آخر الأخبار

سعید یقطین: أمريكا توجه دفة الإبادة والتطهیر العرقي بدعمها للوحشية الصهیونية

شارك

قال الناقد والباحث المغربي الخبير في السرديات الدكتور سعيد يقطين إن أبرز السمات المؤثرة في الشخصية الاعتبارية لـ"طوفان الأقصى" هي أنه "أبان للعالم أن الصهيونية غير قابلة للتعايش مع غيرها، وأن عنصريتها ووحشيتها في التدمير والقتل والتجويع والتعطيش لا علاقة لها بالعصر الحديث".

وقد أكد يقطين -في سياق حوار معمق حول جملة قضايا شغلته طوال عقود من البحث والفكر الأكاديمي بأثره وحضوره المتحقق عبر فعل الكتابة- لـ"الجزيرة نت" أن الصهيونية تمارس وحشية الإنسان في العصور القديمة، بل كشفت أن وحشيتها لا نظير لها في القرن العشرين: عصر الاستعمار والحربين العالميتين.

ويرى يقطين أن "طوفان الأقصى"، هذا الحدث الأكبر، كشف زيف ادعاءات الغرب وأفكاره عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، ودعمه للصهيونية بنشر الأضاليل عن المقاومة.

وأشار بغصة المثقف الذي يرى بعمق وبنظرة متألمة إلى أن العالم العربي والإسلامي اليوم لا موقع له في العصر، وأنه غير قادر حتى على التعبير عن إدانته لما تقوم به أميركا، وهي التي توجه دفة الإبادة بدعمها المطلق ومشاركتها بصورة لا لبس فيها في عملية التطهير العرقي، وتساءل الأكاديمي والباحث السردي سعيد يقطين عن أثر هذا الحدث الأكبر في الإنسان العربي عموما، والمثقفين بصورة خاصة، وما يمكن أن يتولد عنه من تحولات تغير رؤيته للصراع العربي الغربي، وعن موقفه من الغرب، ومن العصر بصفة عامة.

ويقول سعيد إن "هزيمة 1967 قد أحدثت تحولا جذريا في الفكر والإبداع العربيين، فهل يتحقق هذا مع طوفان الأقصى؟" معتبرا الأخير حدثا جللا في زماننا، بل إن يقطين يذهب أبعد من ذلك ويعده الحدث "الأكبر الذي غير مجرى ما كان قيد التشكل ضد القضية العربية والوجود العربي".

الأكاديمي العربي المغربي، الذي عرف بإنجازه طوال عقود مضت في الدرس النقدي بطرح متسق مع رؤية المثقف الذي لا يدفن رأسه في رمال الصحاري العربية الشاسعة، يطرح رؤى واستشكالات ويحلل ويفكك أكثر من خطاب، مبقیا على دور للكلمة في زمن "النعامات"، ناظرا إلى الكلمة كفعل مختلف منذ دأب على البحث الأدبي الفارق وتتبع وحلل خطاب السرديات وسبر غور الميراث الأدبي والنقدي العربي، والنثري والسردي منه بوجه خاص، مقاربا ذلك في سياقات عدة.

إعلان

وهذا ما جعل من منجزه الكتابي أيقونة ومرجعية تواكب بعين الباحث الملم تراجيديات العرب في أزمنة مختلفة، ولا يزال جهده ومنجزه النقدي متواصلا، وبالخصوص ما يتعلق برؤيته: الحدث الفلسطيني الأبرز عالميا، حيث كتب عشرات المقالات في جريدة القدس العربي، وأصدر بعضها بعنوان: "سردية طوفان الأقصى: بملمح بارز ولافت مفاده: لا أمن بدون سلام"، وصدر الكتاب خلال العام الماضي 2024.

مصدر الصورة (الجزيرة)
*

كيف تنظر بعين الناقد والمثقف العربي إلى مجلى الحدث الأبرز اليوم، ومنذ أكثر من عام، إلى "طوفان الأقصى" الذي أفضى إلى أحداث وتحولات تراجيدية على صعيد تجريف الأرض وإبادة الإنسان في فلسطين تحديدا، وغزة بوجه خاص، وغيرها من المدن والبلدات الأخرى؟

أعتبر طوفان الأقصى حدثا جللا في زماننا. إنه الحدث الأكبر الذي غير مجرى ما كان قيد التشكل ضد القضية العربية والوجود العربي. ومنذ بدايته كانت متابعتي له متواصلة، وكتبت عشرات المقالات في جريدة القدس العربي، وأصدرت بعضها في كتاب: "سردية طوفان الأقصى: لا أمن بدون سلام" (2024).

ولعل أهم ما يمكن استخلاصه من دروسه الكثيرة هو أنه أبان للعالم أن الصهيونية غير قابلة للتعايش مع غيرها، وأن عنصريتها ووحشيتها في التدمير والقتل والتجويع والتعطيش لا علاقة لها بالعصر الحديث. إنها تمارس وحشية الإنسان في العصور القديمة، بل كشفت أن وحشيتها لا نظير لها في القرن العشرين: عصر الاستعمار والحربين العالميتين.

يتمثل هذا الحدث الأكبر في أنه كشف زيف ادعاءات الغرب وأفكاره عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، وهو يدعم الصهيونية وينشر الأضاليل عن المقاومة. كما بين أن العالم العربي والإسلامي لا موقع له في العصر، وأنه غير قادر حتى على التعبير عن إدانته لما تقوم به أميركا، وهي التي توجه دفة الإبادة بدعمها المطلق ومشاركتها بصورة لا لبس فيها في عملية التطهير العرقي.

لكني أتساءل عن أثر هذا الحدث الأكبر في الإنسان العربي عموما، والمثقفين بصورة خاصة، وما يمكن أن يتولد عنه من تحولات تغير رؤيته للصراع العربي الغربي، وعن موقفه من الغرب ومن العصر بصفة عامة. لقد ولدت هزيمة 1967 تحولا جذريا في الفكر والإبداع العربيين، فهل سيتحقق هذا مع طوفان الأقصى؟

مصدر الصورة (الجزيرة)
*

في نظرة مستبصرة للجوانب الأكثر تداولا في مساق الفكر النقدي العربي، هلا أوضحت هنا صورة تعاطيك مع النوع الأجناسي كسردية وملمح إبستيمي معرفي من خلال مقارباتك الكثيرة لأنساق وتمثلات كل من مثلث: الأدب، الفلسفة، العلم؟

أرى أنه لولا ما نسميه اليوم الأدب لما كانت الفلسفة، ولولا الفلسفة لما كان العلم. هذا الترابط بين هذه المجالات الثلاثة يكشف بالملموس أن الإبداع الإنساني في صورته الطبيعية هو الأصل: فالأساطير والحكايات والأشعار والأغاني تعبير عن الإنسان وعن رؤيته للعالم وتفاعله مع واقعه بشكل "طبيعي" تلعب فيه الأحاسيس والانفعالات والأحلام والأوهام دورا جوهريا.

وجاءت الفلسفة لتعقلن رؤية الإنسان للعالم، لكنها لم تقض على الأدب. لقد انطلقت منه في محاولتها تفسير العالم، وفي الوقت نفسه مكنته، مع ردح طويل من الزمن، أن يجدد رؤيته إلى العالم. وهي، إلى جانب ذلك، كان لها أثرها في بروز العلم والتكنولوجيا اللذين تأسسا على قاعدة ما عرفته الأفكار من تطور تاريخي.

إعلان

إن هذا المثلث مترابط تاريخيا، وكلما فك الارتباط بين (أضلاعه) كان هناك نقص في ممارسة أي منها. وإذا كانت العلاقة بين هذه الأطراف متكاملة في الكتابات الغربية، حيث نجد الفلاسفة والمفكرين يكتبون عن الأدب والعلم، والأدباء ينطلقون من تصورات فلسفية وعلمية، فلا نجد هذا يتحقق في ثقافتنا بسبب غياب نظريات فلسفية أو اهتمام كبير بها.

وجاء كتابي "إبستيمولوجيا الفكر الأدبي: الأدب، الفلسفة، العلم"، وهو يركز على الدراسة الأدبية لتأكيد أن الدراسة الأدبية العربية التي لا تحقق الترابط بين هذه المجالات تظل ناقصة.


