لم تكن ملك الجمل ممثلة "شر" بالمعنى الصاخب أو الفجّ، بل كانت صانعة ظلال، تعرف كيف تُدخل العتمة إلى المشهد دون أن ترفع صوتها، شرّها لم يكن صراخًا ولا قسوة مباشرة، بل نظرة متأخرة، صمتًا مُحمّلًا، وابتسامة تعرف أكثر مما تقول، وكانت ممثلة محترفة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ تحترف الإمساك بالخيط الرفيع بين القسوة والإنسانية، بين القناع والحقيقة، فتجعل الشر حالة نفسية قبل أن يكون سلوكًا ظاهرًا.
في فيلم "الشموع السوداء" لم تؤدِّ ملك الجمل دورًا، بل نسجت من حضورها طبقة مظلمة تلتصق بالفيلم كله، وكانت كأنها شمعة لا تُضيء، بل تكشف هشاشة الضوء نفسه، وأداؤها هناك مثال نادر على شرّ بلا افتعال، شرّ يولد من الحرمان، ومن الإحساس بالدونية، ومن خوفٍ قديم لم يجد طريقه إلى الخلاص، ولم تلجأ إلى المبالغة، بل اعتمدت على حِرَفيتها العالية في تطويع الجسد والنبرة، فصار الشر عندها ملمحًا إنسانيًا معقدًا، لا كاريكاتيرًا جاهزًا.
هكذا كانت ملك الجمل دائمًا: ممثلة تعرف أن الشر ليس لونًا واحدًا، وأن أكثر الأدوار قسوة هي تلك التي تُؤدى بهدوء، وفي أدائها تتجاور القسوة مع الوجع، والغلظة مع الانكسار، فتخرج الشخصية من إطارها الوظيفي إلى فضاء إنساني أوسع، ومن هنا جاءت فرادتها؛ لم تكن تؤدي الشر لتُدان الشخصية، بل لتُفهم، وفي هذا الفهم العميق، كتبت ملك الجمل سطرها الخاص في تاريخ التمثيل المصري، سطرًا أسود، لكنه شديد الصدق.
في ذكرى رحيلها، تعود ملك الجمل لا بوصفها اسمًا في تترات قديمة، بل كحضورٍ هادئ لا يزول، ممثلة صنعت مجدها من الظل، وآمنت أن الدور الصغير قد يحمل روح الفيلم كله، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من الخطابة، وكانت واحدة من تلك الممثلات اللاتي لا يقتحمن المشهد، بل يتسللن إليه بثقة، ويتركن أثرًا لا يُمحى.
وُلدت ملك الجمل في بورسعيد في 29 يناير 1929، مدينة البحر والانفتاح، وكأن هذا الأفق المفتوح انعكس مبكرًا على وعيها وثقافتها، درست في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، قبل أن تلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، في مسارٍ يكشف عن ممثلة مثقفة، واعية، لا ترى التمثيل حرفة فقط، بل معرفة وتجربة إنسانية مركبة، هذا التكوين الأكاديمي انعكس بوضوح على أدائها؛ فشخصياتها كانت دائمًا مشغولة من الداخل، محمولة على منطق نفسي واجتماعي، مهما بدت عابرة على السطح.
اختارت الإذاعة والمسرح بوابتين أوليين للفن، ثم سافرت إلى فرنسا مع يوسف وهبي، لتعمل معه في عدد من الأعمال، في تجربة نادرة آنذاك، أتاحت لها الاحتكاك بثقافة مسرحية مختلفة، وصقلت أدواتها، وعمّقت فهمها لفن الأداء، وعند عودتها، انضمت إلى الفرقة المصرية الحديثة عام 1954، لتبدأ رحلة طويلة مع السينما والمسرح والتلفزيون، رحلة لم تكن صاخبة، لكنها كانت عميقة ومتواصلة.
في السينما، لم تكن ملك الجمل نجمة شباك، لكنها كانت "ممثلة مشهد"، من ذلك الطراز الذي يغير نغمة الفيلم دون أن يسرق الضوء، ورأيناها خادمة، وأمًا، ودايَة، وجارة، وسيدة من الهامش الاجتماعي، لكنها كانت دائمًا تمنح هذه الشخصيات كرامة إنسانية، وتحررها من النمطية.
في هذه الأعمال: الطريق المسدود (1958)، سكة السلامة (1964)، الشموع السوداء (1962)، أم العروسة (1963)، بدت كأنها تمثل وجوهًا متعددة للمرأة المصرية، تلك التي تعيش في الخلفية لكنها تحمل ثقل الحياة فوق كتفيها.
أما في الأعمال ذات البعد الاجتماعي والسياسي، فقدمت أداءً بالغ الحساسية، كما في الأعماق البشرية (1970)، القاهرة والناس (1972)، شفيقة ومتولي (1978)، حيث تجسدت قدرتها على التعبير عن القهر، والانتظار، والخوف، دون افتعال أو ميلودراما، وكانت تعرف متى تتكلم، ومتى تترك عينيها تتكفلان بالحكاية.
وفي التليفزيون، ازداد حضورها رسوخًا، خاصة في أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات، من عودة الروح (1977) إلى الأقوياء (1980)، القناع الزائف (1980)، القضية 80، وصولًا إلى مسافر بلا طريق (1981)، فكلها أدوار غالبًا ما وُصفت بالثانوية، لكنها في الحقيقة كانت عصبًا دراميًا، تمنح العمل صدقه وملمسه الواقعي.
تفرد ملك الجمل لم يكن في تنوع أدوارها فقط، بل في أسلوبها الأدائي: اقتصاد في الحركة، دقة في النبرة، إحساس داخلي لا يُقال بل يُشعر، لم تكن تسعى إلى لفت الانتباه، بل إلى الإقناع، وكانت تمثل كما لو أنها تعيش، لا كما لو أنها تُعرض. ولهذا بقيت، رغم غياب البطولة المطلقة، واحدة من الوجوه التي لا تُنسى.
رحلت ملك الجمل في 23 ديسمبر 1982، لكنها تركت وراءها سيرة فنية تشبهها: هادئة، صادقة، عميقة، وفي زمن يعيد الاعتبار اليوم لفناني الظل، تبدو ملك الجمل مثالًا ناصعًا لممثلة آمنت بأن الفن موقف، وبأن التفاصيل الصغيرة قد تصنع الخلود، إنها واحدة من أولئك الذين لا تبهت صورتهم مع الزمن، بل تزداد صفاءً كلما ابتعدنا قليلًا، ونظرنا بإنصاف.
المصدر:
اليوم السابع