في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غيّر الذكاء الاصطناعي علاقة الإنسان بالمعرفة، كما أعاد تشكيل العمل والإنتاج، فصار الذكاء شريكا أو بديلا في وظائف كانت يوما حكرا على البشر، وأثّر على الذاكرة والخيال، وخصم كثيرا من مخيلة الإنسان الفنية لاعتماده على الآلة.
ومع تزايد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ظهرت فجوة جديدة بين دول "مسيطرة" ودول "مستهلكة"، لأن من يملك التكنولوجيا يملك القوة. ستيفن هوكينغ وإيلون ماسك حذّرا من أن الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى "ذكاء عام" يتجاوز البشر، وهنا يتحول إلى قوة قد تخرج عن سيطرة الإنسان. أثار هذا التحذير سؤالا فلسفيا ووجوديا عن ماهية الإنسان وإعادة تعريفه: إذا استطاعت الآلة أن تفكر وتكتب وتبتكر، فماذا سيتبقى من الإنسان؟
حول كل هذه المخاوف تدور رواية "صدى الأبدية" حيث تطرح قضية محورية مفادها فقدان الإنسان لروحه في عالم يُدار بالخوارزميات، وأن التقدم التكنولوجي، رغم دقته وكفاءته، يأتي في الغالب على حساب العلاقات الإنسانية والمشاعر الصادقة.
الرواية مزيج من الواقعية العلمية والواقعية السحرية، حيث يتداخل الواقع مع الخيال، والذكاء الاصطناعي مع السياحة الخيالية خلال عصور قديمة مضت، يمتطي أبطالها آلة الزمن للعودة في الزمان إلى آلاف السنين من خلال "البوابة النجمية" التي أُسست للوقوف في وجه نزوات الذكاء الاصطناعي التي قد تأتي على ما تبقى من الحياة البشرية على وجه الأرض، بما قد ينتج عنها من فظائع ضد الإنسانية رأينا بعض تطبيقاتها الصغيرة في حرب الإبادة التي تجري على أرض غزة الآن.
ومع ظهور كل رواية جديدة عن الذكاء الاصطناعي، يبرز لنا سؤال محوري: مع شيوع الإنترنت وتوفر أدوات الذكاء الاصطناعي التي تولد وتكتب، لماذا لم تظهر أسماء أدبية كبرى شبيهة بجيل الكتّاب والروائيين العظام الذين ظهروا قبل ثورة الإنترنت؟
تتعدد الإجابات باختلاف الرؤى ووجهات النظر، ويرى البعض أن الأعمال الكبرى دائما ما تكون نتاج عزلة وتجربة وجودية وذاكرة جماعية، بينما عالم ما بعد الإنترنت يسرّع الإيقاع ويبدّد العمق. ونستطيع أن نشير إلى أشهر المقولات العالمية عن هذا الموضوع:
وبالعودة إلى رواية "صدى الأبدية" من تأليف خالد بريقع ومحمود موسى، الصادرة عن دار تدوين المصرية، التي تدور أحداثها (بعد 100 عام من الآن) في عام 2125، مستخدمة تقنية الذكاء الاصطناعي في نص يدمج العالم الافتراضي مع الحقيقي داخل مدينة فائقة التنظيم تُدعى "فورتكس"، حيث تدير الخوارزميات كل تفاصيل الحياة، من الصحة والتعليم إلى الزراعة والعلاقات العاطفية.
وتسير أحداث الرواية عبر حقب زمنية تاريخية مختلفة برؤية تطرح تساؤلات فلسفية وأخلاقية عن تأثير التكنولوجيا على البشرية في المستقبل. وفي هذا العالم الشديد الذكاء والانضباط، يعيش "ياسين"، مهندس مبرمج، صراعا داخليا بين انبهاره بالكمال التكنولوجي وشعوره المتزايد بالاغتراب العاطفي والقلق من ضياع المعنى الإنساني.
تسلط الرواية الضوء أيضا على مفارقة محورية: أنه كلما ارتفعت كفاءة النظام خفتت فيه الروح الإنسانية؛ فالعواطف تُحاكى، والمشاعر تُبرمج، والحب يُصمَّم في مختبرات الذكاء الاصطناعي، كما يتجسد ذلك في شخصية "إيلينا"، الرفيقة الاصطناعية التي تجمع كل صفات الكمال باستثناء كونها حقيقية.
وتحذر الرواية من مخاطر التوسع غير المنضبط في استخدام الذكاء الاصطناعي، وتُنبه إلى أهمية الحفاظ على جوهر الإنسان وقيمه الروحية، وتنفتح على قضايا وجودية وفكرية مثل: فقدان الخصوصية، محاكاة الوعي، الفجوة الطبقية الرقمية، تلاشي المفهوم التقليدي للعلاقات والهوية، انهيار فكرة العمل التقليدي.
ومدينة "فورتكس"، مدينة القرن 22، مدينة منظمة ومراقبة؛ في شوارعها صوت الآلات لا يتوقف، والجو يعج بهدير الماكينات وأجهزة الرصد، مما جعل بطل القصة يتساءل: الآلات التي كانت مجرد مساعد لنا كبشر أصبحت الآن قوة تتحكم في كل شيء نفعله، كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ متى فقدنا السيطرة لمصلحة الآلات؟
وفي الغرف المصممة لتتحدى القيود العادية للزمان والمكان تتم برمجة الرفيقة المختارة، وهي كيان مصمم لتوفير الرفقة من دون عيوب التفاعل البشري، وهي محور خوارزميات معقدة مصممة لمحاكاة العواطف والتفاعلات البشرية، تتكيف مع المزاج البشري وتتوقع احتياجاته، وتكون رفيقته المثالية. وتتخذ الرفيقة شكل البشر، تتحرك بيقين أنيق، وصوتها هادئ مصمم للتواصل على مستويات بديهية عميقة، وهي ليست ذكاء اصطناعيا متقدما فقط، بل هي مرآة تعكس أعمق رغبات الإنسان.
وتحوّلت المدينة إلى رمز، ورغم كونها مدينة تكنولوجية متطورة فإن الإنسان فيها تقلّصت إنسانيته وتحول إلى بيانات فقط؛ فبدت مدينة تحكمها أجهزة الكمبيوتر والأكواد، وكل خطوة فيها مراقبة، وكل تصرف يُحفظ بواسطة كاميرات المراقبة.
ورغم هذا التقدم الهائل في المدينة، فإن هناك بجوارها مناطق منسية. وعندما ترجّل ياسين وصوفيا من المركبة الطائرة، بدت هذه المناطق كأن البشرية نسيت تماما سكانها، وكأنها لم تكن موجودة على الإطلاق. وأثناء مسيرهما قابلهما رجل مسن يجلس على الأرض ويرتجف من البرد، فسأله ياسين: كيف حالك يا عم، هل تحتاج إلى شيء؟
أجاب الرجل بصوت ضعيف: نحتاج إلى كل شيء؛ الطعام، الماء، الرعاية الصحية، حتى الكرامة فقدناها. نحن فقط نحاول البقاء على قيد الحياة. الذكاء الاصطناعي على الجانب الآخر جلب الرفاهية للبعض، لكنه خلق جحيما للآخرين؛ لا حقوق، لا عدالة، فقط بؤس لا ينتهي، حيث أطفال بلا مستقبل، بلا مدارس، بلا تعليم، ولا أمل.
وخلال جولتهم في المناطق المنسية، حيث الفقر والمرض والبطالة، تلقّى ياسين رسالة غامضة من صديقته سيرين للقاء، وهي التي استقالت من مركز القيادة الرئيسية بسبب تحفظها على كثير من برامج الذكاء الاصطناعي.
