ينصرف الروائي اليمني حميد الرقيمي عن استحضار زمن يمني غابر، تاركا خلفه حنينا غامضا إلى "يمن سعيد"، لا ينشغل بالبكاء على الأطلال، ويطلق شخصياته في رحلة بحث عن الخلاص، إذ تفر من الموت في البر لتلقاه في البحر.
وفي روايته "عمى الذاكرة" الفائزة بجائزة كتارا للأعمال المنشورة يستعيد الرقيمي ما ألفه من عمله مراسلا حربيا، فيقدم صور الحرب وأهوالها عبر سرد يتقطع حينا ويتصل حينا آخر، تتداخل فيه الأصوات وتتشابك المصائر.
بين جثتين يبصر "بدر" أو "يحيى" الحياة، وباسمين يعيش، إذ يُنسب إلى والدين: أحدهما بيولوجي، والآخر راع ومرب ومعيل، جده هو ذاكرة البلاد، ذاك الذي يروي للكاتب التاريخ ويستشرف له زمنا أشد حلكة مما عاشه.
يفتتح الراوي الحكاية بمشهد سينمائي مكثف يُطارَد فيه البطل من قبل قاتل مجهول أثناء هروبه من صنعاء تحت وابل من الرصاص، لكن الظلام يحميه في رحلته.
ويختتم الرواية بمشهد سينمائي آخر يُلقى فيه البطل على أسطوانة في عرض البحر مغشيا عليه، قبل أن يُنقَذ على يد بحارة يأخذونه إلى جزيرة لامبيدوزا حيث مخيمات اللجوء.
وما بين البدء والختام تمتد حكاية الحرب، إذ "الموت معلق على نوافذ المدينة، وتخرج الظلمة لمواجهة فجر جديد، وعلى ثوبها دم مسفوح بلا هوية، أطفال تناثرت ملامحهم على الغيوم، وصار من المخيف أن تبحث عن طفلك المفقود".
ويرسم الرقيمي لوحة أخرى للحرب "عندما سقطت القذيفة أمامك لم تستوعب الأمر، لم تكن تدري أن الحرب على الأبواب، وأن جماعة خبيثة قادمة للنيل منك، كنت في طريقك إلى البيت تحمل على كتفيك حقيبة حلمك، سقط الموت على مقربة منك، خفت، أخذتك دوخة غريبة، كنت على الأرض، عيناك بالكاد تُفتحان، حولك جثث مرمية وأناس يتعلق سوادهم بأعمدة من لهب، وأنت وحدك الشاهد الذي لن يدلي بشهادته حتى الرمق الأخير".
ويتابع "حينما سمعت أحدهم يطلب ماء لم تقدر على الحركة، كان ينازع الموت، أشار لك بالماء بعد أن فقد صوته، كان يُخرج لسانه والدم يسبق ريقه، أراد أن يحرك يده من أجل أن يلمس لسانه الأحمر، لكنه مات أمامك".
لا تقول الرواية من يقتل من، ولا يُعنى الراوي بتجريم القاتل، بل يمضي في رحلة إلى دواخل الضحايا، إذ تشطرهم الحرب وتصادر آدميتهم وتتركهم للفراغ ورحلات عبث إلى المنفى، يترك وراءه جدل السياسة ومقولات الأيديولوجيا.
بين جيلين يوزع الرقيمي شخصياته، فالجد أحمد يمثل الجيل القديم وحكمة البلاد، وإن شطرته حرب أولى وتركت حكمته، ورؤيته للخلاص هي ترك البلاد.
"كان جدي يقول وأنا على حجره مسندا رأسي: إن الإنسان الذي يخرج عن طوره في لحظة الرفض حقيقي وصادق، وإن الحرب التي لا تغير آدمية البشر حرب سهلة وعابرة، وإن علي أن أهرب من المكان الذي تقوم عليه الحرب، وإن كانت حربك فهي لن تعيدك إنسانا طبيعيا ولن تمنحك نصرا عظيما".
أما الجيل التالي فيمثله سالم خال الراوي، والذي قام مقام الأب، رجل شطرته الحرب أيضا، إذ تقتل زوجته ليعيش بعدها حياة عبثية، وينشأ تنافر بينه وبين الراوي، وكأن الرواية تقول إن الصفاء والحنان يجدهما الجيل الجديد عند الجيل القديم، في صورة الجد الذي يحن إليه دائما.
في المقابل، يرسم الرقيمي للجيل الجديد صورة لا تليق إلا بما تفعله الحرب الضروس بالبلاد والعباد، شخصيات مشظاة منشطرة بين حلمها بالحياة -حتى في أبسط تجلياتها كمشاهدة مباراة كرة قدم- وبين موت حاضر ودائم، يمكن حتى أن "يخرج من حروف كتاب".
يعيش الراوي بين اسمين، بدر قبل وصوله إلى صنعاء قادما لها من الريف، ويحيى ما بعد إقامته في العاصمة، تنمو الشخصية وتتحول، تعيش ضياع الهوية واضطرابات النفس حتى حد التبول على الفراش، لكن الروائي يفك عقدة الشخصية عبر إقامتها على رافعتين: الحب والمعرفة.
يلتقي عبده حمادي (إحدى شخصيات الرواية) -وهو تاجر متجول عركته الحياة- بيحيى الذي يشاركه تجارته، يتولى عبده التجارة ويتفرغ يحيى للدراسة الجامعية، ويمثل عبده شخصية مثقفة واسعة الاطلاع يفتح ليحيى أبواب المعرفة والعلم.
أما الرافعة التي حلت إشكال يحيى مع هويته فهي الحب، إذ يتعرف على "يافا"، فتاة يمنية شغف حب فلسطين والدها فسماها باسم المدينة الفلسطينية العريقة، وتحمل القصة في طياتها إحالة رمزية إلى التعلق الوجداني العميق بين اليمنيين وفلسطين.
