كشفت الهيئة العامة للآثار والمتاحف بمحافظة ذمار اليمنية اليوم، النقاب عن اكتشاف أثري بالغ الأهمية في منطقة وادي هجرة منقذة، الواقعة شمال مدينة ذمار.
ويأتي هذا الاكتشاف ليؤكد من جديد لماذا استحقت الحضارة اليمنية القديمة لقب "حضارة الماء والحجر"، حيث تم العثور على قناة مائية متطورة، أو نفق مائي، شُق تحت الأرض كجزء من منظومة ري معقدة تمتد بطول وعرض الوادي الخصيب.
وتُجسد هذه القناة، التي تتراوح أعماقها بين متر ونصف المتر ومترين تحت سطح الأرض، وبعرض يبلغ نصف متر، مهارة وبراعة استثنائية للفلاح اليمني القديم في هندسة الري، وقدرته الفائقة على نقل وخزن وتنظيم وتوزيع المياه الثمينة لري المزروعات في بيئة شكلت فيها المياه سرا من أسرار بقاء الحياة وازدهار الحضارة.
وقال الدكتور فضل العميسي، مدير فرع هيئة الآثار بالمحافظة، أن القناة تُظهر دقة هندسية لافتة. فهي مبنية بأحجار كلسية كبيرة ومصقولة بعناية، وتتجه من الجهة الجنوبية للوادي نحو الشمال. أما سقفها، فمغطى بأحجار جيرية مسطحة وأكثر صلابة، تُعرف في اللهجة الدارجة باسم "الصلل"، وقد غطت ترسبات طينية عمقها عبر العصور.
ورجّح العميسي، في حديث لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ) التابعة لحكومة صنعاء، أن الفترة الزمنية التي أُنشئت فيها هذه القناة تعود إلى عصور الحضارة اليمنية القديمة، وتحديدا إلى الحقبتين السبئية والحميرية. ويزيد من أهمية هذا الموقع قربه من 3 مدن يمنية قديمة معروفة هي: "هجر منقذة"، و"هجر قريس"، و"هجر بدش"، في وادٍ يُعد من أخصب وديان قاع ذمار.
المفارقة أن اكتشاف هذا المعلم الأثري جاء عن طريق الصدفة البحتة، وذلك أثناء قيام السلطة المحلية بإنشاء "كريف" (خزان أرضي) حديث لحصاد مياه الأمطار والسيول بهدف تغذية حوض المياه الجوفية. هذا التدخل الحديث كشف عن العبقرية القديمة، ولكنه تسبب للأسف في تدمير نحو 10 أمتار من القناة قبل أن يتم إبلاغ هيئة الآثار.
وقامت قيادة فرع الآثار، بالتنسيق مع قيادة المحافظة، بإيقاف العمل في الموقع، والنزول الميداني لتوثيق الاكتشاف، وجمع الأحجار التي ظهرت تمهيدا لإعادة ترميم الجزء المتضرر بالطرق العلمية الأثرية.
وأكد الدكتور العميسي أن هذا الاكتشاف يمثل قيمة علمية وتاريخية مهمة، ويفتح المجال أمام مزيد من الدراسات البحثية في هندسة الري القديمة. وشدد على أهمية إجراء ترميم جزئي فوري للقناة حفاظا على هذا المعلم الذي ظل صامدا آلاف السنين، بالتوازي مع نشر الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على الآثار.
كما دعا إلى تنظيم زيارات ميدانية للمختصين والباحثين وطلاب جامعة ذمار، خاصة من كليات الزراعة والهندسة والآثار، لزيارة القناة ودراستها والتعرف على براعة الإنسان اليمني القديم في هندسة الري وحصاد المياه.
ولا يُعد هذا الاكتشاف فريدا من نوعه في المنطقة، فمحافظة ذمار اشتهرت بالعديد من المنشآت المائية المشابهة. ففي مارس/آذار 2010، قادت الصدفة أيضا إلى اكتشاف شبكة قنوات وأنفاق مائية مذهلة في منطقة "الزبل" بمديرية ميفعة عنس، بطول 200 متر وارتفاع يصل إلى 9 أمتار، شُقَت يدويا بين الصخور. كما تشتهر المنطقة بأنفاق بينون وبني حديجة في مديرية الحداء، والتي تُظهر تقنية فريدة تتمثل في رفع المياه ونقلها من واد منخفض إلى واد آخر مرتفع، مما يعكس مستوى متقدما للغاية من التنظيم الزراعي وإدارة المياه.
وكانت الحضارة اليمنية القديمة تُلقب بـ"حضارة الماء والحجر" لأنها قامت على ترويض الطبيعة عبر بناء السدود والقنوات وشبكات الري الجوفية المعقدة، مثل سد مأرب العظيم الذي يُعد من أقدم وأعقد المنشآت المائية في التاريخ. وتُشير الاكتشافات السابقة في مناطق مثل بينون وميفعة عنس إلى أن الإنسان اليمني لم يكتف بالري السطحي، بل طوّر تقنيات الري التحت أرضي لحفظ المياه من التبخر والاستفادة القصوى منها في بيئة شبه قاحلة.
المصدر:
الجزيرة