على مواقع التواصل الاجتماعى تتنافس الشركات المتخصصة فى الإعلان عن بيع وإنشاء المقابر والمدافن الشرعية فى أنحاء مصر، وتقديم مساحات مختلفة تبدأ من ٢٠ حتى ٨٠ متراً، فى مناطق راقية وبمواصفات خاصة وأسعار تصل إلى ٥ ملايين جنيه، وبات جنون الأسعار للمقابر يمثل عائقاً أمام الكثير من البسطاء، الذين لا يجدون مالاً يشترون به مقبرة تضم عظام الراحلين.
على مدار ٣ أعوام الماضية، حرص سامح سيد، محاسب، على متابعة جميع الإعلانات المبوبة عن الجبانات، وقدم على المدافن التى عرضتها محافظة القاهرة مقابل ١٣٠ ألف جنيه أكثر من مرة ولكن دون جدوى، رغم استيفائه جميع الشروط المطلوبة، بحسب قوله، إلا أنه لم يحالفه الحظ.
«حتى المدافن اتحولت لبيزنس الموتى».. بهذه الكلمات وصف سامح ارتفاع أسعار المقابر فى مصر خلال الفترة الأخيرة والتى وصل سعرها إلى نصف مليون جنيه فى بعض المناطق.
وقال لـ «المصرى اليوم»: «كانت العائلة تمتلك جبانة فى منطقة الإمام الشافعى إلا أنه تم إزالتها ومن يومها مش عارفين ندفن فين، نحن لا نعارض قرارات الحكومة لكن من حقنا يبقى لينا مقابر نزور فيها أهلنا بعد الوفاة، زمان كنا بنسمع إن إكرام الميت دفنه لكن دلوقتى مش لاقيين مدفن نكرم بيه الميت».
وانتقد أحمد جاد، مهندس كهرباء، أسعار المقابر والتى وصفها بـ«الخيالية»، والتى تعادل أسعار الشقق الفاخرة فى الأحياء الراقية، قائلاً: «بقالى ٥ سنين عاوز أشترى مقابر للعيلة، وعندى ٣ شباب مش عاوز أشترى شقق أجوزهم ولا أشترى تربة أندفن فيها خصوصاً إنى عمرى تجاوز الستين سنة ومفيش ليا مكان بعد هدم مدفن العيلة من ٣ سنين».
اللجوء إلى مدافن الصدقة كان السبيل الوحيد أمام أحمد عمارة، موظف بالتربية والتعليم، لدفن والده، وقال: «توفى والدى العام الماضى وكتبت بوست على الفيس بوك أناشد فيه أى شخص لفتح التربة ودفن والدى الذى ظل متوفى فى المنزل ما يقارب ٢٤ ساعة، ولم أجد سوى مدافن الصدقة وأتمنى ألا يمر أحد بتجربتى وأن تجد الحكومة حلاً سريعاً حتى لا تتفاقم الأزمة».
فى محافظة الشرقية لجأت بعض العائلات لبناء طوابق ثانية فى المقابر القديمة، محمد رشوان أحد الأهالى، قام بإنشاء «عضامات»، وهى عبارة عن غرف فوق القبور، بعدما استشار دار الإفتاء فى البناء على القبور، والتى أجازت ذلك ولكن بشرط عند وجود عدم بدائل أخرى مثل شراء مقابر جديدة أو ضيق المكان والامتناع عن إفراد كل ميت بقبر.
وقال «رشوان» إن ارتفاع أسعار وتكلفة بناء المقابر، ومعاناة معظم المناطق بالجمهورية من عدم وجود مساحات مخصصة لبناء مقابر، دفع الأهالى فى الأقاليم إلى بناء مقبرة ثانية فوق المقبرة الأولى بسبب الضيق، ونقوم بوضع الكثير من التراب، لامتصاص الرطوبة ولمنع انتشار الرائحة الكريهة.
على أحد مواقع البيع عرض أحمد رامى، مقبرة فى مدينتى مساحة ٤٠ متراً، مقابل مليون و٦٠٠ ألف جنيه، وصفها بـ VIP وتضم مساحات خضراء ومن الرخام والأحجار الفاخرة، وفى القاهرة الجديدة يصل سعر المقبرة ٢٠ متراً إلى ٣٥٠ ألف جنيه، أما ٤٠ متراً تصل إلى ٦٠٠ ألف جنيه، والمقبرة ٨٠ متراً تصل إلى مليون و٢٠٠ ألف جنيه، ويبدأ سعر المقابر فى العين السخنة مساحة ٢٠ متراً من ٣٥٠ ألف جنيه، ويرتفع سعرها فى مدينة نصر لتقترب من ٢ مليون جنيه مساحة ٤٠ متراً فقط، وفى مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية يبدأ سعر المقبرة ٣٥٠ ألف جنيه مساحة ٤٠ متراً.
ومن جانبها أعلنت محافظة القاهرة عن التقديم للمرحلة الثانية للحصول على مدفن ٢٠ متراً بجبانات وادى الراحة، جنوب مدينة القاهرة الجديدة، طريق «القطامية- العين السخنة»، قيمة المدفن الواحد ١٣٠ ألف جنيه يتم السداد إما بدفع المبلغ بالكامل على دفعة واحدة، أو سداد المبلغ على ٨ أقساط قيمة كل قسط ١٦ ألف جنيه، ويضاف ٢٠ ألف جنيه قيمة المدفن «المميز» لأنه على شارع عمومى أو ناصية، ويتم السداد فوراً دون تقسيط.
ووضعت المحافظة شروطها للحصول على المدفن، وهى أن يكون المتقدم من أبناء المحافظة، وألا يكون سبق له الحصول على مدفن من المحافظة، ويتم تقديم الطلبات عبر موقع المحافظة الإلكترونى، وتبلغ قيمته ٥٠٠ جنيهًا لا تسترد فى حالة عدم الحصول على المدفن.
«عاوز مدفن تطمن فيه على نفسك وحبايبك بعد عمر طويل.. طلبك عندنا».. بهذه العبارة بدأت إحدى شركات المدافن الشرعية الترويج عن مدافن VIP الخاصة بها، وتواصلت «المصرى اليوم» للتعرف على أسعار المدافن والمميزات التى تقدمها، وأوضح محمد سلامة، موظف استقبال بالشركة، أن المدفن يضم قاعة استقبال كبيرة للزوار، ومساحات تبدأ من ٤٠ حتى ٨٠ متراً ويبدأ من مليون ونصف المليون حتى ٥ ملايين جنيه حسب المساحة، وتشمل أفضل أنواع الرخام والطوب والأحجار، وهناك من يشرف على تنظيف الأحواش والمقابر ورش المياه وغير ذلك من الأعمال الخاصة بالتنظيف التى تضمن لك القدرة على الدخول والزيارة فى أى وقت، بالإضافة أن هناك حماية مقابر بمقابل مادى فى جميع أنحاء الجمهورية وحل جميع المشكلات التى يتعرض لها عملاؤنا مثل السطو أو غير ذلك، هؤلاء الأفراد يكونون على تواصل معك لإبلاغك بأى أمر طارئ قد تتعرض له.
تمهيد الطرق المؤدية إلى الجبانات وتصميم المقبرة حسب ذوقك الخاص من المزايا التى تقدمها إحدى شركات المدافن المشهورة حسب تصريحات محمد عبد السلام، موظف مبيعات، وقال: «نتعامل مع المقابر مثل توضيب الشقق، فإن كنت تريد أن تصمم مقبرتك على ذوق خاص، فمثلاً تريد أن تجعلها فاخرة بشكل أكبر أو أن تضع عليها عدداً من الزخارف الإسلامية فذلك متاح عندنا، ويتم عمل صيانة سنوية بجانب أن الطرق المؤدية لمقابر للبيع ومدافن للبيع ممهدة بشكل كبير وآمنة بحيث تستطيع الوصول لها بسيارتك الخاصة».
محمد مأمون، سمسار مقابر، حذر من الوقوع فى فخ نصابى الجبانات على حد وصفه، وأوضح أن هناك مكانين فقط يقومان بترخيص المقابر هما المحافظة أو الجهاز التابع لها المقابر، موضحاً أن المقابر تحولت إلى تجارة مربحة بسبب إعادة بيعها بأسعار مضاعفة من قبل مستفيدين حصلوا عليها بسعر رمزى من الدولة، وبجانب قلة الأراضى المعروضة لإنشاء المقابر فإن ضيق الحيز العمرانى وزيادة الطلب يؤديان لارتفاع الأسعار.
وأشار «مأمون» أن أولى الخطوات لشراء المقبرة هى المعاينة لأن هناك مستويات مختلفة من التشطيبات التى يترتب عليها السعر، منها العالى والمتوسط والتشطيبات العادية التى تستلمها من المحافظة أو الجهاز.
ومن جانبه قال فتح الله فوزى رئيس لجنة التشييد والبناء بجمعية رجال الأعمال المصريين، الخبير العقارى، إن ارتفاع أسعار المقابر يرجع إلى نقص الشركات التى تعمل فى مجال بناء وتشييد المقابر حيث إنهم لا يتخطون شركتين على الأكثر، عكس شركات التطوير العقارى التى يعمل بها نحو ١٦٠٠ شركة على الأقل.
وأوضح فوزى لـ «المصرى اليوم» أن الدولة هى من توفر الأراضى المخصصة للمقابر، والشركات تقوم بالتقديم عليها، كل شىء يقوم على العرض والطلب فكلما كانت هناك أراض كثيرة لبناء المقابر ستكون الأسعار فى المتناول عكس قلة الأراضى المخصصة لتكون مقابر.
واعتبرت الدكتورة هدى الملاح مدير عام المركز الدولى للاستشارات الاقتصادية، أن سبب الإقبال على المقابر باهظة الثمن يعود إلى المواطن فى الدرجة الأولى حيث إن هناك فئة من المواطنين تنظر إلى المقابر مثل السكن لابد أن تكون مقبرة تليق بهم على اعتبار إنها نوع من أنواع «وجاهة اجتماعية» ولابد من شراء مقبرة فى مكان لائق للعائلة التى اعتادت على شراء خدمات بأعلى تكلفة كنوع من الحفاظ على الوضع الاجتماعى، وبعض الأشخاص تبحث عن الحفاظ على قيمة الأموال حيث إنها أصول ثابتة لذا السبب الأساسى فى الموضوع يرجع إلى المواطن.
ولفتت «الملاح» إلى أن شراء مقبرة باهظة الثمن يرجع لها العامل النفسى أيضاً حيث يجد فيها الأشخاص الراحة النفسية والتنظيم والحماية والنظافة بجانب الحراسة وخدمات تجهيز ودفن الموتى، وتعد خدمات التجهيز والدفن متاحة فى أى مكان ولكن فى المقابر الباهظة تعد بيئة منظمة أشبه بالمناطق السكنية التى تلبى طلب كثير من الفئات.
وأكدت أن هناك أزمة إسكان شباب وتضخماً فى السوق وارتفاع أسعار فى ظروف اقتصادية كبيرة وتناقضاً حاداً لأن هناك شباباً غير قادرين على شراء شقة ٧٠ متراً فقط والبعض يشترى مقبرة فى كمبوند أو باهظة الثمن، وتساءلت: «إيه الأولويات الحياة ولا الموت؟» موضحة أن ارتفاع أسعار المقابر ليس له تأثير على سوق الإسكان بشكل فعلى لكن هناك اختلال هيكلى إلى حد ما، ويعد فقط استثماراً طويل المدى حيث أن أى أصول ثابتة لا تقل قيمتها بل تزداد.
وأوضحت «الملاح» أن المقابر باهظة الثمن تتيح الاستثمار وفرص عمل وتحسن جودة الخدمات لأنها اجتماعياً تعمق الفجوة الطبقية حيث أن الجميع مدفون فى التراب فهذا يحدث خللاً فى أولويات الاستهلاك، مشيرة إلى أن قرار شراء مقبرة باهظة الثمن مرتبط بالطبقة والدخل والثقافة ليس كل شخص قادر على شراء هذه المقبرة، والفجوة هنا أن هناك أزمة إسكان وأزمات عالمية وتضخماً لذا يجب أن يكون متاحاً سياسات إسكان أكثر عدالة ودخلاً حقيقياً.
الدكتور عباس الزعفرانى، أستاذ التخطيط العمرانى بكلية التخطيط الإقليمى جامعة القاهرة، قال إن هناك ارتفاعاً فى أسعار المقابر حيث أن الموضوع عبارة عن عرض وطلب كلما كان هناك طلب كثير على المقابر وعدد قليل من المعروض سيكون هناك بالفعل ارتفاع كبير للأسعار، مطالباً الحكومة بزيادة تخصيص مناطق لإنشاء المقابر فى جميع محافظات الجمهورية.
وقال الزعفرانى: «زمان كانت الحكومة بتوفر أرض والناس تبنى عليها، دلوقتى الشركات بتبنى لذا ترفع الأسعار مثل العقارات واستغلالاً للنقص فى المقابر الموجودة».
وأشار إلى أن الأراضى المخصصة لبناء المقابر قليلة لذلك تتحكم الشركات فى الأسعار بشكل كبير، و«الحكومة تطرح الأراضى والمخططين يحسبوا الحسبة من حيث عدد السكان وعدد الوفيات ويبدأوا يبنوا أول مرحلة من المقابر والناس اللى عايزة تشترى مش هتلاقى ثلث احتياجها وهو ما يضطرهم إلى الشراء، وإذا زاد المعروض من المقابر ستنخفض الأسعار، لذا نحتاج مقابر بشكل أكبر لأن السوق بحاجة لها».
من جانبها أكدت الدكتورة إيمان ممتاز، استشارى الصحة النفسية، أن الارتفاع الواضح فى شراء المقابر مرتفعة الثمن داخل القاهرة الكبرى يعكس تغيرات نفسية واجتماعية عميقة يمر بها المجتمع المصرى، خاصة فى المدن ذات الإيقاع السريع.
وأضافت «ممتاز» أن اختيار مقبرة فاخرة لم يعد قراراً مرتبطاً بالموت نفسه، بل أصبح قراراً نفسياً يعكس احتياجات الإنسان فى حياته مثل الأمان والمكانة والهوية.
وأوضحت أن الدوافع النفسية لأى مواطن لشراء مقبرة باهظة الثمن ترجع إلى عدة أسباب ومنها السعى للشعور بالأمان والسيطرة، حيث أن انتشار المشكلات فى المقابر العامة، والزحام، وعدم التنظيم، جعل الكثيرين يبحثون عن خيار يمنحهم إحساساً بضمانة وكرامة حتى بعد الرحيل.
وأرجعت إقبال بعض الفئات على شراء مقابر باهظة الثمن إلى الصراع الطبقى وإثبات المكانة حيث أن القاهرة الكبرى مجتمع تنافسى بطبيعته، والطبقات الاجتماعية واضحة لذا شراء مقبرة فاخرة أصبح امتداداً لسباق المكانة الذى نراه فى السكن والتعليم والعلاج، مشيرة إلى أنه يمكن أن يعود إلى الخوف من الإهمال بعد الوفاة لأن بعض الأشخاص يحملون قلقاً عميقاً من فكرة أن يُدفنوا أو يُدفن أهلهم فى مكان غير آمن أو غير لائق، فيحاولون إزالة هذا الخوف عبر خيار المضمون.
واعتبرت «ممتاز» أن هذا الأمر يمكن أن يكون كالتعويض ولغة الحب المتأخرة حيث أن كثيراً من الأبناء يشعرون أن شراء مقبرة عالية الجودة هو نوع من الوفاء والتكريم النهائى للوالدين، خاصة إذا لم يستطيعوا رد الجميل أثناء الحياة، وأكدت أن ثقافة المظهر الاجتماعى أقوى فى المدن الكبرى من القرى والنجوع ففى القاهرة تصبح كل التفاصيل جزءاً من الصورة الاجتماعية، وارتفاع القلق والضغط العصبى فى المدينة والحياة السريعة تولّد قلقاً وجودياً يجعل الناس أكثر حساسية تجاه فكرة الموت ومكان الدفن.
وقال الدكتور جمال فرويز، استشارى الطب النفسى، إن فروق الطبقات ظهرت فى المقابر بسبب القصور الفكرى لدى البعض، حيث أن البعض يشعر إنه أكبر من أن يدفن مع الآخرين أو فى مدافن عادية رخيصة الثمن، وهذا يعد شعوراً بالدونية.
وتابع «فرويز»: «اللى رايح يشترى مدفن فى كمبوند عنده واحد بس فى مناطق قديمة ولكن الشعور بالنقص يحاول تعويضه بأى شكل من الأشكال حتى لو بالمدفن والمنظرة بعد الموت».
المصدر:
المصري اليوم