعرية لبيروت كأنها عالقة في حلقة مفرغة من العنف والاضطراب.
اعتُبر الفيلم رسالة حب حارّة لوطن يعاني، ليس فقط لبنان بل كناية عن أوطان أخرى واجهت الحروب والأزمات، هذا البعد الإنساني العالمي هو ما يجعله مناسبا لجمهور "إدفا" المتنوع، الباحث عن أفلام تتجاوز الجغرافيا لتلامس التجربة الإنسانية المشتركة.
"هل تحبني" ليس فيلما عن الماضي بل عن علاقتنا بالماضي، والسؤال الذي يطرحه العنوان "هل تحبني؟" يبقى معلقا في الهواء بلا إجابة نهائية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة