آخر الأخبار

توماس فوسين: لا معايير للشرعية السياسية والارتباط بالسلطة يتجاوز الخضوع والمقاومة

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

يثير مفهوم الشرعية السياسية نقاشات فكرية واسعة ومتشعبة، تتجاوز حدود الأروقة الأكاديمية لتصل في بعض الأحيان إلى نزاعات حادة قد تتحول إلى صراعات مسلحة على أرض الواقع. فما يعتبره البعض حقًا أصيلًا في الحكم، يراه آخرون مجرد ادعاء أجوفَ للسلطة، مما يخلق تضاربًا جذريًا في المواقف العملية تجاه الأنظمة السياسية. هذا الجدل العميق حول "الحق في الحكم" لا يقتصر على سؤال "هل هذا النظام شرعي أم لا؟"، بل يتسع ليشمل "لماذا" قد يكون كذلك، مما يفتح الباب أمام خلافات شديدة حول المبادئ والمعايير التي تحدد الشرعية.

يظل هذا التنازع قائمًا، في كل من النظرية والتطبيق، حتى في ظل أفضل الجهود لتحديد المبادئ والشروط الضرورية والكافية لتحقيق الشرعية. من هنا، يأتي كتاب "توماس فوسين" (Thomas Fossen) "في مواجهة السلطة.. نظرية في الشرعية السياسية" (Facing Authority: A Theory of Political Legitimacy) المنشور في مطبعة جامعة أكسفورد عام 2024، مقدمًا نهجًا مختلفًا لا يسعى لحل الجدل فلسفيًا، بل لإضاءة الطرق التي يمكن من خلالها التعامل مع سؤال الشرعية من منظور عملي، بعيدًا عن البحث عن حلول نظرية جاهزة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 من ساند كريك إلى غزة.. أميركا وثقافة الإبادة الجماعية
* list 2 of 2 ألفريد هوبير ورحلة مستشرق ألماني من الشك الأكاديمي إلى يقين القرآن end of list

يُمثلُ الكتاب دراسة متعمقة تتناول الشرعية السياسية، ليس من منظور تقليدي يركز على تحديد شروطها المسبقة، بل من خلال فحص ممارسة الحكم والتجربة العملية لمواجهة السلطة. ويتحدى النظريات السائدة التي تعتبر الشرعية خاصية مجردة يمكن تحديدها بمعايير ثابتة، ويقترح بدلاً من ذلك أنها وضع معياري يُنسب أو يُحجب من وجهات نظر ملموسة ومتجسدة للذوات السياسية التي تتخذ مواقف تجاه نظام ما.

يقدم فوسين نهجًا براغماتيًا يرى أن الشرعية مفهومٌ عملي يتم بناؤه وتفسيره من خلال الأنشطة السياسية اليومية، ويناقش أن الحكم على الشرعية ليس مجرد تطبيق لمبادئ معينة على حقائق معطاة، بل هو عملية معقدة ومتعددة الأوجه تنطوي على تشكيل تصورنا للواقع السياسي، والحفاظ عليه، وتغييره، وأحيانًا تقويضه. وهذا يعني أن فهم ما إذا كان النظام شرعيًا يتضمن أنشطة مستمرة مثل تصوير السلطة، وتحديد الهوية (الذاتية والجماعية)، وتفسير الأحداث التاريخية والمعاصرة. ويرى أن هذه الأنشطة ليست مجرد تحضيرات للحكم، بل هي جوهر عملية الحكم نفسها.

إعلان

كما يرى فوسين في متن كتابه أنّ الشرعية ليست خاصية ثابتة أو مستقلة عن التجربة، بل هي "وضع معياري" يُنسب أو يُحجب من وجهات نظر متجسدة للذوات السياسية. هذا يمكّن فوسين من تفسير الفرق بين الشرعية بحكم القانون (de jure) والشرعية بحكم الواقع (de facto). فالشرعية بحكم القانون لا تعني خاصية موضوعية للنظام، بل هي إقرار بأن السلطة تستحق الشرعية من منظور معين، في حين أن الشرعية بحكم الواقع تشير إلى كون السلطة مقبولة أو مُعترفا بها من قبل الآخرين. وهذا التمييز، كما يوضح فوسين، ينشأ منطقيًا من وجهة النظر العملية للمشاركين في الممارسة السياسية، بدلاً من كونه خاصية ميتافيزيقية مستقلة.

ويضيف أنّ الحكم الجيد لا يتأتى من مجرد تطبيق المبادئ الصحيحة. وبدلاً من ذلك، يعتمد على "أنماط مشاركتنا في موقف ما، وعلى الطرق التي نختبر بها جوانب مختلفة من الواقع السياسي ونستجيب لها في ظل ظروف عدم اليقين والخلاف".

يشجع فوسين على فهم الحكم باعتباره "عملية ضبط للواقع"، حيث يتضمن الأمر مواجهة مستمرة للتحديات التي تفرضها السلطة على الأفراد. وهو يقترح ثلاثة أبعاد لجودة الحكم: الاتساق بين الهويات المتعددة للفرد (الشخصية والجماعية)، والنزاهة في تجسيد الذات في العالم، والاستجابة لشكوك الهوية الجوهرية وعدم اليقين.

يعتبر فوسين أن الشرعية هي "ممارسة فوضوية"، وهذا لا يعني أنها عشوائية أو ذاتية بحتة، بل يشير إلى أنها لا يمكن تسويتها بشكل نهائي أو من خلال مرجع واحد. وباختصار، فإنّ الكتاب يدعو إلى فهم أعمق لكيفية ظهور أسئلة الشرعية في الممارسة العملية، وكيف يمكن للأفراد التعامل معها بشكل هادف.

لذا نستضيف في الجزيرة نت توماس فوسين، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة لايدن في هولندا، والباحث في جامعة غوته بفرانكفورت، للحديث عن كتابه المترجم حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

فإلى الحوار:

مصدر الصورة توماس فوسين (جامعة لايدن)
*

في سياق الفجوة بين الطرح الفلسفي المجرد للشرعية والممارسات العملية اليومية، ومع غياب إجماع حول المعايير المحددة لشرعية الأنظمة السياسية، كيف يمكن لنظرية الشرعية أن تتحول من مجرد السعي لتقديم مبادئ جاهزة إلى إطار عملي يساعد الأفراد على تحديد مواقفهم والتعامل مع معضلات السلطة في حياتهم؟

تتمحور الرسالة الجوهرية للكتاب حول قضايا الشرعية، مع تركيزه على كيفية التعامل عمليًا مع أشكال السلطة التي نواجهها يوميًا. فجميعنا نجد أنفسنا في مواجهة نظام يسعى إلى حكمنا بطرق متنوعة، ما يطرح مشكلة عملية حول كيفية التعاطي مع ذلك. تتعدد طرق التعامل مع النظام، سواء بالخضوع، أو المقاومة، أو محاولة التجاهل، أو حتى الفرار.

في رأيي، يتمثل محور سؤال الشرعية في تحديد الموقف الواجب اتخاذه تجاه النظام الذي يواجهك. يسعى الكتاب بشكل أساسي لتقديم إجابة لهذا السؤال، محاولًا إدراك ما تعنيه الشرعية، وما ينطوي عليه ذلك عمليًا في معالجة هذه المشكلة.

يتناول الكتاب محاولة للتوافق مع الطرق الفلسفية في التفكير بالشرعية، ويسعى إلى دراسة مدى مساهمة النظرية الفلسفية في معالجة هذه المشكلة العملية المتعلقة بكيفية التعامل مع الأنظمة. ونظرًا لعملي في الفلسفة السياسية، فقد انخرطت في الجهد الفلسفي للإجابة عن هذا السؤال.

يبدو لي أن هناك فجوة واضحة بين الكثير من العمل الفلسفي حول الشرعية السياسية والممارسات الفعلية، والمعضلات، والمشكلات التي يواجهها الأفراد في حياتهم اليومية عند التعامل مع أنظمتهم. يميل الفلاسفة إلى السعي لتقديم إجابة قاطعة عن سؤال: متى يكون النظام شرعيًا حقًا؟ إنهم يحرصون على تقديم معايير، أو مبادئ، أو محكات لتقييم ذلك، وعادة ما تكون هذه المعايير أخلاقية بطبيعتها.

إعلان

يقدم الفلاسفة عادةً نظرية تسعى لتحديد شرعية الأنظمة. تفترض هذه النظريات أنه بتوفر مجموعة صحيحة من المعايير والمعرفة بالحقائق المتعلقة بالنظام، يمكن تحديد ما إذا كان شرعيًا أم غير شرعي.

لكن، يتضح أن هذا التحدي يمثل تمرينًا مجردًا للغاية وجانبًا واحدًا من المشكلة. فهل توجد مثل هذه المعرفة الفلسفية أساسًا؟ إذا أمعنت النظر في الأدبيات الفلسفية، ستجد أن الفلاسفة أنفسهم يختلفون بشدة حول هذه المعايير أو المحكات حتى يومنا هذا. لقد ناقشنا قرونًا حول هذا السؤال، ولكن لا يوجد أي إجماع تقريبًا. يعتقد البعض أن الشرعية تتعلق في المقام الأول بالسلام والأمن، أي مدى توفير النظام لذلك الكيان السياسي، بينما يرى آخرون أنها تتعلق بضمان حقوق الإنسان، وغيرهم بموافقة المحكومين، وآخرون بالديمقراطية.

يبرز نطاق واسع من وجهات النظر الفلسفية والنظريات والمعايير التي تدّعي تحديد شروط شرعيةِ أيّ نظام. ومع ذلك، ما زلنا عالقين في خلاف أساسي، سواء في النظرية أو في الممارسة، حيث يكافح الناس حول مفهوم الشرعية. يتجلى هذا أحيانًا بشكل علني جدًا، في لحظات الثورة والاحتجاجات المطالبة بإسقاط الأنظمة. وحتى في غياب الاحتجاجات العلنية، تستمر الخطابات والمناقشات حول الشرعية.

يتساءل المرء: هل يختلف الناس جوهريًا حول هذا الأمر؟ وبالنظر إلى هذا الخلاف العميق، يبدو أننا غير قادرين على حل النزاع الجوهري حول متى يكون النظام شرعيًا؟ فهل توجد طرق عملية للتعامل مع هذا السؤال؟ تخيل أنك تواجه هذا الموقف عمليًا، ويدعوك أصدقاؤك للمطالبة بإسقاط النظام والانضمام إليهم، فتتساءل: ماذا تفعل؟ وما الذي ينطوي عليه معالجة هذا السؤال؟

لذلك، لا أعتقد أن الأمر يمكن أن يكون مجرد مسألة تطبيق معرفة فلسفية، لأننا لا نملك اتفاقًا حول تلك المعرفة. لهذا السبب، أعتقد أننا بحاجة إلى تحويل تركيزنا من إيجاد المجموعة الصحيحة من المبادئ والمعايير؛ إلى التفكير في كيفية التعامل مع قضايا الشرعية كمشكلات عملية. هذا هو التحول الأساسي في التفكير في الشرعية الذي يحاول الكتاب توضيحه والدفاع عنه، لمعرفة إلى أين يمكن أن يقودنا، وليرى ما إذا كان يمنحنا فهمًا أعمق للمشكلات والمعضلات التي يواجهها الناس عند مواجهة أسئلة الشرعية.