*

تعريجا على مؤلفك "التنبيهات" الذي تستدعي عبره سردية: الأخبار والحكايات، ربما استنفد بعض الباحثين العرب الأفكار عند مقاربتهم الموروث الثقافي العربي. هل تعزو ذلك إلى تعثر في المنهج أم تراه عمًى عن الرؤية أحيانا؟

لا يمكن أبدا استنفاد الموروث الثقافي العربي، لأنه ببساطة متعدد ومتنوع، وذو تاريخ طويل، وجغرافيا ممتدة ومتساوقة مع التاريخ. وتتعلق المسألة في الوقت نفسه بتعثر المنهج الذي يمكننا من إعادة قراءة تراثنا قراءات جديدة، تستفيد من العلوم الإنسانية والاجتماعية واللسانية والمعرفية الجديدة، وتجعلنا بصدد صور جديدة من الفهم والتفسير.

ومن جهة أخرى، أرى أن ما أسميته عمى الرؤية هو المواقف السلبية من التراث العربي الإسلامي لدى بعض المثقفين العرب. وعندما أقارن الآن ما ينتج حول تاريخنا وموروثنا الثقافي في الغرب والعالم، فقط منذ بداية الألفية الجديدة، أرى أن ما يقدمونه من غزارة في الإنتاج، ومن الالتفات إلى جوانب غير مطروقة في الكتابات الغربية السابقة، لا يرقى إليه الوعي العربي، بل ولا يفكر فيه، أو يقتحم عوالمه.

مصدر الصورة (الجزيرة)
*

في ظل رهان الآلة الإسرائيلية وحلفائها على حذف هوية الإنسان والموقف المقاوم، حتى عبر الرواية أو القصيدة كحكاية يومية وسردية خبر عاجل وحدث ومجال مفتوح، كيف ينظر سعيد يقطين وهو مثقف عربي وخبير بسردية اللحظة العربية الراهنة، وما يواكبها من فرجة عالمية إزاء ما حدث وما يحدث وما سيؤول إليه المصير غدا؟

يشغلني كثيرا هذا السؤال. ولا شك أن الإبداع الروائي العربي يقدم لنا نصوصا عن تداعيات هذا الحدث الأكبر، وسيكون له حضور في سرديتنا العربية. لكني أرى أن هذا التحول ضعيف جدا إذا لم يساهم في طرح أسئلة عميقة حول واقعنا العربي، ورؤيتنا للعالم في ضوء هذه التحولات التي أفرزها طوفان الأقصى.

إذا لم يسهم هذا الحدث في بروز تصورات فكرية وتحليلات جديدة لواقعنا ولتاريخنا، وهويتنا وثقافتنا ومستقبلنا بصورة مغايرة لما كنا نتعامل به قبل حدوثه، فلا يمكنني إلا أن أنتهي إلى تأكيد أن هذا الحدث لم يرق إليه الفكر العربي، وظل متخلفا عما قدمته المقاومة من تحولات جذرية.

بالمقابل، أرى أن هذا الحدث كان له أكبر الأثر في الغرب، وخاصة لدى الطلبة الجامعيين وبعض الإعلاميين والمثقفين والفنانين الذين كانوا ضحايا ما يقدم لهم الإعلام الذي تسيطر عليه الآلة الصهيوأميركية منذ عقود طويلة. فلم يكتفوا بالاحتجاج ورفض الإبادة، بل بدأت رؤيتهم تتغير حول الصهيونية والرؤية الأميركية للعالم.

بل إنهم صاروا يراجعون دور الغرب وحضارته التي لا أخلاقيات لها، ولا إيمان حتى بالقيم التي ظلت تروج لها. هذا التغيير سيكون له دور كبير في بروز تيارات جديدة في الفكر الغربي وإبداعاته، ولعل عنوانها الأبرز سيكون من خلال المواقف الجديدة من اليمين المتطرف الذي بدأ يفرض نفسه في الغرب بصورة لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث.

مصدر الصورة (الجزيرة)
*

حدثنا عن فكرة كتابك "الحنين إلى المستقبل"، الذي تحيل فيه إلى مفارقة لافتة تستفز بصورة تفاعلية حواس التلقي نحو الاقتراب من الخطاب ومضمراته؟

إعلان

طلبت مني المديرية الإقليمية بمدينة سطات إعداد كتاب تكريمي ليكون جاهزا في الدورة العاشرة للكتاب الإقليمي بمدينة برشيد في أبريل 2018. ولقد درجت المديرية الإقليمية على مثل هذا التكريم للكتاب والمثقفين الذين تنتمي أصولهم إلى الشاوية. جمعت ما توفر لدي من دراسات وشهادات وحوارات، وكتبت مقدمة للكتاب، واخترت لهذا الغرض العنوان: "الحنين إلى المستقبل".


*

هل يمثل "الحنين إلى المستقبل" هنا تغايرا وانزياحا عن المألوف، وفي المتوقع أن "الحنين" يذهب كما هو معتاد باتجاه "الماضي"؟

لقد أعادني إعداد مواد هذا الكتاب والصور القديمة، وما كتب عني من شهادات وقدم من دراسات، إلى زمن مضى. وما بقي لي من الزمن الذي مضى ليس سوى أنه كان يحلم بالمستقبل الذي ما زلت متمسكا به. لذلك وجدتني، وأنا أعد الكتاب، أسير الحنين ليس إلى الماضي، ولكن إلى ما كان يمثله لي ذلك المستقبل في الماضي.


*

تمضي في جل عناوينك وأعمالك وسرديات منجزك النقدي الوازن إلى نوع من التفلية للمنتج النصي في مظان عدة تشمل آدابا وفنونا وتراثا، يحيل جلها كسمات إلى طبيعة اشتغالاتك وأسلوبك المتعدد في الكتابة. فهل ما يشغلك دائما سيظل محوره السرد العربي وتحليل خطابه وبنياته إجمالا؟

ما ظل يشغلني، وسيظل يثير اهتماماتي ومختلف كتاباتي، هو الإنسان وموقعه في الحياة ودوره فيها. ولما رأيت الإنسان العربي متخلفا عن العصر وعاجزا عن أن يكون له موقع فيه، كان التفاتي إلى ما أنتجه هذا الإنسان، قديما وحديثا، وما قدمه من منجزات تاريخية وإبداعات معاصرة، محاولة مني لمعرفة هذا الإنسان عبر قراءة ما يبدعه.

ويبدو لي أن السرد العربي القديم ظل، إلى جانب الشعر، يمثل الإنسان العربي خير تمثيل، وهو يتفاعل مع مختلف العصور التي عاش فيها، فارضا وجوده وسلطته. وكانت السيرة الشعبية أفضل تجل للمتخيل العربي في التعبير عن واقعه وأحلامه وآلامه. أما الرواية فهي النوع السردي الذي يعمل بدوره على تجسيد الواقع العربي في العصر الحديث.

مصدر الصورة (الجزيرة)
*

كيف بقيت رؤيتك إلى التحولات المضمونية للسرديات العربية في راهنيات تجليها اليوم، وسط زحام كبير ورهانات رقمية وتقنية أصبحت الآن أو تكاد تقض مضجع الأدب والكتاب وسردياتهم المختلفة؟

إن كل وسيط يعطي لما ينتجه الإنسان طوابع خاصة تتلاءم مع خصوصيته. ولما ارتبطت الرواية العربية بالطباعة، فإنها عملت على تحويل السرد من البعد الشفاهي إلى الكتابي، فتغيرت بذلك موضوعاتها وقضاياها الفنية والجمالية. ويمكن قول الشيء نفسه عن الثورة الرقمية، فهي بدورها تعطي الأدب مميزات لم تتحقق في الشفاهي أو الكتابي.

وظل رأيي، الذي عبرت عنه مرارا، يؤكد أنه لا يمكن لأي وسيط أن ينوب عن الآخر أو يلغيه. يمكن أن يتم التأثر والتأثير بينها جميعا، وفي هذا ما يحقق تطورا في الإبداع إذا أحسن توظيف ما يتميز به كل وسيط عن غيره من الوسائط.


*

ربما أراد القارئ العربي معرفة الكثير، لكن مزاجه في المقروئية ربما غادر منطقة الشغف نوعا ما. وإزاء ذلك: كيف تطرح إشكاليات الموقف والرهان على الكتاب العربي والأدب بأجناسه المتعددة في ضوء إشكالية التلقي؟

إن القارئ موجود أبدا ما دام يجد الكتاب الذي يمكنه أن يقرأه. مشكلة القراءة والقارئ تطرح دائما، حتى قبيل الثورة الرقمية، وهي لا تتصل بالكتاب في حد ذاته، بل ترتبط بالتربية والمدرسة والمجتمع. عندما لا نربي الأجيال على حب الكتاب والموسيقى، مثلا، لا يمكننا خلق كتاب ولا موسيقيين.

ومع ذلك، سيظل الكتاب والفن جزءا من تقاليد الشعوب. يمكن للمدرسة والجامعة والإعلام أن تلعب دورا كبيرا في ترويج الكتاب والحث على القراءة. إن الكتاب العربي متطور، وهو يتطور باستمرار وعلى المستويات كافة: شكليا ومضمونا. لكن المشكلة تكمن في غياب القنوات والجسور التي تقام معه ليصل إلى أكبر عدد من القراء. والإعلام الثقافي العربي يلعب دورا في هذا الواقع.


*

في رأيك، هل يتبلور معطى جديد للثقافة اليوم، تكون علاقته التفاعلية متغيرة طردا؟

الثقافة تتطور باستمرار، ومع الثورة الرقمية حدث تطور وانتقال مذهل. لقد أعطت الرقميات بعدا تفاعليا مهما يتجاوز التفاعل التقليدي الذي كان مع الكتاب الورقي. لكن المشكل يكمن في كيفية استثمار البعد التفاعلي في ثقافتنا العربية بالشكل الملائم، لأنه في غياب وعي رقمي لا يمكن للتفاعل أن يحقق كل أبعاده.

إعلان

*

للفكر الرقمي، إذا جاز القول، وجهة نظر متقاطعة في التأثير مع الأدب نوعا ما. هل غدا خطاب الاستهلاك للثقافة كمنتج بمعطى "الحداثة وما بعدها" أفقا لطبيعة وسرعة التلقي البصري، كما في خيارات "الشفاهية الجديدة"؟

كما قلت في جواب سابق، لا يمكن لأي وسيط جديد أن يلغي ما سبقه أو يحل محله. للوسيط الرقمي تميزه عن غيره من الوسائط، لاستغلاله كل الوسائط السابقة (الشفاهي/النصي/الصوري) وتقديمها من خلال وسيط واحد يجمع بينها كلها من خلال الوسائط المترابطة والمتفاعلة.

وفي ضوء هذا التصور، فإن إكراهات الوسائط القديمة تم تجاوزها مع الوسيط الرقمي، وقدمها بطريقة تفاعلية ومتعددة الأبعاد. ولقد كان هذا حلم الإنسان منذ القدم، سواء كان يرسم أو يكتب نصا أو يتكلم.


*

أين تضع اشتغالات النقد الأدبي اليوم؟ هل يبقى له مكان أو حيز، مثلا، للتعاطي مع "خزانة الكتب" والتراث تحديدا، ولو بنسب تفاعلية ضئيلة في الحضور والتأثير؟

لا يمكن للنقد أن يتطور بدون تجديد علاقته بالتراث وخزانة الكتب. إنها الأصل الذي بدونه لا يمكن أن تكون الفروع. وكلما انقطعت الصلة بالتراث، نصا وفكرا، لا يمكننا أن نتطور أبدا.

إن المسافة التي نقيمها مع تراثنا لا نجدها لدى أي أمة متطورة ثقافيا وعلميا. في الغرب، يتعاملون مع تراثهم القديم وكأنه لم يؤلف إلا بالأمس. إنهم يجددون طبع النصوص القديمة ويحققونها بمناهج جديدة، ويتفاعلون معها بطرق مختلفة.

عندنا نميز بين الماضي والحاضر، وننقسم إلى منتصر للماضي أو الحاضر، ولا نقيم الجسور الطبيعية بينهما. ولذلك نجد علاقتنا بتراثنا الغني والمتنوع والمتعدد ناقصة جدا. وما أطلع عليه من كتابات أجنبية حول تراثنا اليوم أجده أهم مما يكتبه العرب عن تراثهم.

إن النقد العربي مطالب اليوم بإعادة قراءة النص العربي، والبلاغة، والنقد العربيين قراءة تتجاوز المواقف التقليدية التي هيمنت في القرن الماضي. وفي ضوء العلوم الجديدة، سنجد التراث العربي مثيرا للكثير من القضايا المعرفية والثقافية التي لم نلامسها قط.

كتب عن السرد واتجاهاته لسعيد يقطين (الجزيرة)
*

في سياق من هوامش كتاباتك النقدية الأولى، التي امتدت من 1974 إلى 1989، كيف تأسس مشروع الكتابة وفكر السرديات في تجربة البدايات لدى سعيد يقطين، ناقدا وخبيرا متجذرا في السرديات الحديثة والمعاصرة؟

عندما بدأت في جمع مادة هذا الكتاب، تبين لي أن الكتابات الأولى التي بدأت بكتابتها ونشرها وأنا تلميذ في الثانوية العامة هي أساس كل ما كتبته في مسيرتي الثقافية. وكنت أتعجب، وأنا أطبع تلك المقالات، من الرؤية التي كانت لدي منذ أربعين عاما، وكان يبدو لي وكأن بعض المقالات لم تكتب إلا أمس. أرجع هذا إلى عاملين اثنين:


* العامل الأول يكمن في إدمان السؤال، الذي أطرحه حول كل ما أقرأ. كان السؤال عندي هو المدخل لتلقي المعرفة.
* أما العامل الثاني فهو: الفكر النقدي. فلم يكن يعنيني الكاتب أو المفكر وموقعه في الساحة الثقافية. كنت دائم الجدال مع أساتذتي، ولا أقنع بالجواب، وكان هذا يفرض عليّ البحث الدائم عما يطرد معرفتي. في السنة الأولى من الثانوية العامة، كان أستاذ الأدب متحمسا لطه حسين ودوره في كتابة تاريخ الأدب، فناقشته في دفاعه عنه. وقدمت محاضرة في دار الشباب بفاس، حضرها تلاميذ وطلبة وأساتذة حول تاريخ الأدب، بينت فيها اختلافي مع طه حسين والرافعي وغيرهما.

لقد تشكل لديّ هذا الوعي مبكرا لأني كنت أقرأ أي كتاب، وأشتري كتبا في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والفكر، وأقرأ كل شيء. ومن خلال قراءاتي المتعددة بالعربية والفرنسية كنت أختار الموقف الذي أتبناه من الأدب والفكر والسياسة. فلم تكن عندي بديهيات ولا يقينيات مطلقة. ومن هنا جاء تمسكي بالبحث العلمي الذي ما أزال أدافع عنه، وأراه مفتقدا في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة، ولا سيما في العلوم الإنسانية والاجتماعية.


*

يرتكز منجزك البحثي والنقدي على دلالات مرجعية ومفاعلات ثقافية استطعت من خلالها المزاوجة بين ثنائية: "الكتابة والصداقة". هل هو مجرد توقف يستدعي محطات وانتظارات بعينها في قطار العمر ودروب الثقافة والإبداع، أم أنه الاشتغال الحثيث على تخوم السيرة ومقاربة "شخصيات وذكريات" أثرت تجاربها وأصحابها الثقافة المغاربية وتماسها بهوامش ثقافية في المشرق، بصورة أو بأخرى؟

علاقة الكتابة بالصداقة أراها أزلية. فإذا كان الكتاب نعم الجليس والصاحب، فإن صاحب الكتاب يغدو جزءا من علاقتك بالعالم، تماما كعلاقتك بوالديك وإخوانك وزوجتك وأولادك. بل إن بعض الكتاب تغدو علاقتك به أهم من الكثير من الناس الذين تربطك بهم علاقة وطيدة.

