رحل عن عالمنا المخرج داوود عبدالسيد، بعد رحلة عطاء سينمائي لا تنسى، وكان الراحل يعاني من مشكلة مرضية في الكلى، ومر بفترة مرضية صعبة مؤخرًا.
وانطلق دفتر عزاء مفتوح عبر منصات التواصل الاجتماعي من صُناع ومحبي السينما، عقب انتشار الخبر في وسائل الإعلام.
وتضم قائمة أعمال المخرج داوود عبدالسيد، 12 فيلماً فقط وعلى الرغم من قلة أفلامه، إلا أنه ترك بصمة قوية على شريط السينما المصرية.
ومن أبرز أعماله: «الأرض» (مساعد مخرج)، وكمخرج وسيناريست: «أرض الخوف» من بطولة أحمد زكي، و«الكيت كات» من بطولة محمود عبدالعزيز، و«رسائل البحر» بطولة آسر ياسين، و«مواطن ومخبر وحرامي» بطولة خالد أبو النجا، وكمخرج: «البحث عن سيد مرزوق» من بطولة نور الشريف.
وفي عام 2022، أعلن المخرج داوود عبدالسيد، عبر أحد البرامج التلفزيونية، اعتزاله العمل السينمائي، في قرار أثار جدلاً في الأوساط الفنية حينها.
وقال عبدالسيد: "ماقدرش أتعامل مع الجمهور الموجود حاليًا ونوعية الأفلام التي يفضلها؛ لأنه يبحث عن التسلية، ومشكلة أفلام التسلية أنها ممولة بشكل كبير، وأفضل أن يكون تمويل الفيلم من تذكرة السينما.. ومن وجهة نظري أن جمهور هذه الأيام لا هم أو اهتمام له بمناقشة القضايا، لكنه يبحث عن التسلية".
يعد داوود عبدالسيد، أحد أبناء جيل جديد حاول تغيير شكل السينما المصرية، ومن بينهم محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، وحاول كل منهم تقديم رؤى وأفكار مختلفة، ورغم الهجوم الذي لحقهم أحيانًا إلا أنهم استمروا وحققوا نجاحات متنوعة، سواء على المستوى الجماهيري أو النقدي.
ومن الهجوم الذي لاقاه هؤلاء المخرجون عندما أطلق على أعمالهم لقب "أفلام الصراصير"، قال الناقد محمود عبد الشكور، عن ذلك في كتابه عين على السينما عين على النقد لأمير العمري: "المخرج الذي أطلق هذا اللفظ هو الراحل حسام الدين مصطفى، الذي يمثل تيارا أساسيا في السينما المصرية، يمكن أن يسمى تيار مخرجي الأفلام التجارية المتأثرة بشكل خاص بالأفلام الأمريكية".
وتابع: "وتعبير الصراصير أطلقه حسام ارتباطا بلقطة لصرصار ظهرت في فيلم خان البديع أحلام هند وكاميليا، فاعتبر حسام أن الواقعية تظهر القبح وتسيء للبلد".
وأكمل: "هذا الحديث ربما كان يخفي انزعاجا من المنافسة، فقد كان مخرجو الأفلام التجارية يعتقدون أن خان ورفاقه سيقدمون فيلما أو اثنين ثم يختفون، ولكنهم فوجئوا بأنهم مستمرون، يقتحمون الصناعة من داخلها وبنفس إمكانياتها، ولكنهم يصنعون أفلاما مختلفة تمثل مصر في المهرجانات وتفوز بالجوائز المصرية والأجنبية، والخلاف بالأساس مرتبط بالتأثير المكتسح الذي حققه خان ورفاقه، لدرجة أن نجمة مثل فاتن حمامة عملت مع داوود وبشارة".
وفق ما ذكره "عبدالشكور"، مر هؤلاء المخرجون بكثير من الأزمات للتعبير عن أنفسهم، ومن بينهم داوود عبدالسيد، سواء من داخل صناعة السينما نفسها أو من الجمهور عندما يتم رفض بعض الأعمال أحيانًا دون تحقيق مشاهدة كثيفة.
وقال إنه على مدار سنوات، قاوم عبد السيد الضغوط ولحظات اليأس والتعب، واستمر في عمله، وكان يظل سنوات طويلة يبحث عن منتج لعمل من أعماله حتى يعثر على من يتحمس لأفكاره.
كما ذكرنا، أن سينما داوود عبد السيد هوجمت أحيانًا ولم تلق الدعم الإنتاجي أحيانًا أخرى، ولكنها أيضًا تخبطت بين حب شديد من الجمهور يتزامن مع عزوف آخر، ما حدث أمام فيلمين مهمين، هما الكيت كات والبحث عن سيد مرزوق، والذي تذكر مواقع الأرشفة السينمائية أنهما من إنتاج عام 1991.
فيلم الكيت كات بطولة محمود عبد العزيز، وتأليف إبراهيم أصلان، وسيناريو وإخراج داوود عبد السيد، حقق نجاحا جماهيريا وقت عرضه، ومازال يعرض على شاشة التلفزيون، وحصد عن الفيلم الراحل محمود عبدالعزيز جائزة أفضل ممثل، منافسًا على هذا اللقب نور الشريف وأحمد زكي.
وقال محمود عبد الشكور عن الكيت كات: "أتذكر أني ترقبت الفيلم بشغف بعد أن جاءت أخبار الأصدقاء الذين شاهدوا الفيلم في مهرجان الإسكندرية، وأن محمود وداوود عاملين تحفة.. انفجر الكيت كات كحدث استثنائي قبل عرضه التجاري، وفاز محمود عنه بجائزة أحسن ممثل في مهرجان الإسكندرية بعد منافسة ضارية مع نور وزكي، ونقل وقتها أن نور نفسه قال ما معناه أن محمود عمل دور عمره، بينما قال زكي أن محمود يستحق الأوسكار عن الشيخ حسني".
وتابع: "هكذا جاء الكيت كات إلى القاهرة تسبقه سمعته، وبعد المشاهدة قلت إن ما قيل أقل كثيرًا، وكانت السينما تهتز بالضحكات، وكان الشيخ حسني قد حفر اسمه وشخصيته وعباراته إلى الأبد في ذاكرة جمهور السينما، كان الحلم قد طار بالناس مكتسحا العجز والفشل والقهر، وكانت أغنية درجن هي أغنية الموسم، كنا نضحك من عجزنا ونحلم مثل الكفيف الظريف بالطيران".
ومن الكيت كات إلى البحث عن سيد مرزوق، وهو من تأليفه وإخراجه أيضًا، وبطولة نور الشريف، ننقل في هذا السياق ما قاله الناقد المغربي الدكتور مجدي شبو، تحت عنوان دلالات الرمز في فيلم البحث عن سيد مرزوق: "يشكل فيلم البحث عن سيد مرزوق علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية، وكغيره من عيون الأفلام، جاء تلقي الجمهور للعمل دون المستوى وسحب من القاعات السينمائية بعد أسبوع واحد".
وقال شبو، إن سحر هذا الفيلم إنما جاء من كونه لا يكشف عن كل خيوطه بمجرد المشاهدة الواحدة، وإنما ينبغي تكرار مشاهدته لتفكيك كافة رموزه والوقوف على دلالات أحداثه وخلفيات شخوصه.
وبدأ شبو، تحليله من البطل يوسف كمال (نور الشريف)، والذي يرى أنه رمز للإنسان العادي المنتمي للطبقة الوسطى، المصري العادي الذي يمكن لأي شخص في المجتمع أن يجد نفسه فيه، ويحاكم داوود عبد السيد في شخص يوسف تخلي الطبقة المتوسطة عن الاهتمام بكل ما يتعلق بالشأن العام وانغماسها في الحياة اليومية بتوجيه من السلطة، حيث ظل لسنوات لا يخرج في أي مظاهرة، ولكن خروج يوسف لاكتشاف التغيرات التي طرأت على المجتمع طيلة غيابه لم يكن برغبة مسبقة، وإنما جاء عفويًا وبالصدفة عندما ذهب للعمل يوم أجازة.
وقال: "عبر الفيلم عن القيود التي تكبل هذه الطبقة، من خلال تكبيل يوسف بالأصفاد التي ربط بها إلى كرسي في قسم الشرطة، إذ ترمز الأصفاد إلى القيود، فيما يرمز الكرسي بدلالته اللغوية إلى الاستكانة، ويتحقق المعنى بالربط بين الشيئين، فتكون القيود سبب استكانة يوسف وغيره من أبناء هذه الطبقة".
وأكمل: "بينما جسد سيد مرزوق سحر برجوازية ما قبل الثورة، حيث تتضافر الإيحاءات لتشكل ملامح شخصيته، مثل استخدام كلمة "المهراجا" للدلالة على الأصول الاجتماعية الراقية، والفيلم يتناول الثروة والوجاهة الاجتماعية معًا".
وأضاف: "سيد لم يخسر والده كل ثروته بسبب سياسات التأميم مثل باقي البرجوازيين، حيث استبق القرار وأخفى ثروته، ليعود الابن ويستعيد الثورة بعد سياسة الانفتاح.. وهو شخصية جذابة وقوية، يجسد الزواج المكروه بين السلطة والمال، وحافظ الفيلم على اعتباره بشكل يجعل المتفرج لا يستطيع أن يكرهه، فبعد أن يورط يوسف في حادثة سير يكتب له إقرارًا بالمسئولية عن الحادث ويمنحه مبلغًا من المال، ثم يسمح للصعاليك أصدقاءه بنهب محتويات فيلته".
وتابع: "أما سلطة المعرفة ومحدوديتها، فتمثلت في رمز سليمان شكري الحكيم (سامي مغاوري)، وهو كيميائي وخريج كلية العلوم، وكان أول من التقاه يوسف كمال في رحلته المثيرة.. كان مهموماً وهو يشرح كيف ولدت طفلته بشكل مبكر ناقصة الوزن، مما جعلها تحتاج لحضانة لمدة شهرين، ولانعدام حضانة فارغة في مستشفى حكومي يحتاج لمبلغ كبير لا يتوفر لديه، ولكنه نجح في توفير ظروف طبية مماثلة للحضانة في المسكن، وهنا تجسد انتصار سلطة المعرفة على العوز وقصر ذات اليد".
وقال شبو، إنه كما حاكم الفيلم نكوص الطبقة الوسطى عن الاهتمام بالقضايا المصيرية للوطن، حاكم الفيلم أيضًا سلبية المثقفين في شخص سليمان شكري الحكيم؛ لأنه يبرر لتصرفات السلطة في أحد الحوارات عندما قال: "السجن اللي إنت كرهته حماية لينا لحد ما يبقى الواقع ممكن التعايش معه، وإنت جوه حدودك بتحافظ على نفسك زي الحيوان البحري جوه القوقعة".
وأوضح أنه بالرغم من ذلك كان سليمان متقوقعًا في بيته ظنًا أنه يحافظ على نفسه، تقتحم قوات المطاردة التي تتعقب يوسف غرفة الحضانة المعقمة بأحذيتها البوليسية لتفسد كل ما بنته سلطة المعرفة.
وظل داوود عبدالسيد، يحاول ويسعى وراء إنتاج أفلامه، ويظهر ذلك من خلال المدة الطويلة بين كل فيلم والآخر، على سبيل المثال: مواطن ومخبر وحرامي في 2001، ورسائل البحر في 2009، حتى آخر عمل له قدرات غير عادية عام 2015، من بطولة خالد أبو النجا، وحقق إيرادات متواضعة في شباك التذاكر المصري عند عرضه، وتوقف بعد ذلك عن الإخراج حتى أعلن الاعتزال عام 2022.
المصدر:
الشروق