مصدر الصورة ينتقد توماس فوسين في كتابه "في مواجهة السلطة.. نظرية في الشرعية السياسية" ماكس فيبر على المستويين السوسيولوجي والفلسفي، وفي رؤيته للشرعية واحتكارها (مواقع التواصل)
*

بالعودة إلى الفصل الأول من كتابك، تفتتح عملك بانتقاد الإنتاجات الفكرية السابقة حول الشرعية والسلطة.. أنت لا تنتقد المعيارية فحسب، بل تطال انتقاداتك أيضًا ماكس فيبر، على المستويين السوسيولوجي والفلسفي، في رؤيته للشرعية واحتكارها.. هل يمكنك أن توضح لنا هذه الفكرة بمزيد من التفصيل؟

يُعد ماكس فيبر أحد أبرز ممثلي المنهج السوسيولوجي للشرعية، والذي يمكن مقارنته بالمناهج الفلسفية. هناك انقسام واضح في الأدبيات الأكاديمية بين هذين المنهجين. يهتم علماء الاجتماع، مثل فيبر، بالدرجة الأولى بتفسير سلوك الناس والأنظمة، سعيًا لفهم تصرفات الأفراد.

على النقيض، يهتم الفلاسفة بالسؤال: متى يكون النظام شرعيًا حقًا؟ فبينما يُعنى علماء الاجتماع بالظروف التي يَعتبر فيها الناس نظامًا ما شرعيًا، والأسس التي يستندون إليها في هذا الاعتقاد، يتساءل الفلاسفة عن صحة تلك الأسس وما إذا كان لدى الأفراد سبب حقيقي لاعتبار النظام شرعيًا.

لذلك، يمكن النظر إلى الأمر من المنظور المثالي والعملي: يميل الفلاسفة نحو المثالي، متسائلين عن الشرعية الحقيقية للنظام، بينما يتجه علماء الاجتماع نحو الواقعية، محاولين فهم كيفية تصرف الناس بالفعل. وعادةً، لا يرغب علماء الاجتماع في إصدار أحكام معيارية.

إعلان

تنفصل هذه الأدبيات وتُدار بمعزل عن بعضها البعض بشكل كبير، ويعود ذلك إلى طرح كل منها أسئلة مختلفة. يتضح هذا في الموقف العملي حيث يواجه الفرد نظامًا ويتساءل عن التصرف الصحيح. فعلى سبيل المثال، يشرح علماء الاجتماع سلوك الناس، لكنّ هذا لا يحدد ما ينبغي فعله، بينما يسعى الفيلسوف لتقديم معرفة أخلاقية أعمق، يمكننا التشكيك في إمكانية تحقيق هذه المعرفة الأخلاقية بالفعل، حيث لا يزال هناك خلاف عميق حولها. لذا، لا يرتبط أيٌّ من هذين المنهجين -مباشرةً- بمنظورات الأفراد الذين يواجهون صراعات واقعية حول الشرعية.

تسعى هذه المحاولة إلى صياغة منهج وسطي يجمع بين المناهج السوسيولوجية والفلسفية. ورغم أن هذا المنهج قد يظل فلسفيًا بطبيعته، وربما يتجاوز الطابع السوسيولوجي، فإنه يقدم شكلًا مغايرًا من التفلسف. يهدف هذا التوجه إلى إرساء علاقة أوثق بالممارسات الواقعية، خاصة تلك المرتبطة بالصراعات حول الشرعية.

مصدر الصورة الشرعية تُبنى في الممارسة والصراع، لا في المبادئ فقط (شترستوك)
*

في كتابك، أجدك تنتقد الواقعية ونهجها في رؤية السلطة.. أنت لا تزال تنتقد الواقعية، وترى أنها لا تختلف كثيرًا عن المعيارية. وفي الوقت نفسه، تقدم لنا منهجًا يوضح كيف يمكننا التعمق في السلطة والشرعية بطريقة مختلفة، مستعرضًا مقارباتٍ مثل تلك التي يقدمها هابرماس ورولز.. أليس هذا صحيحًا؟

أنت تتحدث عن الواقعية، وهي تيار متزايد الشعبية في التنظير السياسي. ينتقد الواقعيون الاتجاه الأخلاقي السائد في الفلسفة السياسية، فالأخلاقيون يسعون لتقديم مبادئ أو معايير أخلاقية، أي المعرفة الأخلاقية. ويرى الواقعيون إشكالية في هذه الأخلاقية، تتمثل في نوع من التجريد.

لذا، يوجد تقارب وثيق بين ما أعمل عليه في الكتاب وبين الواقعية، إذ يبدأ كلانا بنقد هذا التجريد في الفلسفة السياسية السائدة. لكن في رأيي، يظل الواقعيون السياسيون، خاصة أولئك الذين تعمقوا في أسئلة الشرعية وطوروا منهجًا بديلًا للأخلاقي، أقرب إلى المنهج الذي ينتقدونه مما يدركون. يحاولون تزويدنا بمعايير أو محكات سياسية لا أخلاقية.. لست متأكدًا تمامًا مما يعنيه ذلك، أو ما الذي يعنيه وجود معايير سياسية لا أخلاقية للشرعية.

النقطة الأساسية بالنسبة لي هي أنهم لا يزالون ينظرون إلى مهمة نظرية الشرعية على أنها صياغة مبادئ أو معايير.. يعتقدون فقط أنه يجب إيجاد مصدر مختلف لتلك المبادئ أو المعايير. لكن مهمة نظرية الشرعية بالنسبة لهم تبقى كما هي لدى الأخلاقيين.

تتمثل الخطوة التي أسعى إليها في الكتاب؛ في الابتعاد عن هذه الصورة التي تربط النظرية بصياغة وتبرير المعايير أو المحكات، سواء كانت أخلاقية أو سياسية. نركز بدلًا من ذلك على فهم "الحكم"، وأقصد بالحكم معالجة سؤال الشرعية من منظور عملي كما ينشأ في الممارسة. فما الذي ينطوي عليه سؤال أو مشكلة عملية كهذه؟

بمجرد طرح هذا السؤال، أعتقد أن الأخلاقي والواقعي يفترضان الأمر نفسه، دون أن يطرحا السؤال صراحة.. إنهما يفترضان أن الحكم هو تطبيق مبادئ أو معايير، لكنني أعتقد أن التفكير بواقعية أكثر، والنظر في تجارب الناس وصراعاتهم من أجل الشرعية، وفي ما ينطوي عليه معالجة هذه الأسئلة، سيكشف صورة أكثر تعقيدًا بكثير.

الحكم أكثر تعقيدًا من مجرد تطبيق معايير أو مبادئ أخلاقية أو سياسية.. إنه أكثر تعقيدًا بكثير لأنه ينطوي على جميع أنواع الأنشطة، ليس مجرد فعل عقلي، بل أشكال مختلفة من الأنشطة والمشاركة في الممارسات.

لذا، فإن التحدي بالنسبة لي هو تطوير نظرية للحكم.. إذا كنت ترغب في الحصول على نظرية للشرعية، فيجب أن تكون لديك نظرية للحكم، وهي نظرية تقدم تفسيرًا لما ينطوي عليه الحكم على الشرعية. أجد أنه لا الأخلاقي ولا الواقعي قدّم ذلك، كما أن النهج السوسيولوجي الذي يقدمه ماكس فيبر لا يوفره أيضًا.


*

كيف يمكن لمفهوم "الحكم"، الذي لا يمكن تفويضه ويتجاوز مجرد الامتثال أو المقاومة؛ أن يصبح إطارًا براغماتيًا لفهم الشرعية السياسية، مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد المتعددة لهذا الفعل، مثل تحديد طبيعة السلطة، وتشكيل الهويات الفردية والجماعية، وديناميكية السياق الزمني والمكاني الذي تنشأ فيه صراعات الشرعية؟

نربط أنفسنا حتمًا بالسلطة بطريقة أو بأخرى.. سواء كان ذلك بالامتثال، أو المقاومة، أو محاولة التجاهل، نظل مرتبطين بها عمليًا ونحكم عليها.

إعلان

يشير مفهوم "الموقف" إلى أن هذا الارتباط العملي يتيح اتخاذ طرق مختلفة. يمكن اتخاذ أنواع متباينة من المواقف: قبول النظام ومسايرته، أو رفضه ومقاومته، مع وجود إمكانيات عديدة بينهما. تختلف هذه المواقف الأساسية تجاه النظام.

في مثل هذا الموقف، تعد المطالبة بشرعية النظام أو إنكارها، أساسًا وتوضيحًا لموقفك العملي تجاهه. فقولك إن نظامًا ما غير شرعي يعبّر عن رفضك له، وأنك لا تعتقد بامتلاكه الحق في الحكم، بينما قولك إنه شرعي، يوضح -لك وللمواطنين الآخرين- اعتقادك بصلاحية الالتزام به ودعمه.. هذه هي الفكرة الجوهرية للموقف.

هنا يبرز السؤال: ما الموقف الواجب اتخاذه؟ وما الموقف المناسب تجاه هذا النظام بالذات؟ هكذا يتجلى سؤال الشرعية كمشكلة عملية. إذا دعاك الأصدقاء للنزول إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط النظام، فهم يقولون أساسًا: "النظام غير شرعي.. انضم إلينا وشاركنا موقفنا". حينها تواجه السؤال: "ما الموقف الذي أرغب في اتخاذه؟ وما الذي يتضمنه التعامل مع هذا السؤال؟".

هنا يظهر النهج البراغماتي الذي ذكرته. أعتقد أن معالجة هذا السؤال هي مسألة الانخراط في أشكال مختلفة من النشاط السياسي أو الممارسات.. هذا الأمر معقد ويتطلب توضيحًا، فالجزء الثاني من الكتاب بأكمله مخصص لشرح جوانب متنوعة من هذه الممارسات التي -برأيي- تشكل معًا "الحكم" عندما يتعلق الأمر بشرعية النظام.

يمكن التفكير في الأمر من خلال ثلاثة أبعاد عند تحليل فعل الحكم: هناك الشخص الذي يحكم، وموضوع الحكم، والمحيط الذي يحدث فيه فعل الحكم.. كل جانب من هذه الجوانب التخطيطية يمثل بعدًا أساسيًا لمشكلة سؤال الشرعية.

