في ساحات الأدب تختلف الرؤى، وتتغير المفاهيم، وتنزاح المعاني، وتتراوح الألفاظ بين المباشرة والإيحاء، فيغدو الجمال في الأدب وجها من وجوه القبح أحيانا، ويبدو الألم لونا من ألوان الجمال في أحيان أخرى.
والأدب عامة لا يعنى بالمعاناة بوصفها أثرا يدهم النفس فيحبس خلجاتها فحسب، بل فاعلا حقيقيا يحرض على الإبداع، ويبعث الإلهام في النفس، لذلك نجد أن المرض في الأدب يعد عاملا لا أثرا، وأثره في النفس سلبا أو إيجابا هو محل التركيز والوصف والبيان. فلا يهتم الأدب بفعل المرض والألم في الجسد، بل بما يكشفه في النفس من خفايا ورؤى حول الكون والحياة والمعتقد.
يتجول المرض في هذا الكون بوصفه قدرا في الاعتقاد، ويصدق عليه قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى حين وصف المنايا فقال: "رأيت المنايا خبط عشواء"، فيتلقاه بعض الناس بالصبر والمصابرة، ويتلقاه بعضهم بالجزع والضيق، ويتلقاه الأدباء كأيقونة فنية ولمسة كونية تتجلى في أقلامهم بألوان متعددة؛ حبا وشفقة، وحزنا ومرارة، وسخرية ويأسا.
يقال إن المرض في العصر الحديث فتح بابا عريضا من أبواب النقد الأدبي، إذ لم يعد من الممكن أن يفهم المرض في أي نص أدبي بوصفه عارضا بيولوجيا يعتري الجسم ويضعفه، بل صار رمزا ثقافيا تارة، ورمزا وجوديا سياسيا تارة أخرى. فهل يمكنك أن تتخيل جمالا منبعثا من المرض؟ أليس غريبا أن يجتمع الجمال والمرض معا؟ ألم يسبق لك من قبل أن رأيت عيونا تزداد جمالا حين تتعب أو تبكي؟
عمد الكتاب إلى تجميل ملامح المرض في كثير من المواقف، لا سيما عند وصف الحبيبة العليلة، حتى صار المرض أشبه بالجمال المأساوي إذا جاز التعبير. وامتد الأمر إلى المزج بين الجمال والعبقرية والفخامة والوهن عند وصف الآثار الفنية الفريدة المهجورة أو المهملة، تماما كما فعل الشاعر والكاتب الناقد الفرنسي شارل بودلير في كثير من قصائده النثرية.
هناك كثير من الروايات العربية التي تناولت فكرة المرض تناولا عريضا وموضوعيا ومحوريا، وتطرقت إلى الأمراض على اختلافها جسدية ونفسية، وصورت آثارها في النفس والمجتمع، وما لها من أبعاد نفسية عميقة.
فالكاتب المصري توفيق الحكيم في روايته "عصفور من الشرق" تناول تبعات الاغتراب بوصفها أمراضا داخلية نفسية تهتك عرى الإنسان وتفتك بروحه، من دون أن تترك على جسده آثارا ترى أو تذكر، وكذلك الأمر في رواية "شرق المتوسط" للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، إذ يتناول المرض السياسي -إذا جاز التعبير- وما يتلقاه السجناء من عذابات في المعتقلات تسبب عللا جسدية وأمراضا نفسية مزمنة.
ونرى الكاتب اللبناني رشيد الضعيف في روايته "الجبل" يتحدث عن تجربة شاب مع مرض السرطان في أثناء الحرب، وما يلي ذلك من آلام وعجز ويأس عارم، فيبدو المرض صنوا للموت في واقع بائس كالح المعالم.
نلحظ أن المرض أو الوباء في مثل هذه الروايات صار وسيلة للنقد الاجتماعي، وتسليط الضوء على التفاوت الطبقي الذي يتخلل حياة الناس ويصل إلى أبسط احتياجاتهم، ويصنفهم وفقا للطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، أو بحسب الحالة المادية التي يتمتعون بها، وفي سياق المرض خاصة تتباين المعاناة فيما بينهم، فالطبابة والاهتمام والرغبة بالتعافي وحلم الشفاء في بعض حالات الأمراض المستعصية تتوقف على الطبقة التي ينتمي إليها المريض.
وهناك كثير من الأدباء الذين استخدموا المرض أداة لتصوير فساد المجتمع، أو ما يتعرض له الناس من قمع سياسي في مجتمعاتهم، وبذا صار الجسد العليل لغة مقاومة ضد الأنظمة الفاسدة، والمجتمعات الظالمة أو العاجزة.
فالموت اختناقا في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني يقرأ بوصفه رمزا لمرض اجتماعي ناتج عن ضياع الهوية والشعور بعدم الانتماء. والانهيار الجسدي الذي أصاب البطل في رواية "شرق المتوسط" في حقيقته انهيار نفسي عصبي ناتج عن أسباب سياسية.
هل سبق أن قرأت رواية "شرق المتوسط" للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف؟ تعد هذه الرواية من الروايات السياسية المميزة التي تتحدث عن حال المعارضة السياسية في بلاد الشرق الأوسط عامة وما تتعرض له من تضييق واعتقالات. حين تطالع رواية "شرق المتوسط" ستجد أن المرض لم يقصد بذاته، بل كان رمزا للوطن المريض والبيت العليل والانتماء الشاحب والحضور الباهت، ومن ذلك قوله في المقارنة بين الوجوه الممتلئة عافية والوجوه المكسوة شحوبا:
"الإنسان في بلادنا أرخص الأشياء، أعقاب السجائر أغلى منه! آه لو تنظرين لحظة واحدة في قعر سرداب من آلاف السراديب المنشورة على شاطئ المتوسط الشرقي وحتى الصحراء البعيدة، ماذا ترین: بقایا بشر، ولهاثا وانتظارا يائسا. وماذا أيضا؟ وجوه الجلادين الممتلئة عافية وثقة بالنفس والضحكات، لا تستغربي شيئا يا سيدتي".
وكذلك السجن في الرواية نفسها لم يكن محض مكان يقيد الحرية ويطبق على الأنفاس، بل كان رمزا للأمراض الأخلاقية التي استشرت في المجتمعات آنذاك، فهو يقول بكل ما في اللغة من وجع:
"وضعوني في كيس كبير، أدخلوه في رأسي، وقبل أن يربطوه من أسفل أدخلوا قطتين. هل يمكن للإنسان أن يتحول إلى عدو للحيوان؟ والقطط ماذا تريد مني؟ كانت يداي مربوطتين إلى الخلف، كنت مستلقيا على وجهي أول الأمر، وكلما ضربوا القطط وبدأت تنهشني وحاولت أن أنقلب على جنبي، أحس برجل ثقيلة فوق كتفي، على وجهي، وأحس الأظافر تنغرس في كل ناحية من جسدي، لما فكوا الكيس كنت أريد أن أرى القطط، كنت أريد أن أحفظ وجوه أعدائي الجدد".
يبدو المرض في الروايات التي تتحدث عن السيرة الذاتية للكاتب أشبه بهوية شخصية أو فنية، ففقد البصر الذي أصاب الأديب المصري طه حسين في طفولته لم يكن محض إصابة مرضية أو إعاقة دائمة فحسب، بل كان هوية ذاتية ومكونا أساسيا من مكونات الشخصية، ومن جهة أخرى كانت إصابته دافعا وعاملا من عوامل الإبداع لديه، فشكل فقد البصر رؤاه نحو العالم والحياة، وكان منطلقا له في بناء ثقافته وتخير مساراته.
فقد تحدث طه حسين عن مرضه وإصابته بالعمى في سيرته الذاتية التي سماها "الأيام"، وكتب عن تفاصيل تجربته مع المرض الدائم الذي لا خلاص منه، وما تركه في نفسه من مخلفات نفسية قاسية فرضت عليه عزلة مجتمعية فارقة وأورثته معاناة نفسية خالصة، ويبدو ذلك واضحا في إحدى الرسائل التي كتبها لزوجته سوزان، إذ قال فيها: "بدونك أشعر أني أعمى حقا. أما وأنا معك فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي".
أما مي زيادة الأديبة الفلسطينية الشهيرة التي اجترحت لنفسها هذا الاسم واشتهرت به، فقد أصيبت بانهيار عصبي حاد، اضطر أهلها إلى الذهاب بها إلى مشفى للأمراض النفسية والعقلية، وصار مرضها أو انهيارها النفسي العميق بعد ذلك نقطة تحول فارقة في حياتها، وصار جزءا من مسيرتها الأدبية.
وكذلك الكاتبة المصرية رضوى عاشور في روايتها "أثقل من رضوى" التي تحكي فيها قطعا من سيرتها الذاتية، وتتحدث فيها عن مرورها بتجربة مرضية مريرة مع مرض السرطان في سنواتها الثلاث الأخيرة، حيث ضاقت الآفاق من حولها بين مرض خطير وواقع تختلط فيه خطوط الثورة بالتحرير بدم الشهداء والمقاومة، وتخلق رضوى من الألم الذي عاينته نصا خاصا عن المقاومة بنكهة التعب والمرض.
أما الكاتبة نوال السعداوي فقد سطرت في روايتها "مذكرات طبيبة" كثيرا من الوقائع والأحداث التي عاشتها بين المرضى، وفي أروقة المستشفيات بوصفها طبيبة تهتم بالأمراض الصدرية والنفسية، مما ترك أثره العميق على خطها الأدبي والحياتي والعقدي، لا سيما أن عملها سمح لها بتسليط الضوء على أخطاء الأطباء وجهل المرضى، والمشكلات التي تعتري المنظومة الطبية آنذاك.
يبدو المرض في كثير من النصوص الأدبية فضاء للتجلي الروحي والمكاشفات الذاتية النفسية، إذ يمنح المرء فرصة اكتشاف مدى متانة العلاقات من حوله، وقد يكون سببا رئيسا في تغيير قيمه وقناعاته، لا سيما عند تجلي المعنى الحقيقي للموت والحياة أمام عينيه، ومعاينة الضعف والقوة، والتخبط بين الانهيار والثبات.
بعد الأوبئة التي تكتسح المجتمعات فتعطلها أو تكاد تفنيها يحمل الأدب سردية واحدة تصبغ المجتمع بلون واحد، فالعالم بعد وباء كورونا الذي عطل الكرة الأرضية برمتها وخلخل نظامها لم يعد كسابق عهده، إذ لا يمكن لوباء عم العالم وجاب الآفاق أن ينجلي من دون آثار عميقة على الأفراد والمجتمعات، ناهيك من عدد الوفيات الضخم الذي خلفه هذا الوباء في بقاع الأرض كلها، إذ كان كالنار التي تأكل الهشيم في المجتمعات والبيئات التي لا تملك أدنى معايير الحماية الطبية.
لم يترك الكتاب حدثا كبيرا مثل جائحة كورونا من دون الحديث عنه ونسج روايات وقصص حوله، تعكس الواقع من جهة، وتسير بالركب الأدبي وفقا للكاتب من جهة أخرى. ومن ذلك رواية "هاربون من كورونا" للكاتب الأردني مصطفى القرنة، إذ تحدث فيها عن مسار الوباء عبر الأشهر الطويلة في ثقافات مختلفة وشعوب متنوعة.
وفي رواية "ليالي الكورونا" لأماني التونسي، تحدثت الكاتبة عن معاناة الطبقة المتوسطة في المجتمع في ظل الضائقة الاقتصادية التي تسبب بها الوباء في أنحاء العالم، فانسحقت الطبقة الفقيرة وعانت الطبقة المتوسطة حتى كادت تختفي.
وكذلك رواية "وهم الكورونا" للكاتب العراقي حسن عبيد عيسى، فقد تحدث فيها عن حالات الفزع التي أصابت الناس من جراء شعورهم بالقلق والخطر المحدق، وقد وصف في إحدى صفحات الرواية مجالس العزاء في ظل الوباء فقال: "رأيت اثنين من المعزين يغادران قاعة العزاء وكل منهما يخفى نصف وجهه خلف كمامة قماشية خضراء، حتى دهمني الخوف… في الحال تذكرت الموت الذي أودى بحياة الصينيين في الطرقات واحتشدت صور ارتعاشهم الأخير وهم يلفظون أنفاسهم، وكيف كنت أتماهى معهم وأنا أشاهد ذلك الموت الكثيف، كان يشعرني برجفة مماثلة".
ومن ذلك قصة "ألاعيب خالد مع كورونا" للكاتب محمد ولد محمد سالم الموجهة للأطفال بالدرجة الأولى، إذ تتحدث عن معاناة طفل موريتاني انتقل للعيش في الإمارات، وكون مجموعة من الأصحاب الذين يشاركهم اللعب، فمنعتهم جائحة كورونا وقيود العزلة والتباعد الصحي من ذلك.
بدا المرض في الأدب الحديث أشبه بعدسة شفيفة تصور العالم وتسبر أغوار الذات، فلم يكن محض داء يتباكى الأدباء من آثاره ومواجعه، بل تحول إلى منظار تتراءى من خلفه خفايا النفوس، وتتعرى أمامه المجتمعات، وصار الوباء مفهوما فلسفيا أدبيا معقد التركيب، تتزلزل بسببه أركان العالم، فيجبر البشر على إعادة ترتيب أولوياتهم من جديد حين يواجهون انهيار السلطة، أو لنقل بعبارة أدق: حين يواجهون العجز وعدم قدرة السلطة على رد الجوائح عنهم، فينبري الأدباء حينذاك إلى تشكيل الواقع بحروف تتسلح بالمواجهات الفكرية والثقافية في ساحات الجسد العليل المنهك.
تناول النثر العربي فكرة المرض على الحقيقة تارة في نقل معاناة أهل الأدواء وتصوير طبائع الجوائح والأوبئة، وعلى الرمزية في أحيان كثيرة، ولعل الأوبئة السياسية التي يصنعها مرض الاستبداد فيفتك بالمجتمع ويودي بالإنسان تعد أبرز الرموز والإشارات التي حملتها فكرة المرض في السرديات العربية.