قد تتوقع أن تأتي العنصرية ، التي تواجهها في الغربة من المجتمع المضيف، أي من قبل مجموعة مختلفة عنك لغويا وثقافيا، لكن المفاجأة المؤلمة هي أنك قد تواجه العنصرية أحيانا من قبل شخص يتحدث نفس لغتك وينتمي لثقافتك، بل وربما مر بتجربة الهجرة ذاتها.
إن "عنصرية مهاجرين ضد مهاجرين مثلهم" تشكل مفارقة صعبة تكشف عن ظاهرة يُطلق عليها في علم النفس "العنصرية الداخلية"، حيث يتحول الضحية إلى مصدر للتمييز، فيسهم في وصم وإقصاء أفراد من مجموعته نفسها، في محاولة منه للبحث عن الاعتراف والقبول أو كتعبير عن مشاعر دفينة تتضمن كراهيته لنفسه أو حتى رفضه لذاته.
"لم أكن أدرك أن العنصرية التي سأواجهها ستكون من أبناء بلدي، بمجرد ما يسمعونني أتحدث بلغة ألمانية ضعيفة ينظر لي بعضهم باحتقار، ولا سيما أنني هنا بدون أوراق". هكذا يروي كريم، وهو مهاجر عربي يعيش بلا أوراق في مدينة فرانكفورت، عن تجربته مع العنصرية التي يمارسها مهاجرون ضد مهاجرين.
ويضيف كريم: "أنا أيضا مثلهم وننتمي لنفس الثقافة، وكان من الممكن أن يكونوا في وضعي، لكنهم لا يشعرون بذلك. وبمجرد ما تقترب منهم في الشارع لتسألهم عن شئ يهرب بعضهم منك".
يعيش كريم منذ ثلاث سنوات مشردا في شوراع مدينة فرانكفورت، بعد ما تم رفض طلب لجوءه وهو مهدد بالترحيل بسبب عدم مغادرته ألمانيا طوعيا. لا يستطيع كريم أن يشتكي من الحوادث العنصرية التي يتعرض إليها، ويقول في هذا الصدد: "أنا لا أتحدث اللغة لأدافع عن نفسي وبدون أوراق، كما أن هذه السلوكيات العنصرية من أبناء بلدي تشعرني بالحزن وأني بدون قيمة. كنت أنتظر منهم على الأقل التعاطف" معي.
لا يقتصر رفض المهاجرين للمهاجرين على المواقف الفردية أو السلوكيات اليومية، بل يصل إلى حد انضمام بعضهم إلى حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD)، المعروف بخطابه المعادي للهجرة واللجوء وخصوصا من البلدان الإسلامية.
الكاتبة فيردا أتامان أشارت قبل سنوات في مقال لها بموقع مجلة "دير شبيغل" إلى وجود أشخاص من خلفيات مهاجرة داخل حزب البديل ، ومن بينهم مسلمون أيضا، وكتبت: "هناك أيضًا أشخاص، يُنظر إليهم مثلا على أنهم مسلمون، يُطلقون تصريحات عنصرية ضد المسلمين. أو أشخاص من أصول مهاجرة واضحة يُحرضون على كراهية المهاجرين".
وتابعت أتامان، التي أصبحت منذ يوليو/ تموز 2022 مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون مكافحة التمييز، أن "السود الناشطين في حزب البديل أو المسلمين الذين يُلقون محاضرات (في تجمعات) لليمينيين الشعبويين يلعبون لعبة خطيرة. فهم يسمحون لأنفسهم بالاستغلال". وأردفت أتامان: "إنهم يساعدون المتطرفين أو المتطرفين اليمينيين على اكتساب القبول الاجتماعي (فيقول المتطرفون): "انظروا، لدينا أيضًا مسلمون ويهود وأتراك وأفارقة هنا، وهم يشاركوننا وجهات نظرنا، لذا لا يمكننا أن نكون عنصريين أو معادين للسامية".
وفق دراسة لمعهد الأبحاث الألماني للهجرة والاندماج (DeZIM)، يصوت حوالي 8% من الأتراك الألمان لحزب البديل (AfD)، مقابل 45% للحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) أو حزب الخضر، بينما يشعر 32% من المهاجرين بالتمييز، ما يؤثر سلبيّا على مشاركتهم السياسية.
يصوت حوالي 8% من الأتراك الألمان يصوّتون لـ AfD، مقابل 45% لـ SPD أو حزب الخضر، بينما يشعر 32% من المهاجرين بالتمييزصورة من: Jan Woitas/dpa/picture allianceوتوضح كريمة بنبراهيم، التي تدير مركز المعلومات والتوثيق للعمل ضد العنصرية في شمال الراين-وستفاليا أن "العنصرية بين المهاجرين لا تنشأ من فراغ، بل هي نتاج للنظام الذي نعيش فيه". وتوضح أن "من يتعرض للتمييز قد يستبطن البنى الهرمية العنصرية إلى درجة يبدأ فيها بالابتعاد عن مجموعات أخرى أو التي ينتمي إليها، وغالبا عن تلك التي تتعرض لوصم أكبر، وهذا ما نطلق عليه العنصرية الداخلية".
وتضيف بنبراهيم وهي أيضا عضوة باللجنة المستقلة لخبراء معاداة المسلمين بوزارة الداخلية (UEM): "بعضهم يتبنى حتى الخطاب المعادي للهجرة لكي يُنظر إليه على أنه مندمج أو متكيف. سياسيا، هذا بالغ الخطورة لأنه يضفي الشرعية على السياسات العنصرية. السبيل الوحيد للخروج من ذلك هو إدراك هذه الآليات وممارسة التضامن عوضا عن التفرقة".
وترى بنبراهيم أن المشهد اليميني المتطرف يستفيد بشكل كبير من المهاجرين الذين يتبنون خطابه، وتوضح: "فجأة يمكنهم القول أن "ما نتبناه ليس عنصريا، فحتى المهاجرون أنفسهم يقولون ذلك. وهذا ما يمنحهم صك براءة لأيديولوجيتهم، ويؤكد الأحكام المسبقة التي تمسنا جميعا".
علاوة على ذلك فإن عنصرية المهاجرين ضد مهاجرين "تصرف الانتباه عن المشكلة الحقيقية: البنى العنصرية. بالنسبة للمعنيين، قد يكون ذلك محاولة للحصول على الاعتراف أو لتجنب أن يصبحوا هم أنفسهم هدفا للعنصرية، لكن في النهاية، هم بذلك يعملون ضد أنفسهم ويدعمون القوى نفسها التي تشكك في وجودهم في هذا البلد"، تضيف بنبراهيم.
وجود أشخاص من خلفيات مهاجرة داخل حزب البديل من أجل ألمانيا، ومن بينهم مسلمين يعبّرون عن مواقف عنصرية ضد مسلمينصورة من: Frank Hoermann/SVEN SIMON/IMAGO
المحلل النفسي رشيد المناصفي يصف هذه الظاهرة بـ"العنصرية الداخلية،" ويشرح أن لها جذورًا نفسية واجتماعية ويقول: "يتشكل لدى بعض المهاجرين في السنوات الأولى الشعور بالنقص وإحساس أنهم أقل قيمة في نظر المجتمع بسبب اللغة أو لون البشرة أو الوضع الاجتماعي، وهذا يكرس عقدة النقص لديهم". ويتابع المناصفي: "لكن عوضا عن مواجهة هذا الشعور الداخلي، يحاول بعضهم توجيهه للخارج عبر ممارسة العنصرية ضد آخرين، خاصة من هم في وضع اجتماعي صعب مثل المهاجرين الجدد " .
ويوضح المحلل النفسي أن "هناك آلية دفاع نفسي عبر الإسقاط، حيث يكره الشخص ما يكره في نفسه، ويجده لدى لاجئ جديد مثل ضعف اللغة وصعوبة الاندماج أو ما يعتبرونه صورة ’المهاجر المتخلف‘. بعضهم يركز على انتقاد مهاجرين آخرين ليشعر بالتفوق".
ويشير المناصفي إلى "الرغبة الملحة في التماهي مع القوي". وقال إنها "آلية ذكرها عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، حيث يتبنى الشخص تحيزات وأحكام الطرف الأقوى حتى لو كانت ضده، معتقدا أن ذلك سيمنحه القبول في المجتمع المضيف".
ويؤكد المحلل النفسي رشيد المناصفي، الذي عمل في أبحاثه على الصراعات النفسية للمهاجرين من خلفيات عربية، أن "الانقسام الداخلي لدى شخص لا يملك نضجا نفسيا يجعله يعيش بين هويتين، هوية الأصل وهوية المهجر، دون تحقيق التوازن والتصالح، فيميل لهوية البلد المضيف ويعتبر أن إثبات انتمائه لها يتطلب مهاجمة المهاجرين الآخرين ومعاملتهم بعنصرية".
ويعتبر المناصفي أن "العنصرية أداة للرفع من قيمة الذات، ووسيلة لتعويض الشعور بكراهية الذات، لكنها في الحقيقة دليل على عدم الأمان النفسي وضعف الهوية، لأن الشخص الواثق من نفسه لا يحتاج أن يقلل من قيمة أي شخص آخر".
إلهام الطالبي