في كتاب "الرأسمالية التاريخية" يقربنا إيمانويل فالرشتاين، أستاذ نظرية النظم العالمية، من إجابات عن أسئلة جوهرية من خلال قراءته التحليلية المعمّقة للرأسمالية وتطورِها وآثارها، والمؤلّف يقدم تأريخا موجزا للرأسمالية يمتد لـ5 قرون، لكنه على ذلك لا يقدّم تأريخا تقليديا لنظام اقتصادي فحسب، بل يكشف البنية الخفية التي تنظّم عالمنا، وتعيد تشكيل مصير الدول والمجتمعات.
وبتتبّعه نشأة السوق العالمية وتطور أنماط العمل والإنتاج، يسعى إلى تحديد السمات الجوهرية لهذا النظام، مميزا بين ما استقر منها وما خضع للتحوّل عبر العصور.
يرتكز فالرشتاين في تحليله على فرضية مركزية مؤدّاها أن الرأسمالية العالمية قد أسهمت في إفقار بلدان الجنوب، وأن استمرار هذه البلدان داخل إطار هذا النظام العالمي سيجعل مشكلاتها البنيوية -الاقتصادية والاجتماعية- عصيّة على الحل.
والكتاب صغير الحجم، لكنه كثيف الدلالة، ومشحون بمفاهيم نظرية عميقة تضع القارئ في مواجهة الأسس البنيوية التي نشأت عليها الحداثة الغربية، وتطورت من خلالها الرأسمالية بصفتها نظاما عالميا مهيمنا.
وقد صدر الكتاب حديثا بنسخته العربية ونقلته إلى العربية عومرية سلطاني بعنوان "الرأسمالية التاريخية، ويليه: الحضارة الرأسمالية".
ينطلق فالرشتاين من أطروحة مركزية مفادها أن الرأسمالية ليست محض مرحلة اقتصادية لاحقة لنظام الإقطاع، بل هي نظام عالمي نشأ في أوروبا الغربية في القرنين الـ16 والـ17، وتوسع تدريجيا ليشمل العالم بأسره، وقد مثّل تفكك الإقطاعية شرطا بنيويا لولادة الرأسمالية، لكن الرأسمالية لم تتشكل بوصفها نظاما محليا ولا نظاما وطنيا، بل كانت منذ بدايتها ذات طبيعة عابرة للحدود.
ويميز فالرشتاين بوضوح بين الاقتصاديات القومية التي تفترض وجود أسواق ومؤسسات داخلية مكتفية بذاتها، وبين الاقتصاد الرأسمالي الذي لا يمكن فهمه إلا بوصفه نظاما عالميّا. وقد نشأ هذا النظام من خلال تقسيم عالمي للعمل أنتج تراتبية ثُلاثية بين دول المركز، ودول الهامش الوسيط، ودول الهامش، وهي بنية لم تتغير جذريا منذ نشأته.
يركّز الكتاب على تحليل الآليات التي تُبقي على تراتبية المركز والهامش داخل النظام الرأسمالي .
أمّا دول المركز -أوروبا الغربية ثم أميركا الشمالية فيما بعد- فقد احتكرت تقنيات الإنتاج المتقدمة، والمؤسسات المالية، وفرضت قواعد التبادل التجاري بما يخدم تراكم الثروة المستمرة فيها وبما يبقي على الهيمنة المستمرة.
وأما دول الهامش، فقد وُظّفت في النظام الرأسمالي بوصفها مصادر للمواد الخام واليد العاملة، وسوقا للمنتجات المصنّعة، ومجالا لتصدير الفوائض السكانية والسلعية.
وأمّا الدول التي تقع في النطاق الذي يسميه فالرشتاين "الهامش الوسيط" -مثل البرازيل، وتركيا ، والمكسيك- فتتذبذب بين الاستفادة المحدودة من آليات المركز، وبين الوقوع في فخ التبعية الهيكلية. فهي تستغل دول الهامش من جهة، لكنها خاضعة لهيمنة المركز من جهة أخرى.
وفي هذا النموذج، تصبح الرأسمالية العالمية نظاما يقوم على إنتاج "اللامساواة"، لا عَرَضا بل بنيويا. فالتفاوت ليس انحرافا عن النظام ولا مخالفة له، بل هو في الحقيقة محرّكه الذي يجعله يعمل ويستمر.
يرى فالرشتاين أن الرأسمالية ليست أبدية ولا خالدة، بل هي نظام تاريخي له بداية ونهاية. وقد دخل هذا النظام، بحسب تحليله، منذ سبعينيات القرن العشرين مرحلة أزمة بنيوية طويلة الأمد. وتتجلى هذه الأزمة في 3 مستويات:
ويستند فالرشتاين في تحليله إلى فكرة الدورات الطويلة في التاريخ، ويرى أن النظام الرأسمالي يمر الآن بمرحلة انتقالية قد تؤدي إلى انهياره أو تحوله إلى شكل جديد ليس معروفا بعد. لكنه لا يتنبأ بنموذج بديل، بل يكتفي بالإشارة إلى أن ملامح ما بعد الرأسمالية لم تتضح بعد.
في الحديث عن "الحضارة الرأسمالية"، يرسم فالرشتاين لوحة بانورامية لنظامٍ لم يعد إطارا اقتصاديا فحسب، بل أصبح حضارة قائمة بذاتها، تنتج أنماط الحياة والقيم والمعايير التي تنظّم سلوك البشر على نطاق عالمي. ويوازن الكاتب بين المكاسب التي لا يمكن إنكارها للرأسمالية، مثل تحسين مستويات المعيشة لبعض فئات السكان، واتساع رقعة الطبقة الوسطى، وبين اختلالاتها البنيوية العميقة؛ إذ لا تزال الأغلبية الساحقة من البشرية تعاني التهميش والتفاوت والحرمان من الحقوق الأساسية.
ويشير إلى أن "الحقوق" في هذا النظام تُمنح بوصفها امتيازات مرتبطة بالموقع الجغرافي والطبقي، لا باعتبارها استحقاقا إنسانيا عاما. كما يرى أن الرأسمالية المعاصرة، وقد بلغت ذروتها الحضارية، تدخل طورا من الأزمة الهيكلية يتجلى في تراجع الربحية، وتآكل الشرعية، وصعود القوى المناوئة للهيمنة العالمية. وبذلك، فإن هذه الحضارة تُقارب نهايتها المحتومة، لا بانهيار مفاجئ، بل من خلال تفكك تدريجي يفقد فيه النظام قدرته على إدارة تناقضاته.
يمثل هذا الكتاب قطيعة مع الرؤى الاقتصادية التقليدية التي ترى في الرأسمالية تطورا طبيعيا أو حياديا. فبالنسبة لفالرشتاين، الرأسمالية ليست مجرد تنظيم اقتصادي، بل هي حضارة كاملة تتداخل فيها البنية الاقتصادية مع النظام الثقافي والقانوني والسياسي.
وهو ينتقد بشدة ما يسميها "الاقتصادوية" التي تختزل المجتمعات في مؤشرات النمو والأسواق والاقتصاد، فضلا عن أنه يرفض الفصل بين البنى الاقتصادية والسياسية، إذ يرى أن الدولة الوطنية الحديثة كانت دوما أداة لخدمة رأس المال العالمي.
كذلك يدمج فالرشتاين تحليله التاريخي بوعي منهجي نقدي، فهو يهاجم النزعة الاختزالية في العلوم الاجتماعية الغربية، التي تقسم المعارف إلى تخصصات منفصلة (تاريخ، واقتصاد، وسياسة…)، ويقترح بديلا يقوم على رؤية شمولية تتعامل مع الظواهر الاجتماعية في ترابطها البنيوي الحقيقي.
وأخيرا فإن كتاب "الرأسمالية التاريخية" يقدّم إسهاما بالغ الأهمية في فهم الرأسمالية بوصفها نظاما عالميا تاريخيا، لا مرحلة اقتصادية فحسب. وهو يضع القارئ أمام تعقيد العلاقة بين المركز والهامش، ويكشف كيف أن النظام الرأسمالي يعمل من خلال إعادة إنتاج "اللامساواة"، من خلال تقسيم دولي للعمل، وتفاوت في شروط التبادل، واحتكار للمعرفة والتقنية.
ولا تقتصر قيمة هذا الكتاب على ما يقوله عن الماضي، بل تمتد إلى قدرته على تفسير الأزمات المعاصرة من التفاوت الاقتصادي المتصاعد بين الدول، والأزمة البيئية، وصراع الهيمنة العالمي.
وبذلك، فإن كتاب فالرشتاين يصلح لأن يكون مدخلا نظريا وواقعيا لفهم العولمة، والهيمنة، وتاريخ النظام العالمي، وهو لا يزال يحتفظ بأهميته رغم مرور عقود على تأليفه. بل لعله اليوم، في زمن التحولات الكبرى، أشد أهمية من أي وقت مضى.