عند النظر إلى شخص ما بصدد نظام ما، فإن موضوع الحكم هو النظام ذاته. لذا، جزء مما هو على المحك في سؤال الشرعية، وجزء مما يتضمنه، وإحدى الممارسات المتضمنة في الحكم على النظام هي تحديد طبيعته بدقة. أُطلقُ على هذا "تمثيل السلطة" أو "تصوير السلطة".

لأن أحد الأمور التي ترغب في معرفتها، إذا كنت تتساءل: "كيف أتعامل مع هذا النظام؟" هو: "ما نوع هذا النظام؟ هل هو ديمقراطية برلمانية، أم دولة بوليسية، أم شيء آخر؟".. يقدم النظام نفسه بمصطلحات معينة، وبطريقة معينة، أي يصور نفسه كشيء ما في الوقت الحاضر، غالبًا كديمقراطية بشكل أو بآخر. ولكن هل النظام هو بالفعل ما يصوره عن نفسه، أم أنه مجرد واجهة؟

معالجة هذا السؤال تندرج ضمن السؤال نفسه.. إنها ليست مسألة فردية، بل انخراط في ممارسات جماعية. أنت بحاجة لمعرفة ما يفعله النظام بالفعل، وليس فقط أنت كفرد.. الحكم ليس فعلًا فرديًا، بل يتطلب الانخراط مع الآخرين.. هذا جزء من كونه ممارسة.

لذلك، ينطوي تمثيل السلطة على محاولة تحديد ما يفعله النظام بالضبط كجزء من توصيف نوعه، وهذا يجسد بعدًا أساسيًا من أبعاد الشرعية، وهو موضوع الحكم.

يوجد أيضًا فاعل الحكم، أي الشخص أو المجموعة التي تقوم بالحكم. أعتقد أن سؤال الشرعية يتعلق جزئيًا بهويتك. وأقصد بالضمير "أنت" هنا: الشخص الذي يصدر الحكم.. إنه سؤال هوية في جزء منه. فالنظام -بحكمه- يعاملك كمواطن أو رعية، وينسب إليك نوعًا من الهوية.

لكنّ جزءًا مما هو على المحك في معالجة سؤال "هل هذا شرعي؟" هو: هل أقبل تلك الهوية المنسوبة إلي، أم أفكر في نفسي بشكل مختلف عما يراه النظام، أم أفكر في معنى هويتنا الجماعية التي يحاول النظام تعبئتها بطريقة تختلف عن فهم النظام نفسه؟ إذا كان الأمر كذلك، فهناك فجوة بين كيف يراك النظام وكيف ترى نفسك.

إذن، سؤال الشرعية هو سؤال حول هويتك، سواء بالمعنى الشخصي لما يعنيه لك كفرد على علاقة بهذا النظام، أو بوصفك عضوًا في مجموعات.

مصدر الصورة الديمقراطية والهوية لا تتشكل نظريا فقط، بل بالممارسة الجماعية (الجزيرة)
*

كيف يمكن لنظرية الشرعية أن تتجاوز الجمود الفلسفي التقليدي، الذي يركز على تحديد المعايير وتقديم التوجيهات، لتواكب الديناميكية المستمرة للهويات والممارسات السياسية في المجتمعات الحديثة، مع الأخذ في الاعتبار أن الحكم لا يمكن تفويضه وأن دور الفلسفة يقتصر على التوضيح لا الحل؟

يُعنى الكتاب بتعريف الشرعية وفهم مفهومها، وهو ما قد يفسر الانطباع بأنه "يتمسك بتعريف الشرعية". ورغم أنه لا يقدم توجيهات مباشرة للأفعال، فإنه يوفر إطارًا ومجموعة من المفاهيم لتفسير الصراعات.

يُعد هذا اختلافًا جوهريًا بين منهجي في هذا الكتاب وبين نهج الفلاسفة الأخلاقيين والواقعيين في الفلسفة السياسية. فزملاؤنا يميلون إلى تقديم مبادئ وتوصيات مباشرة للمواطنين، في حين يسعى كتابي لفهم المواقف وتفسيرها وتوضيحها.

في رأيي، لا يتطلب الحكم على الشرعية معرفة فلسفية متخصصة أو تطبيق نظرية جاهزة، بل ينطوي على الانخراط في ممارسات متنوعة. مساهمة الفيلسوف هنا محدودة ومتواضعة، تقتصر على فهم ما يحدث وتوضيح المشكلات والمعضلات العملية، لا حلها.

يجب على الناس معالجة هذه المسائل والحكم بأنفسهم، فالحكم لا يمكن تفويضه. إذا كان جزءًا من الاعتراض هو أن الكتاب لا يقدم وصفات مباشرة أو يخبر الناس بما يجب عليهم فعله، فأنا أعتبر ذلك ميزة لا عيبًا.

تُحاول الدولة تثبيت الأمور وجعلها ثابتة، لكن هذا التثبيت ليس آمنًا في عالم السياسة. أرى أن ديناميكية الممارسات السياسية جزء أساسي من واقعنا.

لا يوجد معنى حقيقي وثابت للديمقراطية إلى الأبد، فالديمقراطية تتطلب عملًا جماعيًا مستمرًا وتبقى مفتوحة للتساؤل. وبالمثل، لا يوجد معنى حقيقي وثابت للهوية الوطنية، سواء كانت مصرية، أو أوكرانية، أو أوروبية، أو أميركية، لأن كل هذه الهويات السياسية تخضع للصراع المستمر.

أعتقد أن هذه الصراعات مفتوحة النهايات، فالناس يمكنهم تغيير وتعديل تصوراتهم حول ما يعنيه كونهم مواطنين في دولتهم. ومن النقاط الأساسية في الكتاب أن هذه السمات من واقعنا السياسي قابلة للتساؤل بطبيعتها، وتُحل عبر الممارسات السياسية، والمنافسة، والصراعات.

لا يوجد موقف خارجي يمكن من خلاله الفصل النهائي في هذه الصراعات، وتحديد المعنى الحقيقي للديمقراطية أو الهوية الوطنية. لذا، فإن هذه الديناميكية -برأيي- هي سمة جوهرية لواقعنا السياسي.

مصدر الصورة الكتاب يناقش أمثلة من صراعات الشرعية في مصر والعالم العربي الأوسع، ويركز تحديدًا على الاحتجاجات في ميدان التحرير، وسقوط نظام مبارك، ثم نظام مرسي (رويترز)
*

تتحدث في كتابك عن الحكم كحرفة زمانية.. هل يمكنك أن تقدم لنا تعريفًا لهذه "الحرفة الزمانية"، وتوضح كيف يمثل كل من الزمان والمكان عناصر في هذا التعريف الديناميكي؟

تتطلب فكرة "الحكم كصناعة زمنية" توضيحًا إضافيًا لفهم الحكم كممارسة براغماتية. ميّزتُ سابقًا بُعدين للحكم: تمثيل السلطة، وهويات الأشخاص. لكنّ هناك بعدًا ثالثًا مهمًا، هو "المحيط". فالمواجهة بين الفاعل والسلطة تحدث دائمًا ضمن بيئة زمانية ومكانية محددة، وهذه البيئة ليست محايدة، بل تشكل الصراع.. إنها جزء أساسي مما هو على المحك في مسألة الشرعية.

في هذا السياق، أركز بشكل أساسي على الأبعاد الزمانية.. قد يبدو هذا مجردًا، لذا أوضح أن جزءًا من مسألة الشرعية يتعلق بمعنى الأحداث؛ الأحداث تتكشف في الزمان ولها دلالة بالنسبة لنا كبشر.. غالبًا ما يكون معنى الأحداث جانبًا حاسمًا في صراع الشرعية.

أناقش في الكتاب أمثلة من صراعات الشرعية في مصر والعالم العربي الأوسع، وأركز تحديدًا على الاحتجاجات في ميدان التحرير، وسقوط نظام مبارك، ثم نظام مرسي.

بعد سقوط مبارك عام 2011، وتحديدًا في 2013، انتفض العديد من المصريين مرة أخرى مطالبين بإسقاط مرسي، الذي أزاله الجيش لاحقًا. من المثير للاهتمام هنا تحليل الادعاءات المتنافسة، فمن ناحية، كانت هناك ادعاءات تشير إلى معنى حدث سابق، وهو سقوط مبارك قبل عامين. دافعَ مرسي ومؤيدوه عن حكمه وتفسيره للدستور بمحاولة تحقيق "روح الثورة". في المقابل، استند المننتفضون ضده إلى الحدث نفسه، قائلين: "باسم روح الثورة، نريد مرسي خارج السلطة لأنه انتهك هذه الروح".

لا يهدف تحليلي إلى الفصل في أي الطرفين كان على صواب في ذلك الصراع، بل يهمني التركيز على الاستناد إلى معنى الحدث.. هل كانت ثورة أم انقلابًا في المقام الأول؟ وإذا كانت ثورة، فما معناها؟

لا يمكنك حسم ذلك من وجهة نظر خارجية، فالمعنى الحقيقي للحدث قد لا يكون مكتملًا بعد، وقد يظل كذلك. فالناس يمكنهم الاستمرار في إعادة تفسير تلك الأحداث ومواصلة الكفاح الذي يعتقدون أنهم انخرطوا فيه سابقًا.

لذا، فإن جزءًا مما هو على المحك في الحكم على الشرعية هو معنى أحداث مثل الثورات والانقلابات. وبالتالي، فإن الحكم على الشرعية هو -جزئيًا- مسألة تفسير الأحداث، ويتضمن الانخراط في صراعات سياسية حول معناها.

لقد سألت عن فكرة "صناعة الوقت"، هذه مسألة معقدة في الكتاب، لكن الفكرة الأساسية هي أننا نشكل فهمنا للوقت السياسي من خلال الانخراط في الممارسات السياسية، أي ممارسات الحكم. على سبيل المثال، الصراعات حول معنى الثورة، وما إذا كانت ثورة في المقام الأول، ومحاولات إكمالها، كلها محاولات لتشكيل الوقت السياسي.

الهوية تتشكل بالانخراط الجماعي، مثلما حدث مع المتظاهرين في ميدان التحرير (رويترز)
*

أود العودة إلى الربط الذي قدمته بين الشرعية والهوية، كيف تقدم لنا هذا التعريف الأساسي لعلاقتهما، فنحن نمارس شرعيتنا، وتتغير هويتنا تبعًا لذلك. والهوية -خاصة الهوية الجماعية- تشكل تعريف الشرعية. وفي الوقت نفسه، تذكر في الكتاب أننا لا نستطيع ممارسة هذا بمفردنا، بل نحتاج إلى ممارسته على المستوى الجماعي، فهل يمكنك توضيح هذه الفكرة بتفصيل؟

نعم، ربما أفضل طريقة لتوضيح ذلك هي من خلال مثال. أحد الأمثلة التي أناقشها في الكتاب هو لرجل كان في احتجاجات ميدان التحرير بالقاهرة عام 2011، وكان يحمل لافتة كُتب عليها: "كنت خائفًا، الآن أنا مصري".. لقد وجدت هذا مثالًا محفزًا جدًا للتفكير.

