في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على الرابط أعلاه للمشاهدة على الموقع الرسمي
عندما يبحث المرء في الأدبيات عن تعريف "التحيز المعرفي" يجد غالبًا تعريفا من قبيل "نمط من الانحراف في اتخاذ الأحكام، يحدث في حالات معينة، ويؤدي إلى تشويه الإدراك الحسي أو حكم غير دقيق أو تفسير غير منطقي، أو ما يسمى عموماً لاعقلانية". وهذا في الحقيقة ليس تعريفا للتحيز المعرفي بقدر ما يعرِّف الانحياز الإدراكي.
فالتحيز المعرفي يتعلق أساسًا بنظرية المعرفة، ويمس أنماط إنتاج المعرفة ونقدها ومصادرها وأسئلتها الكبرى. إذ لا يمكن تناول التحيز المعرفي دون التعامل مع خلفيات التحيز الثقافية والحضارية والتاريخية التي تكوّن فيها وتراكم من خلالها "معرفيًا". وربما ينبغي هنا التساؤل: هل هذا التحيز حالة "معرفية" أصلا أم هو تحيز أيديولوجي أو إثني أو عنصري أو ديني أو ضلال منهجي وفلسفي؟!
وسنجد في الأدبيات أنماطًا للانحياز والتحيز أو مصادره وخلفياته مثل: القناعات المستقرة، الإطار أو السياق الحاكم (ديني، علماني، مادي، ميكيافيلي، دارويني، نيتشوي)، الفهم السطحي، المنهج الوصفي، الإدراك المتأخر، اختلال تقدير أهمية المعلومات المتاحة، الاستقراء الجزئي، تحيز للجديد دون القديم، الإفراط في الثقة، الحكمة التقليدية، تعارض الأدوات مع الموضوع (معالجة الغيب والإلهيات بعلوم الفيزياء مثلا) وتحيز التخصص أو الصنعة..
وتبدو هذه الأنماط من الانحياز نتائج فرعية أو تداعيات ثانوية لانحرافات أصلية في جذور المعتقدات والأفكار ونظرية المعرفة الحاكمة لأنماط التفكير والاستقراء والاستنباط والترجيح.
من أهم أسباب التحيز المعرفي أو "الضلال المعرفي" الرؤية الكونية لحضارة ما أو اجتماع بشري معين. وفي العالم الحديث، تهيمن الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية على المجتمعات الغربية ورؤيتها الكونية وعلاقاتها الإنسانية والدولية، وعلاقة الإنسان الغربي بالله والطبيعة وأعضاء المجتمع أو حتى علاقته بأعضاء أسرته ونفسه.
وبدورها، تفتح الآداب والفنون من شعر ونثر وأمثال ورواية ومسرح وموسيقى وسينما ودراما نافذة هامة على وجدان الأمم وروحها وفلسفتها وحكمتها وتقاليدها وطبائعها وأخلاقيتها وروحانيتها وأنماط تفكيرها ومعيشتها. وهي تعبيرات هامة، كامنة أو صريحة، مركبة أو بسيطة، يلتقطها الأدب والشعر والفن، ولا تتيحها بقدر الكفاية دراسات الباحثين الأكاديميين التقليدية في السياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية.
وقد كرست الميثولوجيا والدراما الإغريقية والرومانية شركا يتمثل في تعدد الآلهة، وميراثا وثنيا تعدديا لا توحيديا، لا مرجعية فيه للإله الواحد القدوس، بل المرجعية والقداسة تحل في مُجمّع الآلهة ومعابدها، أو البانثيون اليوناني أو الروماني، وهي ألوهية مزعومة "هلامية" لا تؤسس لمرجعية وربوبية حقيقية ولا تؤمن بألوهية سبحانية متعالية على الخلق، تقوم على التسليم الفطري للإله الواحد وتكليف وحقوق ومسؤوليات وعلاقة مباشرة بين الإنسان وخالقه دون واسطة. بل بررت بعض تلك الميثولوجيا طغيان الفرد وواحديته المادية ليصبح بذلك مرجعية ذاته بلا دينونة برانية وبلا مسافة بين المطلق الأزلي والحادث النسبي، أي بلا حسيب أو رقيب.
وشكلت تلك الميثولوجيا وأساطيرها مصدرا هاما للاستلهام في الحداثة الغربية وتمثلاتها وسماتها المعرفية، يتجاوز المحتوى الديني (التوحيدي) في اليهودية والمسيحية، خاصة في ظل الجفاء الغربي تجاه النبوة، وترذيل معناها ورموزها وقيمها كما جاءت في "العهد القديم" حيث يعتري صور أنبياء التوراة تشويه بالغ وتقاليد قبلية جاهلية وأساطير وخرافات وافتراءات وسرديات تزعم ارتكابهم مختلف أنماط الفواحش والشرك وكل ما هو شائن، بجانب تشويه مفهوم الألوهية ونفي عصمتها وقدسها وهديها الإلهي في صورة "يهوه" إله بني إسرائيل، المزعوم، وقصصه وما نُسب له من عنصرية وقسوة ووحشية! وإسباغ السمات "الإحيائية" -أي صفات الكائنات الحية- على الذات الإلهية.
وقد لعبت الدراما الإغريقية والرومانية دورا مركزيا في تشكيل الشخصية الغربية والمثال الإنساني الحداثي الغربي (المتمرد على الألوهية) وتكوين مفاهيم السيرورة والصيرورة البشرية وصياغة البطل التاريخي والبطولة الإنسانية إجمالا. فالبطل في هذه الدراما في صراع أبدي مع الإله والأقدار والأعداء والنزوات، إما أن ينتصر ويحقق ذاته وغايته ومجده (دنيويا بالطبع) بلا حدود، أو أن ينكسر بالهزيمة أو الموت (أي فناء الهزيمة النهائي بلا مَعاد أو مغزى أو عدل أو فضاء أخروي أو سيرورة أبدية لاحقة واضحة) أو يقع في حبائل أعدائه (إغراءات السلطة والأنثى والثروة والانتقام وغيرها). وبالتالي، تستمر مسيرة الإنسان فردانية عدمية عبثية جوفاء بلا "معية" أو "مرجعية" أو "دينونة" للإله الواحد المتجاوز أو للمقدس إجمالا، وبلا معنى خارج فضاء الفردانية ومرجعية الذات وعبثيتها ولاعقلانيتها.
ومن أمثلة الميثولوجيا الإغريقية على بؤس الإنسان ومعاناته وعذابه وشقائه الأبدي الناجم عن غطرسة الآلهة الإغريقية ونزواتها وانتقامها أسطورة سيزيف (أو سيسيفوس) وأسطورة بروميثيوس. وهذه الأخيرة من أهم أساطير الميثولوجيا الغربية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وترمز لمضامين معرفية ودلالات هائلة في الفكر والتاريخ الغربي حول بؤس الإنسان وأزمته الوجودية وعدمية مصيره وعلاقته العبثية بالآلهة!
وكان سيزيف أحد أكثر الشخصيات مكراً في الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع آلهة الموت ثاناتوس مما أغضب كبير الآلهة زيوس، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود ليرفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد رمزًا للعذاب الأبدي. ومن خلال التأثير الكلاسيكي على الثقافة الحديثة، توصف الأقدار البائسة أو المهام الشاقة وغير المجدية بالتالي بأنها عبثية أو سيزيفيَّة.
أما بروميثيوس فهو عملاق (تايتان) حارب في صف آلهة الأوليمب الإغريقية ضد العمالقة في الحرب العظمى، وقد كان ذا حنكة ودهاء ومحبا للبشر دون كافة الآلهة المزعومة. ومنح بروميثيوس البشر هبات سرقها من آلهة الأوليمب: العمارة والنجارة والتعدين، علم الفلك، تحديد الفصول، الأرقام والأبجدية، استئناس الحيوانات والإبحار بالسفن، والتداوي، وسرق النار من جبل الأوليمب (موطن الآلهة) وأعطى قبسا منها للبشر لأنه حزن لرؤيتهم في برد الشتاء محرومين من الدفء.
وغضب زيوس لذلك غضبا شديدا اهتز له جبل الأوليمب، وقرر عقابه. فطلب أن تصنع سلاسل قوية يقيد بها بروميثيوس على صخره بجبال القوقاز. ويأتيه كل صباح نسر عملاق (أثون) ينهش كبده، الذي يعود لينمو مساء ليستمر عقاب بروميثيوس الأبدي الذي تلقى ما حل به متماسكا راضيا لأن البشر يعيشون حياة سعيدة، وتنبأ بمجيء أحد الأبطال من نسل زيوس المتجبر ليقتله ويتولى الحكم بعده، وتكون نهايته.
ولكن هذه الأساطير في النهاية هي تعبير رمزي متراكم عن ثقافة البشر الذين ابتدعوها ورؤيتهم الكونية وقناعاتهم حول مبدأ الألوهية وعبثية معنى الإنسانية وصراعاتها ومآلاتها والحكمة من وجودها. ويبدو أن الخروج الأوروبي في عصر النهضة من دائرة أو مرجعية المثال الديني المسيحي أو اليهودي إلى إحياء الميثولوجيا الإغريقية والرومانية هو أحد معالم الحداثة الأوروبية.
وقد شهدت التجربة التاريخية الأوروبية هذا الحراك بين المرجعيات، قبل ذلك، كإحدى آليات الصراع الديني عندما عمدت حركة الإصلاح البروتستانتي الأوروبية إلى إحياء أسفار التوراة والعهد القديم في الحياة الدينية المسيحية الأوروبية، من تأسيس مرجعية دينية موازية تواجه بها مرجعية الكنيسة الكاثوليكية. وهذا ما حاوله حداثيون عرب بإحياء ثقافات وميثولوجيا ما قبل الإسلام بما فيها من شرك وحلول وقيم وتعدد الآلهة، كمرجعية موازية أو مضادة لمرجعية الوحي والنبوة، لتكوين ثقافات وهويات خارج سياق الحضارة العربية الإسلامية وخارج سردية التوحيد ورؤيتها الكونية وأنساقها الثقافية.
وعلى هذه الخلفية السالفة، سنجد مثلا بين الفيلسوف الهولندي باروخ إسبينوزا (1632-1677) والفرنسي جاك ديريدا (1930-2004) مؤسس التفكيكية 3 قرون، بدأها إسبينوزا بإعلان موت الآلهة وأفضت إلى دعوة ديريدا إلى التفكيك التام للمعنى وتعدد المرجعيات والتي اعتبرتها الناقدة والمخرجة والروائية الأميركية سوزان سونتاغ (1933-2004) دعوة إلى الشرك (Polytheism). أما المشترك بين إسبينوزا وديريدا فهو خلفيتهما كيهود من طائفة المارانوس (Maranos) أو (الخنازير بالإسبانية)، والتي تعود جذورها إلى عصر محاكم التفتيش في الأندلس، واضطروا لاعتناق الكاثوليكية قسرًا، فلم يحتفظوا بإيمانهم القديم ولم يتمثلوا إيمانا جديدا!
وسنجد بعض الاتجاهات الفكرية الغربية لا ترى توصيف الحضارة الغربية الراهنة باعتبارها ثقافة يهودية مسيحية بقدر ما تميل إلى اعتبارها ثقافة إغريقية رومانية. وهذه الرؤية لها وجاهة موضوعية جلية، نظرا للطابع الميثولوجي والمحتوى الفلسفي الغالب عليها وتمحورها حول التجربة الأوروبية أو المركزية الأوروبية، وإقصائها النبوة والوحي الإلهي وروحانية التوحيد حتى في أفقها اليهودي والمسيحي؛ وهذا ما يميز الحياة الدينية اليهودية والمسيحية في العالم الإسلامي بأخلاقيتها وروحانيتها عن نظيرتها في الغرب بما فيها من ميثولوجيا وتشكك فلسفي وجفاف روحي وأخلاقي.