يصادف 6 يونيو/ حزيران 2025 الذكرى 150 لميلاد توماس مان. يجمع عالم الأدب على أن حياة توماس مان (1875-1955) وكتابته كانتا مرتبطتين ارتباطا وثيقا. أصبح الكاتب الألماني مشهورا على مستوى العالم كصوت مهم للثقافة وكرحالة. تستند شهرته في المقام الأول إلى أعماله الأدبية، فقد كتب روايات عظيمة مثل "بودنبروكس" التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1929، و"الجبل السحري" و"الدكتور فاوستوس". ومع ذلك فإن التزامه السياسي جعله مهما أيضا. كتب مقالات وصاغ خطابات إذاعية: عاش توماس مان حياة في أوقات مضطربة في السياسة العالمية، حيث عايش حربين عالميتين، والحكم النازي والهولوكوست . وينعكس الكثير من ذلك في أعماله.
بيت توماس مان في لوس انجلوس. عاش الكاتب الألماني في المنفى في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة 14 عاماصورة من: Bernd von Jutrczenka/dpa/picture allianceلم يكن أي من هذا واضحا عندما وُلد توماس مان في لوبيك في 6 يونيو 1875 كابن لتاجر. نشأ في عائلة كبيرة مع أربعة أشقاء. وحتى عندما كان تلميذا في المدرسة كتب أولى رسوماته النثرية ومقالاته. ومثل شقيقه هاينريش اشتعلت شعلة الأدب في نفسه، الأمر الذي أحزن والده. ولكن حتى الكتاب العظماء يبدؤون صغارا: ففي المدرسة لم يُضطر إلى إعادة الصف الدراسي مرة واحدة فقط، بل فشل أيضا في الحصول على أكثر من درجة "مرضية إلى حد ما" في اللغة الألمانية.
وعندما توفي والده في عام 1891 ترك مان المدرسة قبل أن يكمل دراسته الثانوية وانتقل إلى ميونيخ مع أسرته وبدأ هناك تدريبا مهنيا في مجال التأمين، وسرعان ما تخلى عنه. وعاش على ميراث والده وبدأ العمل ككاتب مستقل. ظهرت أولى كتاباته بعنوان "أفضال" في مجلة المجتمع ”Die Gesellschaft“ عام 1894. أراد مان الآن أن يصبح صحفيا.
سافر إلى إيطاليا لمدة عامين مع أخيه هاينريش. وهناك كتب "بودنبروكس" التي نُشرت في عام 1901 بعد عودة مان. تدور أحداث الرواية حول سقوط عائلة تاجر ثري استنادا إلى تاريخ عائلة مان. أشاد النقاد بالرواية الأولى التي كان من المخطط لها في الأصل أن تكون عملا مشتركا بين الأخوين. ومنذ ذلك الحين قام توماس مان بتمويل نفسه من موارده الخاصة.
الكاتب الالماني توماس مان العودة إلى سويسرا: توماس مان قبل وفاته بفترة وجيزة في عام 1955صورة من: Fritz Eschen/akg-images/picture allianceأعمال أخرى تلي رواية "بودنبروكس" بدءا من مجموعة روايات "تريستان" (1903) والتي تتضمن أيضا "توني كروغر" وهي قصة عن التناقض بين الفنان والمواطن والروح والحياة. وفي عام 1905 سعى توماس مان إلى أن يعيش حياة الطبقة الوسطى بزواجه من كاتيا برينغشيم، ابنة عائلة ثرية من المفكرين في ميونيخ. أنجب الزوجان ستة أطفال. ويسير بعضهم لاحقا على خطى والدهم ويصبحون كُتابا.
تستمر الحياة في الدوران. تبدأ الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وينشأ خلاف بين توماس وشقيقه هاينريش الذي أصبح الآن مؤلفا ناجحا أيضا. الحرب هي نقطة الخلاف: ينشر هاينريش كتيبا مناهضا للحرب. ويعارض توماس ذلك ويشرح السبب بعد أربع سنوات: في مقال "Betrachtung eines Unpolitischen" (تأملات لشخص غير سياسي) 1918، يدافع فيها عن الإمبراطورية وسياستها الحربية. ولم يغير موقفه حتى عام 1922 في ذلك الوقت كانت ألمانيا قد خسرت الحرب ووصلت الديمقراطية إلى البلاد مع جمهورية فايمار حتى عام 1922. فقد أعلن في أحد خطاباته دعمه لديمقراطية فايمار.
وحصل توماس مان على جائزة نوبل للآداب عن رواية "بودنبروكس" عام 1929. كان نجاحا كبيرا للكاتب ووضع الأدب الألماني على الساحة العالمية. كان الشيء الوحيد الذي أزعج مان هو تعليل لجنة التحكيم: لم يتم ذكر روايته "الجبل السحري" التي نُشرت عام 1924.
ومن الأفلام الرئيسية أيضا: فيلم توماس مان ”Buddenbrooks“ الذي يحكي قصة سقوط عائلة تجارية المانيةوقبل فترة طويلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945) استشعر توماس مان الخطر. فوضع نفسه في مواجهة مع تنامي قوة الاشتراكيين القوميين . وفي عام 1930 أي قبل ثلاث سنوات من استيلاء هتلر على السلطة، وجه نداء ناريا ضد النازيين ولصالح الديمقراطية الاشتراكية. وفي ربيع عام 1933 لم يعد توماس مان إلى ألمانيا من جولة محاضرات في أوروبا. واستقر في سويسرا. نشر المجلد الأول من رباعية "يوسف وإخوته". يصف مان في الرواية تجسيد شخصية يوسف التوراتية.
وفي البداية يترك ما يحدث في ألمانيا دون تعليق حتى عام 1936 عندما يندد بسياسات ألمانيا في رسالة علنية إلى صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ" السويسرية. لم يتأخر الرد على ذلك: سحب النظام في برلين منه جنسيته الألمانية وسحبت منه الدكتوراه الفخرية من جامعة بون. كان النازيون قد سلبوا منه بالفعل شهرته وسمعته ولاحقا أيضا جزءاً من ثروته.
غادر آل مان ألمانيا إلى الأبد. هاجر توماس وكاتيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1938. تولى مان منصب أستاذ زائر في إحدى جامعات برينستون. وعندما سأله أحد المراسلين عند وصوله عما إذا كان يشعر بأن منفاه يشكل عبئاً عليه، أجاب توماس مان: "أين أنا من ألمانيا! أنا أحمل ثقافتي في داخلي ولا أعتبر نفسي رجلا ساقطاً".
كما شعرا بأنهما ملزمان بالكتابة: إريكا وكلاوس مان في صورة فوتوغرافية التقطت حوالي عام 1930صورة من: akg-images/picture allianceإبتداء من عام 1940 فصاعدا دعا توماس مان الألمان إلى المقاومة. بثت محطة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" خطاباته الإذاعية الشهرية عبر الموجة الطويلة إلى وطن مان القديم، متجاوزة الرقابة الألمانية. وفي أكثر من 60 برنامجا إذاعياً خاطب مان ضمائر مواطنيه، ولم يستثن القتل الجماعي لليهود.
لكن مان لا يكتفي بمصادقة معارضي الحرب فقط: عندما تصمت المدافع أخيراً يكتب رسالة علنية بعنوان "لماذا لن أعود إلى المانيا" (1945). وفيها يحمل جميع الألمان مسؤولية فظائع الحقبة النازية. ينكر عليه النُقاد الحق باعتباره في الخارج في إصدار حكم على الحياة في عهد هتلر.
كما قوبل تعليق مان على قصف المدن الألمانية بالقنابل بعدم الفهم عندما قال "يجب دفع ثمن كل شيء". أثار مان جدلاً أدبياً أيضاً، على سبيل المثال بروايته "دكتور فاوستوس" الصادرة عام 1947. تروي الرواية قصة ميثاق الملحن أدريان ليفركون مع الشيطان. وتعتبر محاسبة للظروف الاجتماعية التي مكنت الاشتراكية الوطنية.
ليتوانيا: توماس مان والعائلة على الشاطئصورة من: Suzanne Cords/DW
ولكن لم يكن كل شيء يسير على ما يرام في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا: فقد اشتبهت فيه أمريكا المعادية للشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية بأنه متعاطف مع حزب شيوعي وتم اتهامه أمام لجنة بمعاداة أمريكا. غادر الكاتب أمريكا مرة أخرى في عام 1952. ولم ينجذب إلى أي من الدولتين الألمانيتين (ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية). وبدلاً من ذلك عاد إلى سويسرا، حيث تُوفي في مستشفى كانتون زيورخ في 12 أغسطس 1955 عن عمر يناهز 80 عاما. بأدبه ولكن أيضا بصموده في وجه النازيين المهينين للإنسانية ضرب توماس مان مثالا شجاعاً. وقد إرثا لا يزال باقيا.
أعده للعربية: م.أ.م