المتحف المصري الكبير الذي يقف عند سفح الأهرامات كأكبر متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة، هو ليس مجرد مبنى يحتضن آلاف القطع الأثرية، بل مشروع يحقق أهدافا متعددة الأبعاد ويكرس لمفاهيم تتفاعل مع معطيات الحاضر مختلطا بالتاريخ والحضارة الفرعونية .
يعرف أن قدماء المصريين، الذين امتد عهدهم لأكثر من 3200 عام، كانوا يشيدون صروحهم لتحمل معاني رمزية ترتبط بعقائدهم ورؤيتهم للكون، إلى جانب الغرض العملي الذي شيدت من أجله. على سبيل المثال، البناء الهرمي الذي تحدى العصور بعبقريته الهندسية هو تجسيد للشكل الهرمي "بن بن"، أول تل يبرز على صفحة الماء قبل بداية الخليقة، حسب عقيدة قدماء المصريين.
كما توجد نظرية مقبولة على نطاق واسع بين علماء المصريات أن شكل الأهرامات الملساء كان يهدف إلى محاكاة أشعة الشمس الهابطة، التي ستستخدمها كدرج للصعود إلى السماء والانضمام إلى إله الشمس، رع، في الحياة الآخرة.
ومن منطلق مشابه، راعى تصميم المتحف المصري الكبير عراقة الموقع، سفح الهرم الأكبر، فلم يدخل في مجابهة معه، بل تماهى مع البيئة الجبلية المحيطة، وتتبع الصعود التدريجي للهضبة الطبيعية بين وادي والنيل صعودا إلى الأهرامات، دون أن يحجب رؤية الهرم من أية جهة.
يتميز المتحف بواجهة تحمل فتحة مثلثة الشكل مصنوعة من حجر الألباستر المحلي المصدر، تخترقه أشعة الشمس بألوان تتغير حسب ساعات النهار، مثل ما تتلون رمال الصحراء حسب تعامد الشمس عليها.
أول ما يستقبل الزائر في البهو الرئيسي للمتحف هو تمثال الملك رمسيس الثاني الحجري الضخم، الذي يبلغ ارتفاعه 11 متراً ويزن 83 طُناً. هذا التمثال يحظى بشهرة كبيرة بين المصريين حيث كان يمر من أمامه الملايين يوميا في الميدان الذي يحمل اسمه، ميدان رمسيس، بالقرب من المحطة المركزية للسكك الحديدية في القاهرة. الملك رمسيس، الذي حكم مصر منذ 3200 عاما، ظل تمثاله في ذلك الميدان مدة 51 عاماً، بين عامي 1955 و 2006، عندما تم نقله إلى موقع المتحف، ثم إدخاله إلى البهو الرئيسي عام 2018.
بعد القاء التحية على رمسيس، يبدأ الزائرون رحلتهم عبر مدرج صاعد يضم تماثيل من عصور مختلفة، ويمكن ارتقائه بالأقدام أو على سلم كهربائي. 
يقول مكتب "هينيغان بينغ" الهندسي على موقعه الرسميّ إنه صمم المتحف بحيث "يتحرك الزائر عبر سلسلة من المساحات لينتقل تدريجيا من العالم المعاصر إلى عالم قدماء المصريين". بالفعل، على قمة المدرج، هناك نافذة زجاجية عريضة تطل على منظر كاشف لأهرامات الجيزة، يلج بعدها الزائرون إلى قاعات العرض الدائم في المتحف، والتي تستوعب حتى 100 ألف قطعة.
تختلف منهجية العرض في المتحف المصري الكبير عن أغلب المتاحف التقليدية، حيث لا تتوزع القاعات حسب تسلسل الحقب الزمنية، وإنما تبعاً لموضوعات أو محاور محددة، وهي الحياة اليومية، والسلطة الملكية، والمعتقدات الدينية. كل محور على حدة تم تناوله عبر التسلسل الزمني للتاريخ المصري القديم، أي من العصر الحجري (قبل 7000 عام) مرورا بالدولة الفرعونية إلى العصر البطلمي (اليوناني) وانتهاء بالعهد الروماني حتى القرن الأول الميلادي.
يحتوي المتحف حاليا على كنوز أثرية بلغ عددها حتى الآن حوالي 70 ألف قطعة، أشهرها على الاطلاق وأكثرها جذبا للزوار من حول العالم، كنز الملك توت عنخ آمون الذي سيتمكن الزائرون من رؤيته كاملا لأول مرة منذ اكتشافه في 4 نوفمبر كانون الثاني عام 1924. ويعتقد أنه سيعرض من هذه القطع نحو 50 ألف قطعة، فيما يخزن الباقي في أروقة المتحف.
يقول د. حسين عد البصير مدير متحف الآثار في مكتبة الاسكندرية والذي أشرف في السابق على عملية نقل أول دفعة من أثاث الملك توت عنخ آمون من متحف الآثار المصرية في ميدان التحرير إلى المتحف المصري الكبير، "شملت هذه المجموعة 128 قطعة، منها وحدات ضخمة ولكن هشة للغاية مثل المقصورات الأربعة الخاصة بالملك" (والتي يبلغ عرضها أكثر من خمسة أمتار ويقارب ارتفاعها الثلاثة أمتار). يوضح د. عبد البصير أنه حتى الآن عرض من كنوز توت عنخ آمون حوالي 1800 قطعة من أصل 5398 قطعة تم حصرها مؤخرا".
وحول تجربة الزيارة، يقول الدكتور طارق توفيق المشرف العام السابق للمتحف المصري الكبير "سيتمكن الزائر للمرة الأولى من معايشة تجربة عالم الآثار هاورد كارتر عندما اكتشف المقبرة منذ أكثر من مئة عام حيث سيتمكن من رؤية كل القطع التي وقعت عليها عينه آنذاك".
تطلب استكمال مجموعة الملك توت عنخ آمون جمع قطع كانت معروضة في متاحف وأماكن متفرقة في أنحاء البلاد، مثل متحف الأقصر الذي كان يحتوي على 122 قطعة، كما تم نقل مومياويتي جنينين من كلية طب جامعة القاهرة بعد أكثر من ثمانين عاماً . "تم استقدام 'الناووس' الملكي (وهو صندوق مغلف برقائق الذهب لحفظ الآلهة) من متحف مكتبة الاسكندرية، كما جلبنا العربة الحربية للملك من المتحف الحربي في القاهرة لتكتمل مجموعة عرباته الست".
يشير د. عبد البصير إلى أن عددا من قطع مجموعة الملك كان في حالة لا تسمح بترميمها وبالتالي عرضها متحفياً، ومنها عدد ضخم من ملابس من الكتان كان يستخدمها الملك في حياته اليومية. "تمكنّا أيضا من ترميم عدد من أحذية الملك ذات نقوش رائعة، لم تعرض من قبل بسبب هشاشتها البالغة".
سيضم المتحف أيضا في موقع منفصل عن مبنى المتحف، جناحا ضخماً لحفظ ما يعرف بمراكب الشمس وهي مركبان جنائزيان تم الكشف عنهما في بئرين بالقرب من الهرم الأكبر عام 1954. استغرق ترميم المركب الأول 13 عشر عاما وظل معروضا في متحف خاص بجوار الهرم منذ عام 1982. إلى جوار المركب خوفو، الذي يبلغ طوله حوالي 44 مترا وعرضه خمسة أمتار، "سيتمكن الزائرون في المتحف الكبير من رؤية عملية ترميم المركب الثانية أمام أعينهم ومراقبة مراحل إعادة تجميعها وتركيبها، وهي عملية قد تستغرق من خمس إلى سبع سنوات" حسب د. حسين عبد البصير.
تعتبر السلطات المصرية مشروع المتحف المصري الكبير أنه يتخطى بكثير نطاق علم المصريات وحفظ الآثار. "هذا المتحف يستعرض مصر الحديثة التي تمكنت من بناء هذا الصرح" حسب د. طارق توفيق المشرف العام السابق للمتحف المصري الكبير.
تقولة د. سليمة إكرام المحاضرة في علم المصريات في الجامعة الأمريكية في القاهرة " هناك رغبة متزايدة في أن تروي مصر قصتها بنفسها. اليوم يقود الخبراء المصريون عددًا أكبر من المشاريع، ويلعبون دورًا محوريًا في البحث والترميم والعرض المتحفي لتراثهم. وهذا لا يعني رفض التعاون الدولي، بل لضمان أن تُقدّم قصة مصر بصوت مصري ورؤية مصرية. ويجسّد المتحف المصري الكبير هذه الرؤية حيث إنه مشروع عالمي بقلب مصري حقيقي".
هذا المشروع الذي استغرق العمل عليه أكثر من عشرين عاما، يدخل ضمن مجهود واضح من الدولة المصرية للاحتفاء بالتراث الفرعوني باعتباره مكوناً أساسياً من الهوية الوطنية ووسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية وتمييز نفسها عن الإسلام السياسي والهيمنة الثقافية الغربية.
ففي أبريل نيسان عام 2021 نظمت الدولة "موكب المومياوات الملكية" وهو احتفالية كبرى لنقل 22 مومياء ملكية من المتحف المصري القديم في ميدان التحرير إلى مقرها الجديد في المتحف القومي للحضارة المصرية في منطقة الفسطاط جنوبي القاهرة. وفي مشهد لا يخلو من رمزية، وقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عند مدخل المتحف في استقبال حكام مصر السابقين.
هذا الالتفات إلى المكون الفرعوني للهوية المصرية جاء بعد عقود من التراجع، حيث شهدت مصر بعد استقلالها من الهيمنة البريطانية مداً وطنياً عربياً بقيادة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، كان يؤكد على الوحدة بين دول المنطقة العربية، التي كانت قد حصلت أو في طريقها للحصول على الاستقلال من الاستعمار الفرنسي والبريطاني.
وفي أوج الحرب الباردة في السبعينيات والثمانينيات والتصدي للتيارات اليسارية في مصر، صعد المكون الإسلامي في الخطاب الرسمي والحياة العامة في مصر ضمن سياسة انتهجها الرئيس الأسبق أنور السادات الذي كان يُعرف حينها ب"الرئيس المؤمن".
اليوم يشهد النهج الجديد دمج العناصر والرموز المعمارية المصرية القديمة، في المباني الحديثة والتصميم الحضري، ولعل أبرز تلك الجهود نقل مسلة الملك رمسيس الثاني من موقعها الأصلي في منطقة صا الحجر في محافظة الشرقية شمال شرق مصر إلى ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية في فبراير شباط عام 2020.
يتم الاشارة إلى المتحف المصري الكبير على أنه أهم بناء معني بالآثار في مصر منذ إنشاء متحف الآثار المصرية في ميدان التحرير والذي يعود إلى عام 1902، عندما كانت مصر تحت الهيمنة الأجنبية والتي كانت تشمل علوم الآثار والمصريات. شجع ذلك الكثيرين، وبالأخص في الغرب، على التساؤل حول ما إذا كان من الممكن اعتبار المتحف الجديد نموذجا لمفهوم "إزالة الاستعمار" (Decolonisation) الذي يحظى باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة في أوروبا والولايات المتحدة.
تقول الدكتورة سليمة إكرام " أعتقد أن وصف المشروع بأنه 'إزالة للاستعمار' فيه مبالغة بعض الشيء… أظن أن الدافع الأكبر هو الفخر الوطني. لأننا نقول 'انظروا، لدينا متحف ضخم، حديث، ويضم أشياء رائعة'. وبالطبع هذا سيخلق قدرًا كبيرًا من الفخر الوطني، ما سيدفع الناس إلى زيارة المتحف، وبالتالي سيصبح تاريخ مصر القديمة أكثر اندماجًا في الحياة اليومية والهوية الوطنية للفرد العادي".
لعل المحرك وراء الاهتمام بالاثار المصرية الذي ظل يحظى بالإجماع عبر العهود السياسية المتعاقبة، هو أن السياحة المرتبطة بالآثار من المصادر المهمة للدخل القومي في مصر، حيث تشير أعلى التقديرات بأنه يساهم بحوالي 11% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. كما أن قطاع السياحة يشغل واحدة من كل عشرة وظائف في مصر وفقاً لإحصاءات عام 2024 للهيئة المصرية للاستعلامات. ويتوقع خبراء وزارة السياحة من أن يستقبل المتحف العام القادم أكثر من خمسة ملايين زائر. "ارتفاع عدد الزائرين للمتحف سيكون له تأثير متسلسل لأن من شأنه أن يزيد عدد الأيام التي يقضيها السائح في مدينة القاهرة ما سيترتب عنه زيادة في المبيعات المرتبطة بقطاع السياحة" حسب كريم محسن، نائب رئيس غرفة شركات السياحة في مصر .
 المصدر:
        
             بي بي سي
    
    
        المصدر:
        
             بي بي سي
        
    
 مصدر الصورة
 
  مصدر الصورة 
  مصدر الصورة
 
  مصدر الصورة 
  مصدر الصورة
 
  مصدر الصورة