إن القرآن الكريم والحديث النبوي والشعر الجاهلي من أعظم أصدقائي الذين لا يمكنني ألا أتصل بهم. ويمكن قول الشيء نفسه عن الكثير من الكتاب العرب والأجانب الذين أتفاعل معهم، وأجدد علاقتي بهم تماما كما أفعل مع التراث الشعبي.

وكتاب "الكتاب والصداقة" جاء بعد أن توفرت لديّ مادة مهمة كنت قد كتبتها منذ سنوات في تكريم أحد الكتاب أو تأبينهم، ممن كانت لي بهم علاقة مباشرة أو فقط من خلال قراءة أعمالهم. وأعتبر هذا نوعا من الاعتراف بمن جمعتني بهم الكتابة والكتاب، وجعلتهم أصدقاء لي يختلفون كثيرا عن الكثير من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم طيلة حياتي.

(الجزيرة)
*

لماذا في رأيك لا يزال بعض المشارقة والمغاربة تعتريهم حساسية مفرطة عند طرح ثنائية: ثقافة المشرق وثقافة المغرب؟

أعتبر ثنائية المشرق والمغرب ثنائية زائفة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الثنائيات التي يتمسك بها بعض مثقفينا ومبدعينا، مثل الأصالة والمعاصرة، والدين والعقل، وما شابه ذلك من الثنائيات التي لا تعمل إلا على تقويض العلاقات وإقامة الحدود والفصل بين الأعراض والجواهر.

إن التناقض بين الأشياء أو التقابل بينها وليد صيرورات قد تكون تشكلت في زمن غابر، لكن التمسك بها في أزمنة مختلفة يعد استرجاعا سلبيا للتاريخ. لا شك أن الصراع بين الشقيقين، والقبيلتين، والدولتين المتجاورتين له أسباب قد تكون أحيانا بسيطة ومفتعلة، لكن إبقاء هذا الصراع أزليا لا يدل إلا على الحقد والبغضاء التي تحييها صراعات جديدة لا علاقة لها بما مضى.

كان الأندلسيون يرون أنهم متفوقون، ولكن المشارقة لم يكونوا يعترفون بهم. لقد ظل الأندلسيون يرون أن الأصل هو المشرق، وظل طموحهم أن يكون لهم موقع متميز. وفعلا نجحوا في ذلك، فكان تراثهم جزءا من التراث العربي، ولا يقل أهمية عما أنتج في المشرق.

في العصر الحديث، كان لسبق المشرق العربي في النهضة، أثره في التميز والاختلاف عن المغرب العربي. لكن المغرب مع الزمن، وفي نطاق تفاعله مع المشرق، صارت مساهماته في تطوير الثقافة العربية واقعا لا ينكره أحد. قد نجد من يقيم التمايز بين المشرق والمغرب على أساس خصوصية كل منهما، ولكن الواقع يبين أن الواقع واحد رغم الاختلاف.

أما الجديد في العلاقة بين المشرق والمغرب، فقد بدأ بتجاوز العامل الثقافي الذي تحقق عبر زمان طويل بين مختلف مكونات المجتمع العربي، وبدأت الثنائية ليست فقط بين المغرب والمشرق، ولكن بين المغاربة أنفسهم والمشارقة أيضا. وأساس هذه الثنائيات هو: عربي/أمازيغي في دول المغرب العربي، وفي المشرق بين: سني/شيعي، علاوة على التمييز الطائفي.

لقد بات جليا أن من عمل على خلق هذه الثنائيات في العالم العربي هو الاستعمار، الذي قسم أوصال الوطن إلى أجزاء، واليوم تقوم الصهيونية والغرب بتغذية الصراعات، واستغلال المكونات التي تتشكل منها المنطقة لإدامة الانقسام الذي لا يخدم الإنسان في هذه المنطقة.

لكن العمل الثقافي يكشف بصورة جلية أن تلك الثنائيات لا أساس لها. فالنص الأدبي الذي يكتب في المغرب يقرؤه المشرقي، أيا كانت طائفته أو مذهبه، لأنه يرى فيه تعبيرا عن آماله وآلامه، والعكس صحيح.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار