آخر الأخبار

تمصير الضحك.. كيف عكست الكوميديا واقعها السياسي والاجتماعي؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

انشغل الناقد السينمائي وليد الخشاب بالاقتباس في مجال السينما منذ سنوات، وكانت البداية مع كتاب أشرف على تحريره مع الناقدة سلمى مبارك بعنوان "الاقتباس: من الأدب إلى السينما محطات وتاريخ مشترك"، وشارك فيه عدد من النقاد والأكاديميين العرب والأجانب. ثم توقف الناقد عند موضوع اقتباس السينما العربية من السينما الأجنبية في كتابه "مهندس البهجة" عند اقتباس فيلم "فيفا زاباطا" في فيلم فيفا زلاطا، الذي رآه تنبأ بالسلام الساداتي مع إسرائيل وعلاقة ذلك بالقضية الفلسطينية.

ليخصص لموضوع اقتباس السينما الأجنبية في السينما المصرية والعربية كتابه الجديد "قهقهة فوق النيل"، الصادر عن دار مرايا بالقاهرة، ضمن مشروعه العام الذي يمكن أن نصفه بملاحقة الكوميديا في السينما والمسرح باعتبارها حالة جادة.

انطلق كتاب الخشاب من اقتباس واضح في نحت عنوان كتابه "قهقهة فوق النيل" من رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، التي اقتُبست بدورها للسينما، وبذلك يؤرْضِن منذ البداية الكوميديا السينمائية ويُنبتها في مصر، متخلصا بذكاء من المبحث القديم "اقتباس الأدب للسينما" نحو موضوع "الاقتباس من السينما إلى السينما" عبر العنوان الفرعي "اقتباس الكوميديا في السينما".

فكيف استحوذت السينما على السينما؟ وما طرق الإبداع التي خلقتها السينما العربية المستضيفة في عملية الاقتباس من السينما الغربية؟

جاء الكتاب في 4 فصول ومقدمة وخاتمة، الفصل الأول خصّصه الناقد لاقتباس الكوميديا في الأربعينيات، وخصّص الفصل الثاني لاقتباس البراءة الواقعية في كوميديا الخمسينيات، وأفرد لظاهرة "الاقتباس في ستينيات البراءة قبل 1967" الفصلَ الثالث من الكتاب، بينما خصّص الفصل الرابع للضحك على شاشة الستينيات بعد هزيمة 1967. وهو بذلك قد تتبع أثر الظاهرة كرونولوجيّا وتاريخيّا في السينما المصرية.

إعلان

الكوميديا كفعل جاد

إنَّ المشروع الأصيل في نقد السينما عند الخشاب ينطلق من فكرة مقاربة الكوميديا بوصفها ممارسة جدية، وأن هدف التسلية في إنتاج هذه الأعمال لا يمكن أن يحجب الأيديولوجيا السياسية الكبيرة وراء إنتاجها.

فيقول في مقدمة الكتاب تحت عنوان "أن يقهقه الجمهور فوق النيل": "أستعير وأعارض عنوان نجيب محفوظ وحسين كمال، ليس فقط من باب تحية أيقونات ثقافية ارتبطت بتاريخ السينما المصرية، ولكن لأن العنوان يستدعي تدبّر الضحك كقيمة وممارسة ومعنى، سواء أكان الضحك جزءا من نسيج عمل كوميدي، أو حلية تزيّن وتلطّف عملا جادا أو ميلودراميا. يركّز هذا الكتاب الذي سميته "قهقهة فوق النيل" على اقتباس كلاسيكيات الكوميديا السينمائية المصرية من أصول مسرحية وسينمائية غربية، تُروّضها وتُطوّعها القاهرة لتصبح جزءا من منتجات صناعة السينما على ضفاف النيل".

فالجدية نابعة من تحريك العمل الأصلي ومصرنته أو إسقاط بعضه على الواقع المصري آنذاك.

فأحد أهداف الاقتباس في الأدب كما في المسرح والسينما -حسب الناقد- "هو منح العمل المقتبس غطاء شرعيا ثقافيا يتيحه الأدب، وإضفاء قيمة اعتبارية على العمل المصري المقتبس، بحيث تزداد قيمته في عين الناقد والمشاهد". وقضية التمصير التي يعالجها الكتاب تعني: "تعديل نصوص وأفلام وعروض مسرحية غربية بحيث تكتسي ثوبا مصريا مقنعا"، ومقاربة الظاهرة عبر رصد حركة تطوّرها وأثرها في المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي.

مصدر الصورة يتتبع وليد الخشاب في كتابه الجديد "قهقهة فوق النيل" رحلة الاقتباس السينمائي في مصر بين الكوميديا والأدب (الجزيرة)

اقتباسات الكوميديا في الأربعينيات

وصف وليد الخشاب فترة الأربعينيات بالفترة الذهبية للسينما المصرية، حيث تأسست وتكرست ما سمّاه "الممارسة الفيلمية" باعتبارها صناعة متكاملة الأركان توفّر الترفيه وتبني ثقافة جديدة. وهو ما جعلها تتسيّد السوق الإقليمية، فهي السينما المهيمنة باللغة العربية، مما ولّد حاجة إلى المحافظة على تلك الريادة بالبحث عن سبل أخرى لتكريسها عبر الاقتباس. فكان التوجّه نحو الاقتباس من السينما الأميركية والهوليودية بالأساس، بينما كان التوجه نحو السينما الأوروبية أقل، إذ ظهر الاقتباس من أوروبا في المسرح والأدب خاصة.

ثم تعمّق الباحث في تحليل أعمال أنور وجدي ونجيب الريحاني وقارن بينهما، فالأول معظم أعماله مقتبسة من السينما الأميركية، بينما تبدو أعمال الريحاني مقتبسة "من أصول مسرحية وسينمائية فرنسية".

وقد انعكس هذا الاختلاف على طبيعة المنتج المصري المقتبس، فالأفلام ذات الأصول الأميركية تبدو بإيقاع سريع مستندة إلى الحركة والإضحاك، بينما الأفلام ذات الأصول الأوروبية تنشغل أكثر بالشخصية والواقعية وتفكيك القضايا الاجتماعية، مما يجعل من إيقاعها أبطأ من نظيرتها الأميركية.

وبقدر ما كانت الأفلام المصرية تحاول الاستفادة من الأفلام الغربية، فإنها في الوقت ذاته تعمل على تعديل أحداثها ورؤيتها حسب طبيعة المجتمع المصري العربي وأخلاقياته، كما هو الحال مع أدوار أنور وجدي وصورة الرجل الشرقي التي تسعى السينما لتقديمه كحبيب مخلص مقارنة بالرجل الغربي متعدد العلاقات.

إعلان

كما عملت السينما المقتبسة على المراهنة على المحكية المصرية لتجذير فكرة التمصير من ناحية، والعمل على مستوياتها وتهجينها بما يشكّل لغات ولهجات فرعية لطبقات اجتماعية أو مكوّنات إثنية في المجتمع، كاليهود والأجانب والأتراك. واستُغلت هذه اللهجات المخترَعة سينمائيا في تعزيز الجانب الساخر من الكوميديا في الأفلام، ورسم الشخصية المصرية، ونقد رجعية المكونات الأخرى الدخيلة كالأتراك.

وأعاد الكاتب التركيز على مفهوم أيديولوجيا الفودفيل في السينما، الذي سبق أن أشار إليه في كتابه السابق عن فؤاد المهندس، وانخراط الريحاني وأنور وجدي فيه بطرق مختلفة. وأيديولوجيا الفودفيل -حسب تعريف الكاتب- "وعدٌ تقدّمه الدولة لأبناء المجتمع، لا سيما الطبقات البسيطة، بأن تسمح لهم بالالتحاق بالطبقة الوسطى عن طريق التوظيف وممارسة مهن تدعمها الدولة، وبأن تفتح لهم أبواب ملذات مثيلة للملذات التي نراها في كوميديا الفودفيل تحديدا، من التنعم بالعلاقات الغرامية الحرة والرفاهية الزائدة، في مقابل الولاء المطلق لدولة التحرر الوطني".

وفي هذا الفصل بيّن الكاتب الفارق بين أيديولوجيا الفودفيل عند فؤاد المهندس وعند الريحاني، حيث كانت عند المهندس في صيغتها المثلى، بينما كان تحقّقها عند الريحاني مشروطا ببقاء الشخصية في خدمة تلك الطبقة الحاكمة، وأن يتنازل أخلاقيا طوال الوقت ليتمتّع ببعض امتيازات تلك الطبقة المتوسطة.

مصدر الصورة من أهم الأفلام التي أُنتجت اقتباسا عن الأفلام الأميركية: فيلم "بنات حواء" بطولة محمد فوزي، قصة وسيناريو أبو السعود الإبياري، وإخراج نيازي مصطفى (الجزيرة)

اقتباس الكوميديا في الخمسينيات

وصف وليد الخشاب فترة الأربعينيات في مسألة الاقتباس بـ"فترة البراءة"، فهدفها الأساسي إنطاق الفيلم الغربي عبر الاقتباس باللغة العربية، والعامية المصرية تحديدا، بينما كانت تحديات مرحلة الخمسينيات أكبر وأعقد، فالمطلوب من العمل العربي المقتبس أن يراعي الاختلاف الثقافي الذي يأتي منه الفيلم الأصلي، ويجب العمل على "ترويضه" مصريا في مناخ ثقافي جديد له "موجباته" ومحاذيره وحدوده وأهدافه الأخرى.

فقد شهدت الخمسينيات تحولات سياسية كبيرة عبر حركة يوليو/تموز 1952 ونهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على الفاشية والنازية، وأثر هذا التحول على كل شيء، بما في ذلك صناعة السينما. وقد نحَت السينما نحو الواقعية أكثر لمسيرة ما يُعرف بفترة التحرر الوطني.

غير أن هذا التوجه نحو تكريس الواقعية -كما يقول الناقد- نجت منه الكوميديا، لما تحتاجه صناعتها من مبالغة، "فلها عذرها إن لم تقترب من الواقع بواقعية"، وهو ما جعلها تحافظ على مساحة الحرية في فترة كُبّل فيها الفن والسينما بهاجس الواقعية و"التعبير عن روح الشعب".

والغريب أن الاقتباس من السينما الأميركية في مجال الكوميديا لم يتأثر بفترة الجفاء والتباعد بين مصر والولايات المتحدة بسبب رفض هذه الأخيرة تسليح الجيش المصري لمواجهة إسرائيل، والتجاء مصر إلى الاتحاد السوفياتي.

ومن أهم الأفلام التي أُنتجت اقتباسا عن الأفلام الأميركية فيلم "بنات حواء" بطولة محمد فوزي، قصة وسيناريو أبو السعود الإبياري، وإخراج نيازي مصطفى، وفيلم "دايما معاك" إخراج هنري بركات وبطولة محمد فوزي وفاتن حمامة وعبد الوارث عسر، وفيلم "عهد الهوى" من إخراج أحمد بدرخان المقتبس عن غادة الكاميليا، إلى جانب أعمال إسماعيل يس، وخاصة فيلم "إسماعيل يس في الجيش" إخراج فطين عبد الوهاب.

وحول تشابه بعض أفلام إسماعيل يس والممثل البريطاني نورمان ويزدُم، لا يرجّح الكاتب أن الممثل الإنجليزي اقتبس أعمال إسماعيل يس كما يبدو من هذا التشابه وسبق الأفلام المصرية، ولكنه لا يستبعد ذلك، فيقول:

إعلان

"ربما شجّعت الأجهزة الأمنية البريطانية منتجيها على احتذاء حذو أفلام إسماعيل يس التي دعمت شعبية المجهود الحربي بين الطبقات الشعبية والطبقات في أول سلم الطبقة الوسطى المصرية. وليست تلك الفكرة ببعيدة عن الواقع، لأن أفلام يس "الحربية" قد ظهرت عاما واحدا قبل العدوان الثلاثي على مصر، الذي تزعمته بريطانيا، واستمرت أفلام يس الحربية في الظهور بعد اندحار القوات البريطانية المعتدية بشهور، وساهمت بدورها إذا في دعم الالتفاف حول القوات المسلحة المصرية. ليس ببعيد أن تفكر بريطانيا في منافسة مصر في مجال الأفلام الحربية الكوميدية، كامتداد رمزي للصراع بين البلدين بسبب تأميم مصر لقناة السويس، ومشاركة بريطانيا في الهجوم على مصر ردّا على التأميم عام 1956″.

مصدر الصورة فيلم "الزوجة رقم 13" لفطين عبد الوهاب يقال إنه مقتبس عن قصة شهريار وشهرزاد في ألف ليلة وليلة، والحال أنه مقتبس من الفيلم الأميركي "الزوجة الثامنة لذي اللحية الزرقاء" (الجزيرة)

كوميديا الستينات

في الفصلين الثالث والرابع اللذين خصّصهما الناقد لكوميديا الستينيات، يسلّط الضوء على تطور نسبة الاقتباس من الصناعة السينمائية وتوجّهها نحو السينما الأميركية مصدرا أساسيا لإنتاجها. واعتبر أن هذه الفترة تميّزت بأمرين اثنين: أولهما تزايد هاجس التمصير وأرضنة الفيلم الأجنبي في البيئة المصرية، وثانيهما انتشار الأفلام المصوّرة بالألوان.

ويؤكد الكاتب أن تلك السينما لعبت أدوار البروباغندا بتصويرها لإنجازات الدولة الحديثة، دولة التحرر الوطني، مثل تصوير المنشآت العمومية وتبنّي خطاب السلطة حول الاستعمار. ومن الأفلام التي أُنتجت في بداية الستينيات فيلم "آه من حواء" لفطين عبد الوهاب، المقتبس من "ترويض النمرة" لشكسبير.

ويشير الناقد إلى بعض الأخطاء والادعاءات في تيترات الأفلام المصرية، عندما يقع أحيانا تزوير الأصل أو ادعاء الاقتباس من أصل غير الأصل الحقيقي، كما هو الحال مع تيترات فيلم "الزوجة رقم 13" لفطين عبد الوهاب، التي تدّعي أنه مقتبس عن قصة شهريار وشهرزاد في ألف ليلة وليلة، والحال أنه مقتبس من الفيلم الأميركي "الزوجة الثامنة لذي اللحية الزرقاء". لذلك لا يمكننا الاطمئنان إلى ما تعلنه تيترات الأفلام كل الاطمئنان في تحديد مصدر الفيلم.

واعتنى الكاتب في هذا القسم بأشكال التمصير عبر الموسيقى وتبنّي أيديولوجيات مصرية رائجة ومظاهر اجتماعية وفكرية مصرية. ويرى الباحث أن ارتهان منتجي السينما إلى أيديولوجيا الفودفيل أوصلهم إلى تبرير القتل في الأفلام الكوميدية، مثل فيلم "الجريمة الضاحكة"، فيكتب الباحث:

"الخطوة الفارقة التي يخطوها فيلم (الجريمة الضاحكة) هي أن خلاصته (الأخلاقية) تتلخص في أن المواطن المستقر في الطبقة الوسطى لا ينجو فقط باستمتاعه غير الشرعي (بالغراميات خارج الزواج على سبيل المثال)، بل ينجو من مصير مرتكب أكبر الكبائر، حتى ولو كانت جريمة قتل، بفضل وضعه الطبقي وقبوله بمسلمات خطاب التحديث الذي تتبناه دولة التحرر الوطني".

أما بعد هزيمة 1967، فكانت الأفلام تُنتَج "لتعزية الجماهير وتخفيف وطأة الهزيمة عنها" كما يقول الكاتب، لتستفيق السينما من البراءة عندما توجّهت نحو الواقع الاجتماعي الحزين للمجتمع المصري مع السبعينيات. فظهرت الواقعية الجديدة مع أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات مع عاطف الطيب وعلي بدرخان. ويتوغّل الباحث في دراسة نماذج من الأفلام كما في كل فصل، مدلّلا على أطروحته المركزية: أخذ الكوميديا على محمل الجد.

إن هذه المقاربة للاقتباس في السينما المصرية في مجال الكوميديا محاولة بحثية جادة للدخول بالنقد السينمائي العربي نحو مقاربة حداثية لفن الكوميديا، عبر إعادة تلقيها في ضوء ما كان يحيط بها من تحولات سياسية، وطبيعة الأنظمة الحاكمة، وحركة المجتمع المصري ثقافيا وعلميا، والواقع الاقتصادي للبلاد، والواقع العام من سياسات دولية وحركات التحرر الوطني في العالم.

وهو ما يُدخل تلك الأفلام التي رأيناها في مرحلة حياة جديدة، ووعيا جديدا بها بدأ يؤسّس له عدد من الباحثين العرب، ومنهم الدكتور وليد الخشاب بهذه المؤلفات الجديدة، ويفتح المجال لبحوث أخرى في السينما والكوميديا العربية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

فقديما قال عبد الرحمن منيف: "ستحتاج المجتمعات العربية أن تقرأ الروايات لتتعرف على تاريخها". ويمكننا أن نسحب هذه المقولة أيضا على السينما والكوميديا، تلك النبتة الثقافية الهشة التي يختفي وراء إنتاجها مؤسسات صلبة وأيديولوجيات صارمة، فلا شيء يحدث خارج الرقابة والسياسة.

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار