على مرتفعات الحجر الجيري المطلة على وادي لاو في شمال المغرب، وتحديدا في موقع يعرف باسم "كاش كوش"، كان فريق من الباحثين المغاربة الشبان يزيح الغبار عمّا تبقى من زمن منسي. لم يكونوا يبحثون عن كنوز، بل عن دلائل. ولم تكن الأدوات الفاخرة ولا القصور القديمة مبتغاهم، بل عظام بشرية متهالكة، وقطع فخارية متآكلة، وآثار نباتات وأطعمة حملتها أيدي أناس عاشوا هنا منذ آلاف السنين. هؤلاء الباحثون، وفي مقدمتهم حمزة بنعطية، انطلقوا في مغامرة علمية هدفها قلب فرضيات قديمة ظلت سائدة عقودا.
لطالما اعتقد بعضهم أن شبه جزيرة طنجة، في أقصى شمال غربي أفريقيا، كانت منطقة معزولة هامشية في عصور ما قبل التاريخ، مجرد ممر أو فراغ حضاري. لكن هذا الاعتقاد بدأ يتهاوى تحت وطأة الأدلة المتزايدة التي كشف عنها الموقع. كانت البداية مع تأريخ بالكربون المشع لطبقات الأرض، ثم التنقيبات التي كشفت عن وجود ثلاث مراحل استيطانية متتالية، تعود إلى ما بين 2200 و600 قبل الميلاد. مجتمع زراعي مستقر كان يعيش هنا، قبل زمن الفينيقيين، بل ويتفاعل مع الثقافات المتوسطية دون أن يذوب فيها.
تتميز السواحل الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط بديناميات اجتماعية ثقافية واقتصادية معروفة جيدا خلال العصر البرونزي والعصر الحديدي المبكر (2200–550 قبل الميلاد)، لكن في المقابل يظل فهمنا للسواحل الأفريقية غامضا نسبيا. يؤكد موقع "كاش كوش" فاعلية المجتمعات المحلية، متحديا فكرة أن شمال غربي أفريقيا كانت أرضا خالية قبل وصول الفينيقيين.
يعرف هذا العصر البرونزي أفضل بفضل مشاريع في مناطق أخرى على طول المغرب الأطلسي والمتوسطي، بما فيها رشقون في الجزائر، وقرطاج وليكسوس وعتيقة (أوتيك) في تونس. لكن المرحلة التي تسبقه مباشرة (المعروفة إقليميا بالعصر البرونزي المتأخر، نحو 1300–900 قبل الميلاد، وهي فترة حرجة لدراسة المجتمعات المحلية القائمة) تبقى مجهولة تقريبا. وفي أماكن أخرى من المغرب الكبير، تبقى هذه الفترة غامضة أيضا؛ ففي تونس يرتبط طراز سكني من الهياكل الحجرية بفترة تسبق الواردات الفينيقية، لكنه لا يعود لأكثر من 1000 عام قبل الميلاد.
"خلافا لما كان يعتقد، لم تكن هذه المنطقة خالية، بل كانت مليئة بالحياة والطقوس والنشاط الزراعي"، يقول حمزة بنعطية، الباحث في جامعة برشلونة، في حديث لوكالة الأنباء الألمانية. ويضيف: "أظهرت تحليلاتنا أن الناس هنا لم يكونوا معزولين، بل كانوا جزءا من شبكة واسعة تشمل جنوب إيبيريا وشرق المتوسط".
اهتزت الأوساط العلمية العالمية عام 2017 لاكتشاف مذهل في منطقة جبل إيغود قرب مدينة آسفي وسط المغرب. هناك، تحت طبقات من الصخور الرسوبية، عثر على بقايا عظام بشرية وأدوات حجرية. لم تكن مجرد بقايا، بل كانت أقدم ما عثر عليه للنوع البشري العاقل (Homo sapiens)، تعود إلى 300 ألف عام.
لم يعد شرق أفريقيا وحده مهد الإنسان الحديث، كما كانت تعتقد النظرية السائدة، بل أصبح المغرب فاعلا رئيسيا في فهم بداية الإنسان وتطوره. لم تكن هذه الجماجم سوى البداية لسرد طويل ومتشعب عن حياة كانت تدب هنا، حين كانت الأرض بكرا والسماء أرحب.
تظهر نتائج الأبحاث الأخيرة المنشورة في عدد من المجلات العلمية أن سكان "كاش كوش" مارسوا الزراعة بانتظام، وربوا الماشية، واستعملوا أدوات متقدمة نسبيا. وحتى في غياب الكتابات أو المدونات، فإن ما تبقى من طعامهم، وأدواتهم، وهياكلهم العظمية، كان كافيا لرسم صورة عن مجتمع متوازن ومستقر. ومع مقارنة هذه النتائج بمواقع أخرى مثل جبل إيغود وسط البلاد، وتافوغالت في شرقها، ودروة زيدان شمالا، تبرز صورة أكثر ثراء عن تاريخ المغرب ما قبل التاريخ.
لكن المفاجآت لم تتوقف عند حدود الزراعة والاستقرار. فداخل إحدى المغارات المكتشفة في "كاش كوش"، وجد الفريق العلمي ثلاثة هياكل عظمية تعود إلى العصر الحجري الحديث، نحو 4900 عام قبل الميلاد. وإذا ما تمكن العلماء من استخراج الحمض النووي من هذه البقايا، كما يطمح حمزة بنعطية، فسنكون أمام واحدة من أهم المحطات في إعادة بناء تاريخ الهجرات البشرية.
"نحن نبحث حاليا عن أدلة جينية تؤكد وجود تزاوج واختلاط بين سكان جنوب أوروبا وشمال أفريقيا عبر مضيق جبل طارق"، يقول بنعطية، موضحا أن هناك شواهد تدعم هذه الفرضية، تعود إلى ما بين 5000 و7000 عام قبل اليوم. الأمر لا يتعلق فقط بتفاعلات ثقافية أو تجارية، بل بعبور أناس، واستقرار، ودماء امتزجت. هذه الهجرات، كما يقول بنعطية، لم تكن طارئة ولا محدودة، بل كانت جزءا من دينامية طويلة الأمد تربط بين ضفتي المتوسط.
اللافت أن تاريخ هذه المنطقة لم يتوقف عند المجتمعات الزراعية، بل استمر في التطور ليفرز مع مرور الوقت تنظيمات أكثر تعقيدا. بداية من القرن الرابع قبل الميلاد، شهد المغرب، بحسب بنعطية، نشوء نظام ملكي مبكر، أطلق عليه اسم "الملكية المورية". وهو نظام لم تعرفه الضفة الشمالية للمتوسط في تلك المرحلة، حيث كانت تسود المدن-الدول الصغيرة. ويضيف: "كانت المملكة المورية تمتد من طنجة إلى وليلي وربما أبعد، ما يجعلنا نتحدث عن كيان سياسي قوي ومنظم".
هذه المعطيات تفتح نقاشا تاريخيا مهما: لماذا احتل الرومان شبه الجزيرة الإيبيرية قبل 200 عام من الميلاد، بينما لم يدخلوا إلى المغرب إلا بعد 40 عاما من الميلاد؟ الجواب، وفقا لبنعطية، يكمن في قوة الدولة المغربية آنذاك، مقارنة بتشتت إسبانيا إلى دويلات صغيرة. وقد اقتصر الوجود الروماني في المغرب على منطقة محدودة جنوب وليلي قرب مدينة مكناس، وتركزت آثارهم في قلاع محددة.
لكن ما توصل إليه الفريق العلمي لا يمثل سوى البداية، كما يؤكد حمزة بنعطية: "ما نراه اليوم ليس إلا واجهة الواجهة. ولو أتيحت لنا الإمكانيات والوقت الكافي، فأنا أضمن لكم أن ما سنكتشفه قادر على إعادة كتابة تاريخ شمال أفريقيا والمتوسط وغرب أوروبا بأكمله".
ويشير إلى وجود مواقع أثرية هائلة لم تمس بعد، خاصة في محيط مراكش وعلى امتداد الساحل الأطلسي من الرباط إلى الجديدة، قائلا: "نحن نتحدث عن أراض ممتدة على عشرات الهكتارات، وقد تحتوي على مقابر جماعية ومراكز حضرية مجهولة. ثلاث سنوات فقط من البحث العلمي الجاد كفيلة بإحداث ثورة معرفية".
يضع الباحثون آمالا كبيرة على استخراج الحمض النووي من أحد الهياكل التي عثر عليها في الموقع الأثري. "هذا الاكتشاف سيكون الأول من نوعه في شمال أفريقيا إذا نجحنا في الحصول على الحمض النووي. لكن الأمر مرهون بنسبة الكولاجين، التي نأمل أن تكون كافية، وسنعرف ذلك خلال ثلاثة أشهر"، يوضح بنعطية.
وتكمن أهمية هذه العينات في ارتباط العصر البرونزي بهجرات كبيرة شهدتها أوروبا من الشرق إلى الغرب، وتحديدا من مناطق مثل روسيا وأوكرانيا نحو غرب أوروبا، وهو ما أثبته علم الجينات سابقا. في حال التأكد من وجود روابط جينية مشابهة في المغرب، سيكون ذلك مؤشرا دامغا على أن شمال أفريقيا كان جزءا من هذه الموجات البشرية الكبرى، لا مجرد مستقبل سلبي لها.
كل هذا يعيد صياغة موقع المغرب القديم في السردية العالمية لتاريخ البحر الأبيض المتوسط. لم يكن المغرب مجرد هامش أو صدى لما يجري في الشمال، بل كان مركزا قائما بذاته، يشع حضارة وتنظيما سياسيا واجتماعيا مبكرا.
من "كاش كوش" إلى "جبل إيغود"، ومن طقوس العصر الحجري إلى تشكل الممالك، يتضح أن شمال المغرب لم يكن أرضا خاملة كما ساد الاعتقاد، بل كان قلبا نابضا في ذاكرة المتوسط. ولا يزال في جعبة الأرض أسرار كثيرة، تنتظر من ينبشها بعين الباحث وشغف المؤرخ.