ماذا يعني قوله: "كنت خائفًا، الآن أنا مصري"؟ يبدو أنه يشير إلى تغير في معنى كونه مصريًا بالنسبة له، أو إدراكه لهوية جديدة من خلال انخراطه في حركة احتجاجية لم يدركها من قبل. من الغريب أن يدعي "لم أكن مصريًا حتى جئت إلى ميدان التحرير"، مما يوحي بمحاولة تشكيل معنى جديد للهوية المصرية. وهذا جوهر الصراع على الشرعية: ما الذي يعنيه أن تكون مصريًا؟

قد يرى البعض أن هويتهم الوطنية مجرد جزء من تراث الأمة وحس الانتماء، لا علاقة له بالنظام. لكن هذا الرجل ادعى أن موقفه تجاه النظام أصبح جزءًا أساسيًا من هويته المصرية. لقد فهمت قوله بأنه تعبير عن أن إظهار الهوية المصرية يتطلب الشجاعة والتغلب على الخوف.

لكن، لماذا لا نستطيع أن نفعل ذلك بمفردنا؟ لأن هذا الرجل لا يستطيع تحديد معنى الهوية المصرية بمفرده. إذا لم يقبل الآخرون دعوته لربط الهوية المصرية بالنقد أو المعارضة للنظام، وبالشجاعة، فسيصعب عليه الاستمرار بمفرده.. الهوية المصرية ليست ملكية فردية، بل هي مشاركة مع الآخرين.

يستطيع هذا الفرد توجيه دعوة للتفكير في الهوية المصرية بمنظور نقدي، لكنه لا يستطيع حسم هذا الصراع بمفرده. لذا، عندما يحكم بهذا الأسلوب ويعبر عن حكمه الخاص بشأن معنى الهوية المصرية، فإنه لا يرتبط بالنظام فحسب، بل يرفض أيضًا الهوية التي تُنسب إليه. فالرؤية التقليدية التي ترى الهوية المصرية تتطلب طاعة القانون والإخلاص، يضيف إليها الآن ضرورة انتقاد الحكومة.

يخاطب هذا الفرد مواطنيه الآخرين ويدعوهم إلى تبنّي منظوره للهوية المصرية. بالتالي، ترتبط الصراعات حول الهويات الجماعية حتمًا بالآخرين عند الانخراط فيها.


*

عندما تتعمق في دراسة الشرعية والسلطة، فأنت بذلك تعمل على جوهر النظرية السياسية. ويُلاحظ أن هذا البحث المتعمق في هذه المفاهيم يُحدث تغييرًا ضروريًا في جميع المفاهيم الأخرى على مستوى النظرية السياسية. فكيف تتوقع أن تتغير مفاهيم أخرى مثل الدولة الحديثة والنظرية السياسية الحديثة؛ إذا تغيرت رؤيتنا للشرعية؟

هذا سؤال بالغ الصعوبة، وأعتقد أنك محق في أن مفاهيمنا مترابطة. لذا، عندما نفكر في الشرعية والحكم بالطريقة التي أقترحها، فإن تأثير ذلك على المفاهيم الأخرى يمثل تحديًا كبيرًا.. لا أرى إجابة واحدة حاسمة، فالأمر يتوقف على المفهوم قيد المناقشة.

لقد ذكرتَ الدولة الحديثة.. أرى أن هذا المفهوم يرتبط بالشرعية في تحليلي لمستوى "تمثيلات السلطة"، فمفهوم الدولة الحديثة هو بالأساس تسمية أو أداة نوظفها لتمثيل طبيعة السلطة.

لديّ أفكار لمشروع مستقبلي لم يتسن لي بعدُ تنفيذه -ربما في مرحلة لاحقة من مسيرتي المهنية- يدور حول تصنيف الأنظمة. هذا موضوع عريق في الفلسفة والعلوم السياسية، فالفلاسفة الإغريق القدماء، كأرسطو وأفلاطون، وضعوا تصنيفاتهم الخاصة للأنظمة، مثل الملكية، الأرستقراطية، والديمقراطية، وأشكال أخرى من الحكم.

في القرن 20، ركزت العلوم السياسية بشكل أساسي على التمييز بين الديمقراطية والدكتاتورية أو الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية.. هذه فئات تصنيف مختلفة، أو بعبارة أخرى، تصنيف لأشكال الدول الحديثة.

يهمني الآن أن أفهم: ما الوظيفة الحقيقية لهذه التسميات والتصنيفات؟ بالعودة إلى فكرتي حول تمثيل السلطة في الفصل الرابع، فإن تصنيف النظام كديمقراطية، ملكية، أرستقراطية، أو أي تسمية أخرى، ليس مجرد وصف له من مسافة بعيدة، فهذه المصطلحات تشكل في الواقع جزءًا من الصراع من أجل الشرعية، لأن الإشارة إلى تمثيل السلطة هذا، وما يشبه النظام، يعد أحد الجوانب الأساسية على المحك في هذا الصراع.

لذا، فإن هذه التصنيفات التي غالبًا ما تُستخدم في العلوم السياسية كأوصاف محايدة للأنظمة، هي في الواقع جزء أصيل مما هو على المحك عند الحكم على شرعية النظام.

من تداعيات ما أطرحه هنا أن الاستفسارات السوسيولوجية أو العلمية السياسية حول الدول الحديثة وكيفية وصفها بشكل مناسب، هي -إلى حد ما- دائمًا متورطة في صراعات سياسية حول الشرعية. وبالتالي، لا يمكن حسم سؤال "ما طبيعة الدولة؟" بشكل مستقل قبل طرح سؤال الشرعية.

أعتقد أن علماء السياسة اليوم يدركون هذا بشكل متزايد، ولكن كان هناك تقليد طويل في العلوم السياسية الوضعية يتمثل في القيام بتمارين التصنيف هذه من وجهة نظر مراقب، معتقدين أنه يمكن وصف النظام بشكل مستقل عن ممارسات إضفاء الشرعية التي ينخرط فيها الناس. لذلك، أعتقد أن هذه الأمور مترابطة.


*

بناءً على ما يبرزه كتابك من ترابط ديناميكي بين الهوية والشرعية، وكيف تتجلى الهوية العربية الإسلامية كتراث سياسي ومفاهيم مرتبطة بالمجال العام في منطقتنا، هل يقود تطبيق أفكارك هنا إلى ضرورة وجود دولة ومجال عام بمفاهيم إسلامية جديدة، أم أنك تقترح تبني ما أنتجه الفكر السياسي الغربي؟

أؤكد أن الشعوب العربية يجب أن لا تستهلك ما ينتجه الغرب، فالحكم ليس شيئًا يمكن الاستعانة بمصادر خارجية لممارسته، وعلينا أن نفكر في هذه القضايا وننخرط فيها بأنفسنا.. لا يوجد نموذج جاهز يمكن تصديره ليحل المشكلات.

وفيما يتعلق بدور الدين في السياسة، يشكل جزءًا أساسيًا من هوية الكثيرين، وإن لم يكن الجميع، بما في ذلك العالم العربي. عند التفكير في دور الهوية وعلاقتها بالشرعية، كما ناقشنا سابقًا الهويات الجماعية كالهوية المصرية، نجد دائمًا تنوعًا في الهويات المطروحة.

تشمل الهوية جوانب شخصية وفردية، وانتماءات عائلية ومجتمعية متنوعة، وقد تمتد لتشمل البعد الديني. لذا، يصبح سؤال هويتك في علاقته بالنظام جزءًا من تساؤلك عما يعنيه أن تكون مسلمًا أو مسيحيًا أو ملحدًا أو يهوديًا. كما يتضمن ذلك، جزئيًا، معالجة سؤال الشرعية عبر توضيح المعنى الشخصي لكونك مسلمًا، وهو مفهوم قابل لتفسيرات شديدة التنوع.

تتعدد الرؤى ضمن تراث الفكر الإسلامي حول التعامل مع الدولة وشرعيتها، فبينما تدعو بعض التيارات إلى إقامة دولة إسلامية ذات هوية دينية راسخة، يرى آخرون أنه لا مانع من أن يكون المسلم فردًا في دولة علمانية أو دولة لا تتبنى هوية إسلامية صريحة. لهذا، يُشكل فهم معنى كون المرء مسلمًا جزءًا أساسيًا من هذا الصراع الدائر باستمرار، وقد تجلى هذا بوضوح في أحداث الربيع العربي، حيث كانت جماعة الإخوان المسلمين قوة فاعلة، وشغل أحد أفرادها منصب الرئيس بعد سقوط مبارك.

توضح ديناميكية الواقع السياسي أنه لا توجد إجابة فلسفية جاهزة تحدد معنى أن تكون مسلمًا في مجتمع معين، أو ما يترتب على ذلك من آثار على الشرعية. هذا السؤال يبقى مفتوحًا ومحل نزاع، ويتطلب فهمًا بأن هذه الهوية لا يشاركها الجميع.


*

ما هي مشاريعك الأكاديمية القادمة في ظل ما يشهده الفكر السياسي من تحديات جديدة مرتبطة بالمناخ والأوبئة والذكاء الاصطناعي؟

إلى جانب عملي المستمر على تصنيف الأنظمة، أركز حاليًا على مشروع جديد ينبع من اهتمامي المتزايد بأزمة المناخ والبيئة. بعد الانتهاء مؤخرًا من كتابي السابق الذي استغرق وقتًا طويلًا، أصبحتْ لديّ فرصة لاستكشاف مواضيع جديدة.

أتجه حاليًا نحو الفلسفة السياسية لأزمة المناخ والبيئة، مع تركيز خاص على العلاقة بين العلم والسياسة في هذا السياق. على سبيل المثال، أدرس احتجاجات العلماء المناخية، حيث يعبرون عن هويتهم كعلماء بارتداء معاطف المختبر. "تمرد العلماء" حركة بارزة في هولندا ودول أخرى، وقد شاركتُ فيها إلى حد ما. أرغب في فهم ماذا يعني للعالم الانخراط في احتجاجات سياسية؟ هل هذا مقبول؟ إنه تجاوز واضح للحدود التقليدية بين العلم والسياسة.. هل يمكن تبرير هذا الانخراط؟ وما هي أسس انتقاده؟

أستكشف أيضًا تداعيات الاستناد إلى الهوية كعالم أو باحث عند الانخراط في الاحتجاجات السياسية، وأبحث في أسئلة العصيان المدني المتعلقة بأزمة المناخ. هناك بالتأكيد صلة بمشروعي السابق حول الشرعية، حيث ما زلت مهتمًا بالاحتجاجات وحركات المقاومة، ولكن بتركيز متزايد على سياق أزمة المناخ والبيئة.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار