آخر الأخبار

صفاء الليثي تكتب: فيلم كولونيا رائحة أبى.. التطهر عن طريق المكاشفة

شارك

تمثل فكرة عودة الغائب مجالا قوية لدراما كاشفة عما كان قبل الغياب وما يمكن أن يحدث بعد العودة، أفاق الأب عمر من غيبوبة لستة أشهر وعاد عفيا شتاما قاسيا يصب غضبه على الابن الأصغر.

عصب الفيلم هو هذه المواجهة بين فاروق وعمر، عتاب غاضب من عمر ثم بوح هاديء ومكاشفة يبوح فيها الأب بسر كبير، معرفته كانت كفيلة بأن يتطهر كليهما من غضب دفين وسوء تفاهم أفسد علاقتهما قبل الغيبوبة وعلى مدى سنوات منذ رحيل الأم التي أثرت على الابن بشكل أفقده توازنه فخسر فاروق تفوقه وسقط في الإدمان.

قام المخرج وهو صاحب الفكرة الأصلية وشاركه في كتابة السيناريو أحمد عامر بتكثيف الشخصيات حيث لا نتابع على مدار الفيلم سوى علي الابن الأكبر وفاروق وطفلي علي ابنة وابن يلهوان بجوار جثة الجد غير مدركين معنى الموت وإن جرى حوار عميق بدا طبيعيا ومصريا (هو جده مات يعني إيه، الدكتور قال قلبه وقف، لكن ساعته لسة شغالة) يموت الإنسان ويبقى منه بعض دلائل مادية على وجوده، الدكان والسيارة وهذا المنزل بأثاثه القديم، المرايا المغبشة والكاسيت وشرائط عبد الوهاب، ديكور عصام علي سمح للمخرج بالتحرك بحرية وتنويع مشاهده.

بعد الوحدة المشهدية الأولى، وبعد أن تعرفنا على عناصر الدراما يبقى الأب والابن الأصغر معا يتناوشان ويصبح البيت ملعبا للصراع يقدم فيه أحمد مالك وكامل الباشا أداء تمثيليا بالغ الروعة، مباراة في التقمص كل في دوره يكاد الحوار لا يتوقف وفي الخلفية شريط الصوت داعما رسم عالم الأب ككل مصري وتعلقه بالغناء وفيلم شاهده مع الحبيبة الراحلة وحكاية سر يسمعها فاروق لأول مرة عن لحظة حب استثنائية نتج عنها أن تحمل الأم به. ابن أصغر جاء نتيجة لحظة حب نادرة ولم تتكرر.

رغم بقاء فاروق وعمر في الليلة التي سبقت الوفاة معا غالبا في المنزل لم يشعرنا المخرج بأنهما حبيسين في مكان مغلق فكانا يتنقلان بين حجرة النوم والممر والشرفة المغلقة بزجاج نشاهد قطرات المطر تجري عليه ، مشهد يحدث فيه تحول غضب الأب إلى إظهار محبته لابنه ويسرح مبتسما في راحة قبل الرحيل.

اقتربت الكاميرا من وجه عمر وفاروق في هذا المشهد، وأضافت إضاءة مدير التصوير عمر أبو دومة سحرا في درجات لونية تميل الى الزرقة كما لو كان القمر حاضرا وسادت الزرقة وغطت وجهي فاروق وعمر.

إنه جمال البوح بالأسرار وضرورة المكاشفة التي يحدث التطهر بعدها، ويحدث للمشاهد حالة من تقبل موت الأب بعد أن أدى واجبه بمنح الابن حبه ورضاه، هذا البوح ليس حقا للنساء فقط بل يمكن للرجال أيضا أن يفصحوا عن مشاعرهم دون انتقاص من رجولتهم. لن يصرخ الأب على ابنه بأنه لقيط ، لن يصفعه ولكنه سيصادقه ويتحدث إليه بصراحة خشنة ظاهرها القسوة وباطنها الاهتمام والمحبة، أجاد أحمد عامر صياغة حوار عير خطابي خالي من الافتعال عند الغضب وفي لحظات الرغبة في التهدئة. كل ما حول فكرة المكاشفة من عناصر الحياة العادية كخلاف علي مع فاروق على الميراث ، أو تبادل الاتهامات حول من ينفق ومن يتحمل المسئولية كلها حواشي للفكرة الأساس عن أهمية الحوار وهذه الصداقة بين الأب والابن حتى لو حدثت في ساعات قليلة قبل موت الأب. موسيقى ليالي وطفة تدخل في لحظات محددة تعلي من إظهار مشاعر الشخصية ، فاروق بالأساس وتستمرفي لحظات نرتاح منها من الحوار، شريط الصوت غني بأغاني ترتبط بشخصية الأب، وأخرى مناسبة للابن أقرب إلى شعبية المهرجانات، راعى مهندس الصوت أن تأتي منخفضة لا تسيطر على المشاهد ولا تشوش على باقي العناصر.

تظهر حبيبة فاروق سارة / مايان السيد بعد نصف ساعة من زمن الفيلم، يتغير موقف الأب من رفضه لها إلى الإعجاب بها وفرحته بابنه ( والله كبرت يا واد وبقيت بتعرف نسوان ) دقائق قليلة ظهرت فيها سارة مثلت روحا طيبة للعمل القاتم وأضفت عليه قليلا من المرح، نهاية تواجدها بالفيلم وهي تزيل مساحيق التجميل ثم تلبس العباءة قبل أن تعود إلى بيت عالتها، ملمح يوجزه المخرج معبرا عن النفاق المجتمعي وعن صعوبة عيش الفتيات في المجتمع المصري. في نهاية الفيلم إهداء من صيام إلى كل الآباء. قرأت الفيلم كدعوة لهم بأن يصاحبوا أبناءهم وأن يبوحوا لهم بأدق أسرارهم.

صيام مخرج مصري يعيش في الغربة وجدانه معلق بمصر، في فيلمه ظهرت الاسكندرية مدينة حقيقية دون مشاهد سياحية، البحر يظهر في البداية مع حلم كابوسي لفاروق يصرخ ولا نسمع صوته، وقرب النهاية مع عمر يلتقي أصحابه بجوار المراكب الراسية والصورة ضبابية. يتحمل صانع الفيلم في الزمن الحالي عبئا إضافيا لعمله في تأليف فيلمه وكل تفاصيل الإخراج بالإضافة إلى جهد الحصول على تمويل الذي أصبح يتم جمعه من عدة جهات "كولونيا رائحة أبي" أنجز بمشاركة إنتاجية من النرويج والسويد وفرنسا، ومنتج مشارك في التطوير المصري السكندري مارك لطفي، وفيلم كلينك، وإنتاج المرحة النهاية للمخرج محمد صيام.

حصل أحمد مالك على النجمة الذهبية كأفضل ممثل من مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثامنة، ويواصل الفيلم حصد الجوائز حيث حصل مؤخرا على جائزة الديكور من مهرجان قرطاج بتونس. كما أرى أن الممثل الفلسطيني كامل الباشا الذي اندمج في صناعة السينما المصرية يستحق أكثر من جائزة عن دور الأب، وكذا تستحق مايان السيد تنويها خاصا عن دور سارة الذي أدته بفهم للشخصية وبظرف شديد.


شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا