في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
طنجة- في مدخل متحف برج النعام بمدينة طنجة، يقف تمثال ابن بطوطة بشموخ حاملا رسالة تذكّر العالم برحلته التاريخية التي ساهمت في مد جسور بين الشرق والغرب.
انطلق ابن بطوطة من هذه المدينة الساحلية، حيث ولد، في رحلة استغرقت ربع قرن، جاب خلالها العالم، ووصل إلى بلدان لم يسبقه إليها أحد، في أقصى الشرق في ماليزيا والفلبين، ومرورا بجزر المالديف والهند.
ترك هذا الرائد في الرحلة وأدبها كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، المعروف أيضا بـ"رحلة ابن بطوطة"، لكن ما جاء في روايته عن زيارته الصين أسال كثيرا من المداد وأثار حوله الشكوك من قِبل المستشرقين.
يرى الباحث المغربي عبد الله العلوي مؤلف كتاب "ابن بطوطة في الصين" -في حديث للجزيرة- أن سوء الترجمة أدى إلى تشكيك المؤرخين الغربيين في بعض روايات ابن بطوطة، إذ فهم المؤرخ الفرنسي هنري بول (1946-2017) من وصف ابن بطوطة تجارا صينيين يستخدمون الفيلة في مدينة "قلقيلية" (مدينة لم تعد قائمة) بالأرخبيل الإندونيسي أنه يتحدث عن الصين، وهو ليس كذلك.
كما أن المغاربة شككوا في روايات ابن بطوطة التي تصف ثراء الصين، وفي القصص الخارقة مثل حكاية المشعوذ الذي قطع أعضاء صبي ثم ركبها من جديد، وهذه حكاية أكد ابن بطوطة أنها خدعة.
لذلك، فإن انتقاد ابن بطوطة جاء نتيجة سوء فهم، وقد تعرض لهذا الموقف كل الرحالة تقريبا ومنهم ماركو بولو، فالناس تظن أن جميع الشعوب تعيش على شاكلتها، ثم إن الصين كانت بعيدة ومختلفة الثقافة كليا، ومن ثم فلا أحد صدق الرحالة فيما رووه.
ويلاحظ الأكاديمي المغربي ناصر بوشيبة -في حديث للجزيرة نت- أن ابن بطوطة يعد من أبرز رواد أدب الرحلة في العالم الإسلامي، إذ جاب أصقاع الأرض من المغرب إلى الصين وإندونيسيا، حاملا معه رؤية صوفية ساهمت إلى حد ما في المبالغة في روايته لبعض الأخبار، متأثرا بالمتخيل الشعبي الذي يؤمن بالكرامات والخوارق.
مع ذلك، يشدد الباحث بوشيبة -صاحب كتاب "تاريخ العلاقات بين المغرب والصين"- على أن انتقاص مستشرقين من ابن بطوطة غير مقبول، مشيرا إلى أن ذلك يأتي في سياق تاريخي من التنافس بين الشمال والجنوب، ومحاولات التقليل من قيمة الحضارة الإسلامية.
ويستعرض عدة أدلة من المصادر الصينية التي تثبت صحة رواية ابن بطوطة، ومن أهمها وجود شخصية الشيخ برهان الدين الكازروني، الذي ذكره ابن بطوطة في رحلته، في الوثائق الصينية القديمة، كما أن وصف ابن بطوطة مختلف الهدايا المتبادلة بين سلطان الهند وإمبراطور الصين وأهداف البعثة الدبلوماسية الصينية إلى الهند، تتطابق بشكل كبير مع ما ذكره المؤرخون الصينيون.
في حين يقول رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث وارف قميحة للجزيرة نت إن الشكوك حول رحلة ابن بطوطة إلى الصين تعود إلى: "وصفه بعض العادات الصينية (مثل استخدام الأوراق النقدية) الذي يتطابق مع روايات ماركو بولو، مما دفع المؤرخ هنري بول للاعتقاد بأنه نقلها من مصادر أخرى. كما أن غياب ذكر سور الصين العظيم في روايته، رغم أنه رمز بارز، يثير تساؤلات عن مدى دقته". ويرى المغاربة أن رواية ابن بطوطة عن "عجائب الصين" تشبه قصص "ألف ليلة وليلة"، مما قد يشير إلى تضخيم أو استعارة أدبية.
دور التجار والمستكشفين العرب في نقل المعرفة والثقافة بين الحضارتين الصينية والعربية أثار اهتمام الباحثين، فوجدوا في تتبع خطى ابن بطوطة وسيلة لفهم هذا الترابط العميق.
ولاحظ الباحث اللبناني وارف قميحة التأثير الإسلامي في المعمار المحلي، إذ إن هناك جناح الآثار الإسلامية بمتحف مدينة الزيتونة (تشيوانتشو حاليا) للمواصلات البحرية مما يؤكد وجود جالية إسلامية نشطة.
ومن الآثار التي صادفها وذكرها ابن بطوطة:
يقول الأكاديمي قميحة إن ابن بطوطة وصل إلى الصين في أواخر عهد أسرة يوان (المنغولية)، التي كانت تعاني اضطرابات سياسية وثورات ضد الحكم الأجنبي، مما جعل تحركاته محدودة وخطرة.
ويرجح أن تنقله بين المدن الساحلية بدلا من التوغل داخليا جعله يعتمد على كرم التجار المسلمين، مما يفسر تغير وضعه المادي بين الرفاهية والاعتماد على الآخرين.
وهو ما أكده بوشيبة بذكره أن ابن بطوطة سافر عبر القناة المائية التي تربط بين الخنساء (هانغتشو) وبكين، وقدم وصفا تفصيليا لكل مدينة وحاكمها، مبرزا أن رحلته أثارت إعجاب الباحثين الصينيين، الذين رأوا في شهادته دعوة إلى التعايش الممكن بين الثقافات المختلفة.
ويبرز العلوي أن ابن بطوطة كان "متغير الخاطر"، كما عبر هو بنفسه، إذ لم تعجبه المنكرات في الصين، ولم يكن له حظ للالتقاء بالإمبراطور والأمراء كما في بلدان أخرى، بينما كان مصدره الأساسي للمعلومات التاريخية هو القاضي "الصاغرجي"، الذي نصحه بمغادرة الصين.
ويشير إلى أن ابن بطوطة وضع عِلم الرحلة المقارن على خلاف من سبقوه الذين كانت رحلاتهم وصفية فقط، إذ كان يقارن الخضر واللحوم، والخزف، والفواكه، والأنهار، والكرم، والبحار، وعادات الشعوب، حتى أنه قارن فاكهة "النبق" الشوكية في المغرب وفي الهند، وذكر أن الخزف الصيني الذي يصنع بها يصل إلى المغرب في تلك المرحلة.
يقول قميحة إن ابن بطوطة انبهر أيضا بالاختراعات الصينية مثل الورق النقدي، مقارنة باستخدام المغرب للعملة المعدنية، كما أشار إلى أن الصينيين "لا يغادرون بلادهم أبدا" بسبب الاكتفاء الذاتي، بينما المغاربة كانوا تجارا رحالين، ووصف القصور الصينية ذات الأسقف المزخرفة، مقارنة ببساطة العمارة المغربية الإسلامية، وذكر أن المسافر في الصين يمكنه حمل الذهب لمسافات دون خوف، بينما في المغرب كانت القوافل تحتاج حراسة مسلحة.
ويقول رئيس جمعية التعاون الأفريقي الصيني للتنمية بوشيبة أن المؤرخين الصينيين استفادوا من كتاب ابن بطوطة لفهم تاريخ المجتمع الصيني والإدارة العمومية المحلية في تلك الحقبة، والذي كان مقسما إلى الطبقة الحاكمة من أسرة اليوان (المغول)، والعرب من غرب آسيا المشتغلين في الصناعات الحربية والمصارف، ثم الصينيين الأصليين (الهان) الذين كانوا يعانون الاضطهاد.
ويضيف أن ابن بطوطة روى أن الصين أحسن مكان لتطوير الأعمال التجارية، لوجود إجراءات أمنية صارمة، مثل محطات الإقامة والتفتيش، وتجهيز المسافرين بالمؤن الضرورية، وإرسال كل المعلومات الضرورية إلى المحطة الموالية، كما وصف بدقة جوانب من الحياة الصينية، مثل الطبخ بالبخار وصناعة الخزف، وقارنها بالمنتجات المحلية.
كان ابن بطوطة يميز ما شهده وما سمع به وما حُكي له، ويضيف أحيانا "والله على ما أقول شهيد". ويشرح العلوي أن خلفيته الإيمانية تمنعه من مخالفة الصدق، فمثلا سمع أن سد يأجوج ومأجوج يقع على بعد 6 أشهر من خان بالق، وأن هناك بشرا يأكلون "بني آدم إذا ما ظفروا به"، غير أنه أكد أنه "لم يشاهد السد ولا من شاهده".
بينما يبرز قميحة أن ابن بطوطة، بصفته فقيها مالكيا، كان ينظر إلى الصين عبر عدسة "دار الإسلام ودار الكفر"، فوصف إعجابه بتسامح الصينيين مع المسلمين، لكنه استنكر عادات مثل عبادة الأصنام.
ويضيف أن عدم إتقانه اللغة الصينية جعله يعتمد على ترجمة التجار المسلمين، مما قد يكون سبب أخطاء في نقل بعض التفاصيل. كما قد يكون أدخل بعض القصص الشفوية التي سمعها في رحلته ضمن سياق مشاهداته الشخصية، لتعزيز عنصر الإثارة في الرواية.
مدخل متحف ابن بطوطة في برج النعام، ويضم تمثال ابن بطوطة (الجزيرة)يحتفي الصينيون بابن بطوطة ليس فقط بصفته رمزا للتعددية الثقافية، بل أيضا لجذب السياح وتعزيز السياسة الخارجية.
يقول الأكاديمي قميحة إن الصين اليوم تروج لتراثها كملتقى للحضارات، وابن بطوطة يمثل التواصل التاريخي بين الصين والعالم الإسلامي. كما أن تسمية الشوارع والفنادق باسمه في مدن مثل تشيوانتشو تعكس رغبة في تسليط الضوء على تاريخها كجزء من شبكة طريق الحرير.
ويضيف أن الاحتفاء يأتي بتوافق مع خطاب "الحزام والطريق" الذي يُظهر الصين دولة منفتحة تاريخيا، وهي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن الـ19 من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.
بالإضافة إلى ذلك، أفرد الصينيون لابن بطوطة دراسات منشورة في مجلة العالم العربي، وهناك عديد من الكتب حول تاريخ أسرة "اليوان" التي اعتمدت على رحلاته، والتي لم تُترجم بعد إلى اللغة العربية ، كما يبرز الكاتب العلوي.
ومن بين من اهتم برحلة ابن بطوطة المستشرق الصيني عضو مجمع الكتاب الثقافي الصيني الدولي وو فو قوي (عبد الكريم)، الذي استغرق تأليف كتابه "رحلات ابن بطوطة في الصين" عدة عقود.
ويعد هذا الكتاب مرجعا أكاديميا مهمًا يوثق عملية الترجمة والتواصل الثقافي بين الصين والمغرب، ويقدم تحليلات وشروحات النسخ الأصلية من "رحلة ابن بطوطة".
يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط الصيني وو فو قوي عبد الكريم للجزيرة نت إن كتاب "رحلة ابن بطوطة"، قدم وصفا دقيقا لتفاصيل الحياة في الصين، من عادات وتقاليد وفنون وعمارة، مما أتاح للأوروبيين والعرب على حد سواء فرصة التعرف على حضارة بعيدة ومختلفة، وصحح الصورة المشوشة وغير الدقيقة التي كانت سائدة في أوروبا عن الصين.
ويبرز أن كتاب ابن بطوطة يعد وثيقة تاريخية ثمينة توثق العلاقات العريقة بين العرب والصين في القرن الـ14، وشهادة حية على الروابط الثقافية والتجارية التي كانت قائمة بين الحضارتين.
كما ساهم في تقديم صورة إيجابية عن الصين في العالم العربي، ووصف حياة المسلمين المغتربين هناك، مما ساعد على تعزيز الاحترام والتقدير للحضارة الصينية، والتواصل والتفاهم بين المسلمين في مختلف أنحاء العالم.