تنفك عقدة لسان يحيى الريفي الصامت، فيغدو متكلما وشاعريا، على أن الحرب تئد هذا الحب، إذ قُتلت يافا في أتونها، في حين يُقتل عبده حمادي أثناء ذهابه مع يحيى لإنقاذها.
يتسع الفضاء المكاني في رواية "عمى الذاكرة" ليشمل رحلة الراوي الممتدة من الريف اليمني إلى صنعاء "مدينة الحلم ولوثة العاشق التي ما إن تصيب أحدا حتى تبقيه على قلبها"، ثم إلى عدن التي تغدو محطة أولى في رحلة الموت نحو أوروبا، مرورا بمصر والسودان وليبيا، وصولا إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
وإذا كانت صور الموت والحرب مألوفة في المأساة اليمنية كما بثتها الشاشات عبر السنوات فإن الرقيمي في روايته يقدم صورة أشد إيلاما عن رحلة الموت التي يختارها شباب يمنيون، رحلة ينتهي بهم المطاف فيها غرقى في البحر، ومنهم من لفظ أنفاسه الأخيرة في الصحراء، عدا عن القسوة في أماكن اللجوء.
في لغته، يقتصد الرقيمي حين تقتضي البساطة، ويبذخ متى كانت الحاجة، مستندا إلى شاعرية عالية ومرجعية ثقافية أفصح عنها في استهلاله الرواية بمقطع للشاعر اليمني الراحل عبد العزيز المقالح.
ويستفيد صاحب روايات "حنين مبعثر" (2021)، و"الظل المنسي" (2022)، و"عمى الذاكرة" (2024) من الموروث الأدبي اليمني الضارب بأصالته، ومن تجربته الصحفية القادر فيها على إبداع نص يقارب الصورة ليحاكيها، ويلمح إلى ما وراءها.
وعن فوزه بجائزة كتارا في دورتها الجديدة وروايته "عمى الذاكرة" كان للجزيرة نت معه هذا الحوار:
عميت الذاكرة حين واجه البطل الحرب الأولى التي شوهت ملامح الطفولة والمدينة، فلم يعد قادرا على التمييز بين الحياة والموت، وأبصرت حين اندلعت حرب أخرى وكأن الحروب وحدها من كانت تحدد مصيره وخارطة وجوده، فكانت الكتابة هي الإبصار الوحيد في مواجهة العمى، إذ تحولت إلى فعل مقاومة ضد الفوضى والنسيان.
الهروب من الأيديولوجيا كان مقصودا، لأن الرواية تبحث في الإنسان قبل أي شيء آخر، فالحرب ليست قضية سياسية بقدر ما هي مأساة إنسانية يعيشها الجميع، الابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي منح النص صدقه وعمقه، لأنه كُتب من موقع الضحية وحده.
انشطار البطل بين يحيى وبدر هو تجسيد لانقسام الإنسان اليمني بين ماض مثخن بالجراح وحاضر مضطرب ومستقبل غارق في الدماء، وهو انشطار إنساني أكثر منه رمزي، ومع ذلك أفضّل أن يترك الروائي تأويل نصه لقرائه، فهم شركاؤه في الاكتشاف.
أخذت من سيرتي تفاصيل التجربة الإنسانية: الحرب، الغربة، الفقد، والحنين، وتركت ما هو شخصي وخاص حتى لا تتقاطع ذاتي مع شخوص الرواية الذين يمثل كل منهم جزءا من أي مجتمع وتجربته ونضاله وخيبته.
تكويني الإبداعي بدأ من الذاكرة الشعبية اليمنية وحكايات الجد، وامتد إلى أدب المقاومة العربية، تأثرت بلغة الشعر الحديث، خاصة عبد العزيز المقالح كما يظهر في الإهداء والاقتباس الافتتاحي، جذبتني النصوص التي تمزج بين الذات والتاريخ، فجمعت رؤيتي بين الأدب الواقعي والتأمل الفلسفي في مواجهة العدم.
النهاية المفتوحة مقصودة، لأنها تشبه الواقع اليمني الذي لم يبلغ خلاصه بعد، ليست تغريبة فردية، بل مأساة وطن يعيش التيه والبحث عن المعنى، تركت الباب مفتوحا لأن الحكاية اليمنية لم تُكتب بعد حتى نهايتها، وربما تتواصل في نصوص أخرى.
الموت في الرواية ليس تشاؤما بل احتجاج، أردت أن أقول إن الحرب تقتل حتى من يظلون أحياء، وإن الخلاص لا يتحقق إلا بالوعي والذاكرة، النهايات المفزعة تعبر عن واقع مظلم، لكنها أيضا نداء للحياة، لأن الكتابة نفسها فعل مقاومة وفعل نجاة.
الرواية اليمنية منشغلة اليوم بإعادة كتابة الذاكرة الجمعية وبسؤال الحرب والهوية والمنفى، هناك انتقال ملحوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الوجودية التي تبحث في معنى الإنسان اليمني بعد الانهيارات، إلى جانب تنام واضح في وعي اللغة وتعدد الأصوات السردية.
جائزة كتارا بالنسبة لي هي تكريم للأدب اليمني أكثر مما هي تكريم شخصي، إنها تأكيد على أن الصوت اليمني حاضر ومبدع رغم كل التحديات، كما أنها تمنحني مسؤولية مضاعفة للاستمرار في الكتابة.
ولعل في الألم جمالا تمنحه اللغة والبوح، والصور التي على ألمها تحيل إلى روائي متمكن من أدواته، ومن مخيلته التي يبدع فيها وصفه ويغالي بعيدا في دواخل شخصياته.