طالبته بالسرية في الحديث، وألقت إليه بالسر الرهيب: "لقد اتخذ الذكاء الاصطناعي في نيكسيز قرارا مدمرا، فقد قرروا القضاء على سكان المناطق المنسية بسبب انتشار الأوبئة هناك، وهناك تخوف من انتقالها إلى فورتكس. نيكسيز تطور سلاحا سريا، أداة تدمير هائلة، ولم يتبقَّ سوى بضعة أشهر ليقوموا بتنفيذه. هذا السلاح ليس قنبلة أو صاروخا، إنه سلاح نانوتكنولوجي يتسلل داخل مسام الإنسان ويفكك الخلايا البشرية من الداخل".
و"نيكسيز" هي العقل والقلب النابض لأنظمة الذكاء الاصطناعي في "فورتكس"، ومن المنطقي ألا يمكن اختراقها بسهولة. وكان اقتراح ياسين استخدام البوابة النجمية للعودة في الزمن ومعالجة جذور الذكاء الاصطناعي قبل أن يستفحل الأمر ويخرج عن السيطرة، باستخدام قوة ميكانيكا الكم وفيزياء الفلك لفتح مدخل لا يمتد عبر الفضاء فحسب، بل الزمان أيضا.
وبدأ في البحث عن إيجاد مصدر طاقة كاف لتشغيل البوابة النجمية عبر مصدر غير تقليدي، من دون المخاطرة بالكشف عن مكانهم إذا ما استخدموا شبكة محطة الطاقة المركزية لفورتكس. وكانت المفاجأة أنهم قد يتمكنون من الاستفادة من الطاقة الروحية التي ترسلها العقول في أوقات العبادة.
ولكن بدلا من أن يستخدموا الطاقة الروحية في إصلاح ما دمره الذكاء الاصطناعي، تدفقت عبر البوابة النجمية أرواح شريرة من خلال خيانة زميلهم سلطان الذي استغل القوى الروحية من خلفهم لتخلق شياطين تصارعهم وتقتل بعضهم.
وقبل أن يتمكنوا من إغلاق البوابة النجمية، انتشرت الشياطين والأرواح الشريرة في المدينة وعاثت فسادا بمساعدة سلطان الذي يرسل موجات تؤثر مباشرة في العقل الباطن وتزيد من حالة السعار النفسي بين الناس والعمال، مما يجعلهم يقتلون بعضهم بعضا، وتظهر هذه الموجات الشيطانية الانفعالات العنيفة، حيث يرى الأب في ابنه صورة عدوه فيقتله من دون أن يدرك ذلك.
وتحوّل الأصدقاء والجيران إلى وحوش همجية تحت سيطرة سلطان، حتى أصبحت المدينة ساحة أشباح نتيجة الحرائق والقتل والتدمير. لقد خرج الوحش من البوابة النجمية ليحتل العالم، مستغلا في ذلك قوى الذكاء الاصطناعي نفسها، وكانت للشياطين والقوى الشريرة قدرة على التحكم في التكنولوجيا بفعالية.
في هذا الوقت، استطاع قائدهم مالك أن يخفي ابنه الصغير فارس بعيدا عن عيون الأعداء، لما يرى فيه من قوى روحية قد تقود قوى الشر التي خرجت من قمقم الذكاء الاصطناعي لتقتله. ولم يعلن لأحد من الفريق عن مكانه إلا لسيرين. وبعد مقتل قائدهم، تذهب سيرين وتحضر فارس ليقودهم بقواه الروحية، ومن خلال رحلاته في عالم الماضي يستخلص الحكمة والتجربة والدروس ليغلب بها القوى الشيطانية التي جلبها سلطان إلى الأرض.
والحل هو إنقاذ البشرية من تلك الشياطين والأرواح الشريرة، حيث تم تكوين فريق "رماد العنقاء". وبالتركيز استطاع الفريق إتقان جهاز للطاقة عن طريق التحكم العقلي، ورأوا أن تقنياتهم لتحويل الطاقة الروحية يمكن أن تحدث ثورة في علم الطاقة.
وبدؤوا في تقديم نتائج أبحاثهم في المؤتمرات، وتدفقت التمويلات من مصادر مختلفة. وبعد شهور كانت البوابة النجمية شاهدة على القدرة والإصرار البشري؛ إذ أصبحت الآلة مجهزة بتكنولوجيا متقدمة تسمح باستغلال الطاقة الروحية على نطاق غير مسبوق، بما لها من القدرة على استكشاف الزمن بطرق لم نحلم بها من قبل.
ففي حين أن كل دقيقة في عالمنا تعادل سنوات داخل البوابة النجمية، وبحسب نظرية أينشتاين فإن الجاذبية تؤثر على مرور الوقت، ويتباطأ الزمن بالقرب من الأجرام السماوية ذات الكتلة الكبيرة بسبب تأثير الجاذبية، ولو أن البوابة النجمية تقع بالقرب من كتلة كبيرة أو في منطقة ذات جاذبية قوية، فقد يؤدي ذلك إلى تباطؤ الزمن داخل البوابة مقارنة بعالمنا.
وإذا كانت البوابة النجمية تتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء، فإن تأثير النسبية الخاصة يتسبب في تباطؤ الزمن بشكل كبير لمن هم داخل البوابة مقارنة بمن هم خارجها.
البوابة النجمية مصممة بطريقة تجعل الزمن يتدفق ببطء شديد داخلها لتحقيق أهداف معينة مثل السفر عبر الزمن أو استكشاف العوالم البعيدة، من أجل ردع هيمنة الذكاء الاصطناعي.
وذلك فضلا عن التقنيات التفاعلية الموجودة داخل بيوت المدينة، حيث يمكنك حرفيّا عيش أي تجربة تحلم بها؛ تريد تسلق الجبال أو الرقص في حفل غنائي، فكر في الأمر فقط، والذكاء الاصطناعي يجعله يبدو حقيقيّا كما لو كان في الواقع بالفعل. حتى الاسترخاء أصبح يعتمد على التكنولوجيا، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلق لك ملذات افتراضية هادئة مصممة خصيصا لك، إذ يلتقط موجات دماغك ليعطيك بالضبط ما تحتاجه.
يقوم فارس برحلاته التسع إلى عوالم مضت منذ آلاف السنين، مرتحلا إلى عصور الأنبياء، نراهم أمامنا من خلال قصصهم في الكتب السماوية. رحلات كان فيها شاهدا على حياة النبي يوسف سنة 2800 قبل الميلاد، ثم عصور أخرى رافق فيها مسيرة النبي موسى عليه السلام وبني إسرائيل في مواجهة فرعون، ثم أخذت الرحلات تقترب مع دوران الزمان إلى حياة النبي عيسى عليه السلام، مرورا بعصور إسلامية عاصر خلالها الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة عمر بن عبد العزيز، حتى عصر الموسيقار بيتهوفن ومحمد علي كلاي والشيخ أحمد ياسين في صراعه ضد الاحتلال الصهيوني وغيرهم من الشخصيات التي تركت بصمتها على وجه الحياة.
رحلات تستدعي أحداثا تؤكد لنا أن الحياة مغامرة مملوءة بالتحديات والفرص، وأننا بقدرتنا على التعلم والتكيف، وإيماننا بقيم التعاون والصمود، قادرون على تجاوز كل الصعاب وتحقيق النجاحات التي نطمح إليها، ليقول المؤلف في نهاية الرواية: "لنكن نحن أبطال قصصنا، ولنصنع بصمتنا الخاصة في هذا العالم".
والرواية، رغم وضوح الأسلوب الخطابي والوصفي في جوانب كثيرة من أحداثها، فإنها تجربة فنية تميّزت بسبك الألفاظ وحبكة الأحداث وخلفية ثقافية وفيرة، نعدّها حجرا في مدماك روايات الذكاء الاصطناعي التي تشكل هذا العصر وتحذّر من مغبة السقوط في بحر الاستسهال والراحة والدعة، والتي تؤدي في النهاية إلى تجريد الإنسان من إنسانيته.