في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعد أكثر من 35 سنة من تأسيس علم الاستغراب، و3 أعوام على رحيل الدكتور حسن حنفي (1935-2021)، لم نر أي تأثير أو تطور لهذا العلم في مجتمعاتنا.
حسن حنفي الذي قضى حياته شغوفا بفكرة أن يجعل من الفلسفة طريقة حياة، وأن يجعل من الإسلام منهجا للإصلاح، وحين سأله أستاذه الدكتور يوسف مراد عن الموضوع الذي سيتخصص فيه، أجاب أنه يريد أن يحول "الإسلام إلى منهج عام للفرد والجماعة"، ورغم كل التقلبات التي مر بها والتناقضات التي استصحبها، بداية من تأثره في شبابه بالفكرة الإخوانية ثم ضم إليها لاحقا الفكرة الماركسية فأثمرت "اليسار الإسلامي"، وحاول عبثا أن يوفق بينهما، حيث تزاوج الأيديولوجي والمعرفي، ومن مجموعهما نتج مشروعان مهمان في تاريخ الفلسفة العربية "التراث والتجديد" و"الاستغراب".
وبعد ربع قرن من تأسيسه لمشروع "التراث والتجديد" خصص حسن حنفي الفصل الأخير من كتابه "مقدمة في علم الاستغراب" لإبراز المعالم التي تدفعه إلى التفاؤل في انتشار هذا العلم، وفي الوقت نفسه، يتأسف حسن حنفي على أنه أعطى وقتا كبيرا من حياته لمواجهة التراث، ولم يبدأ في مواجهة التراث الأوروبي إلا في آواخر عمره، مما أدى به إلى التسرع في وضع "علم الاستغراب"، وكله أمل في مجيء جيل أو أجيال لمواصلة مشروعه وبناء هذا العلم الجديد الذي أسس له في كتابه "مقدمة في علم الاستغراب".
ورغم التجاهل الذي جوبه به علم الاستغراب، في مواجهة علم الاستشراق الذي لا يزال مهيمنا على الساحات الفكرية والثقافية في منطقتنا، فإنه لا يخفى على أحد أن حسن حنفي رحل عن عالمنا وفي قلبه غصة وفي نفسه حسرة على مصير "علم الاستغراب"، الذي يحتاج إلى نقد بناء مثله في ذلك مثل كل هذه المشاريع الفكرية الكبرى.
وهذا التحقيق هو بمثابة محاكمة لمشروع حسن حنفي الفكري، خاصة "التراث والتجديد" و"علم الاستغراب"، والغرابة أن المحاكمة لا تأتي من الشاطئ الآخر المضاد للدكتور حسن حنفي، بل يأتي من البحر نفسه الذي عاش فيه حنفي يصارع الأمواج، ويعلم تلاميذه السباحة ومواجهة الأمواج المتلاطمة والعواصف الكاسحة.
التقينا 3 من أقرب أصدقاء وتلاميذ الدكتور حسن حنفي، وبقدر ما كانت سعادتنا بقوة منطقهم النقدي للمشروع، بقدر ما كان ألمنا من قوة الضربات التي نالت من مشروع نهضوي يواجه المركزية الغربية ويجعلها محلا للدراسة والنقد.
الدكتورة يمنى الخولي أستاذة فلسفة العلوم والرئيسة السابقة لقسم الفلسفة بجامعة القاهرة تجيب بتحفز وتقول: بل أثمرت وأينعت، وحان وقت الحصاد، ويؤسفني أن رحل أستاذي حسن حنفي فيلسوف الجيل قبل أن يشاهد 7 أكتوبر المجيد، ونضال المقاومة العربية الإسلامية في ملحمة غزة العظمى، على مدار عام ولم تنته الحرب، ويصدق كل فجر جديد على فشل الكيان الصهيوني وعجز نزاله العسكري عن تحقيق أي هدف واقتصاره على ارتكاب مسلسل المجازر والجرائم العسكرية والجنايات ضد الإنسانية، وكأنه الثور الذبيح، يهيج بالسكين في رقبته، ليدمر ما حوله ويغرقه بالدماء.. ثم يسقط في النهاية.
وتضيف الخولي لتقول عن أستاذها حسن حنفي إنه يتميز عن كل أساتذة الفلسفة بتحقيقه لعالمية واسعة، وأنها دخلت جامعات في أكثر من 30 دولة، من جامعة كيوتو في أقصى الشرق إلى جامعة هاواي في أقصى الغرب، وصولا إلى جامعات نيجيريا وسواها في قلب أفريقيا، ومرورا بالعديد من الجامعات الأوروبية والعربية، وحيثما تحل وترتحل تجد فلسفة حنفي موضع تدريس وإجراء أبحاث ورسائل جامعية وسيمنارات وندوات، في القارات الخمس التي زارتها، حتى أن جامعة هاواي، وهي من أكثر جامعات الولايات المتحدة اهتماما بالفلسفة الإسلامية القديمة أو الكلاسيكية والمعاصرة، تنظم برنامجا للدراسات العليا يدور حول "التراث والتجديد" ونظائره في الفكر العربي والإسلامي.
وتضيف الخولي: مشروع التراث والتجديد لفيلسوف الجيل حسن حنفي مشروع ثلاثي الأضلاع أو الجبهات: الجبهة الأولى هي الموقف من الأنا، والثانية هي الموقف من الآخر، والثالثة هي الموقف من الواقع.
في الجبهة الأولى يعاد بناء تراثنا بهدف تحويل علومه القديمة إلى علوم إنسانية حديثة، على أساس أن الوحي القرآني هو منطق الوجود المميز لواقعنا الثقافي.
ومن ثم، تأتي الجبهة الثالثة حيث يعاد بناء الموقف من الواقع بفعل قوى القرآن الكريم، وذلك من خلال تفسيره موضوعاتيا، أي موضوعا موضوعا، بتتبع الموضوع المعني عبر المصحف بأسره، وليس سورة سورة أو آية آية وفقا لتتابعها على صفحاته بالطريقة الطولية المتبعة في المصنفات التراثية.
هذا التفسير الموضوعاتي يحاول استكشاف معان غير التي أفصح عنها النص القرآني للوهلة الأولى في الماضي البعيد، مستهدفا مثوله ودوره في الواقع الثقافي المعاصر.
في هذا نجد علم الاستغراب هو الجبهة الثانية أو الحلقة الوسطى، هو الموقف من الآخر الغربي كما ذكرت. الاستغراب علم يهدف إلى فهم الآخر/ الغرب في إطاره وخطوط تطوره التاريخي، لتغدو الثقافة الغربية موضوع دراسة، وليس نقطة إحالة، ردها إلى حدودها التاريخية والجغرافية، قضاء على الزعم بخرافة الثقافة الكونية، التي جعل الغرب نفسه مركزا لها.
وفى هذا وذاك، الاستعداد لانتقال دورة الحضارة الإنسانية من الغرب إلى الشرق، من عصر الاستعمار والمركزية الغربية، إلى عصر ما بعد الاستعمار والتعددية الثقافية. إنه عصرنا الراهن الذي يشهد نهوض وتعملق لاغربيين، كانوا مستعمرين مستضعفين في الأرض، وأولئك هم الوارثون.
في القلب منهم دائرة إسلامية من 57 دولة هي الدائرة الوسطى، مركزها العروبة وآفاقها الإسلام ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾. علم الاستغراب هو التحرر من إسار المركزية الغربية والأيديولوجيا الاستعمارية، من سيطرة الآخر.
تقول الخولي: لا يوضع الاستغراب في مواجهة الاستشراق، بقدر ما يوضع في تآزر مع فلسفة التحرير ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية حيث أقوى فلسفات ما بعد الاستعمار.
إن حنفي يقابل ويناظر فيلسوف ما بعد الاستعمار الأكبر إنريكو دوسل Enrique Dussel (1934-2023). وهو أستاذ فلسفة أرجنتيني، هاجر من الأرجنتين لاجئا سياسيا عام 1977، واستقر في المكسيك حوالي 50 عاما. ينطلق مثل حنفي على أساس من اليسار الماركسي، متكرسا لتحرير الفلسفة والمعرفة من بقايا الاستعمار والمركزية الغربية.
واصفا خطيئة العقلية الأوروبية، بأنها افتقدت الوعي بخصوصيتها التاريخية، هذا مع امتلاكها جهازا مفاهيميا بالغ التطور والفخامة لمقولات الكونية والتجريد والموضوعية وسواها، فتحققت هيمنة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى ومركزيتها بفعل المنطق وقوة السلاح.
وتتابع الخولي: "علم الاستغراب في الثقافة العربية الإسلامية من ناحية، وفلسفة التحرير المعرفي في أميركا اللاتينية من الناحية الأخرى هما جناحا جهاد مقدس لاستئصال هذا التزييف الاستعماري وإثبات الذات الحضارية والثقافية والمعرفية لشعوب العالم الثالث.
هكذا نتفهم علم الاستغراب بوصفه مشروع حسن حنفي لمواجهة الغرب الاستعماري الذي لا تتوقف هجماته علينا، وتحرير إنسان الشرق من الانبهار والشعور بالدونية، بما يدفعه إلى الإبداع الخاص والعام.
يضطلع علم الاستغراب ومشروع "التراث والتجديد" بأسره بمسؤوليته في الحفاظ على هوية الأمة وثوابتها والنهوض بها، ثقافيا وحضاريا، حيث يلتقي ويتوحد مع قضايا الأمة العربية والإسلامية، من قمع للحريات الشخصية والعامة، والتبعية السياسية والاقتصادية للاستعمار الجديد أي الإمبريالية، والتهديد الأعظم لثقافتنا وللسلام العالمي أي الصراع مع الصهيونية".
وتختم يمنى الخولي حديثها بأنها تعتز كثيرا بإنجازها 7 أبحاث مرجعية في فلسفة حسن حنفي، وأن آخر ما صدر لها العام 2024، كتاب "المنهج في مشروع التراث والتجديد"، فضلا عن كتاب منهجيات راهنة نحو المستقبل: لقاءات ومقاربات فلسفية، بمشاركة عادل مصطفى.
في محاولة للتعرف على مستقبل ومصير مشروع علم الاستغراب للدكتور حسن حنفي، يقول الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب جامعة حلوان، والمدير السابق للمركز القومي للترجمة: "علم الاستغراب إذا اعتبرناه علما، فهو علم حديث، جاء مقابلا لعلم الاستشراق".
الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب جامعة حلوان، والمدير السابق للمركز القومي للترجمة (مواقع التواصل)ويكمل مغيث: "علم الاستشراق تعرض لانتقادات شديدة جدا مؤخرا، بعد أن كان علم له مكانته ووضعه الكبير، من ضمن هذه الانتقادات، أنه يحول الشرق إلى جوهر غير تاريخي ثابت له سمات محددة، الشرقيون متعلقون بالنساء، الشرقيون غيورون، الشرقيون متوائمون مع الاستبداد، وهكذا أحكام عامة على الجميع، تعبر عن الجوهر الثابت للإنسان الشرقي، وهذا عيب لأنه يخرج الشرق من التأثيرات التاريخية، وعيب أيضا لأن الاستشراق كما يراه المفكر المصري الراحل ال ....