آخر الأخبار

رانيا يوسف تكتب: فيلم بنات الباشا عالم نسائي يهدم سلطة الرجل

شارك

الاقتباس السينمائي من الأدب

المرة الأولى التي قرأت فيها رواية "القاهرة 30" كنت قد شاهدت الفيلم قبلها عشرات المرات، السينما كانت العنصر الأكثر جذباً لي في مرحلة التكوين، لم أتحمل المفاجآت المتتالية يومها عندما صعقتني الأحداث الأدبية وكأني لم اشاهد الفيلم ابداً، رأيت بالتجربة كيف يكون الاقتباس السينمائي من الأدب، هو أن تحافظ على أصالة النص الأدبي، أن لا تكسر صلابته، وتقدم عملاً فريداً يتماس مع الرواية ولا يفقدها وقارها.
هذا دور الكاتب السينمائي فهل نحن المشاهدين لنا دور ايضا، ننحي كافة الأطراف جانباً ونتعامل مع كل عمل فني في مكانه، على الشاشة الكبيرة يسقط الأدب وتحيا الصورة، أن نتخلى عن المقارنات الفارغة بين نوعين مختلفين من الثقافة، الأدب يعطيك حرية أكبر في الخيال اما السينما تعطيك صورة محددة أكثر وضوحاً، أن نتخلى عن توقعاتك الأدبية التي لا يمتثل إليها فيلم يعرض في إطار زمني محدد. فيلم "بنات الباشا" الذي عرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة والأربعين، هو عمل فني مقتبس من رواية الكاتبة نورا ناجي، الفيلم يأتي من الرواية لكنه عمل منفصل عنها، يستحي من الغوص التام فيها، حوله الكاتب محمد هشام عبية الي نسخة اخري أصلية.

الكوافير كفضاء اجتماعي مغلق

العلاقات الإنسانية المعقدة بين النساء والنساء، اجتمعت تحت سقف صالون التجميل أو "كوافير الباشا"، الذي بدا وكأنه مصنع لإنتاج المشاعر الفاسدة، المنافسة على رجل واحد السبب الظاهر لتأجيج مشاعر الغيرة والحقد واليأس والحسرة داخل نساء الكوافير، لكنه لم يكن سوى مرأة تعري حقيقة داخلهم ترفض كل منهن الاعتراف بها، النساء لا يتم التعرف عليهم عبر الرجال لكن عبر صورة المرأة في عين امرأة أخرى.
السيناريو أعطي مساحات متساوية لكل شخصية لكن بعمق متفاوت، لهم الحق في التعبير عن حدث واحد، هم واحد، مشكلة واحدة، سبب واحد دفع كل منهم لمحاولة الانتحار التي في كل مرة تمنعها شخصية نادية. "جي جي" التي تجسدها "زينة" تنحدر إلى الهاوية ليس لأن حبا محرماً خذلها لكنها لأول مرة تواجه صورتها كإمرأة متزوجة أمام نفسها، كذلك نهلة مغنية الافراح الشعبية والمومس المرحة دائما، التي أفزعها سؤال بسيط من نادية لكنه فتح أمامها جرح غائر كانت تتجاهله ظل ينزف حتى وجدت الخلاص في محاولة انتحار فاشلة. ليس كل من يقدم على مواجهة نفسه يستطيع العودة من هناك، ياسمين الفتاة السورية التي هربت من الحرب وقفت عاجزة أمام احتياجات الحياة اليومية وبين قرار يضغط عليها أن تبيع أنوثتها وكرامتها لمن يدفع، ظنت أن الخلاص من عجزها في محاولة انتحار أخرى فاشلة. تعيش نادية التي تمنعهم جميعا من الانتحار كشخص ليس له جذور درامية هي التي تسلم نفسها لليأس برقه لا نعرف أسبابها، ليست شخص بقدر ما هي تجسيد حي للصمت الذي يحمل أوزارهم، لم يعطى السيناريو سبب جاهز يدفعها للانتحار، وكأنها الوعاء الذي استقرت فيه أسباب الأخريات فاتخذت القرار نيابة عنهم، موتها يبدو كـ طقس تطهيري غامض لكل منهم وهو السبب الذي جمعهم في بوتقة الكوافير ودفعهم إلى مراجعة أنفسهم، موتها وهبهم فرصة أفضل للحياة. يمر السيناريو فوق قضية المثلية عابرا على استحياء كأنه يخشى الكشف الكامل عن هذا الغطاء الذي يتحاشى الجميع مصارحته على الشاشة الكبيرة لأسباب قد تكون رقابية أو محظورة، أسباب ليس لها علاقة بالكتابة ولا صناعة الفيلم أصلا. ما زلنا نخشى الاقتراب الصريح من المسكوت عنه، ومازالت قصص النساء يعاد صياغتها ليكون الرجل هو المفتاح والبطل الرئيسي للحدث، لكن الفيلم جاء ليهدم تلك النظرية بهدوء ويضع المجتمع المتعطش للهيمنة الذكورية أمام مراته، السيناريو لم يختزل الصراع في العلاقات العاطفية بين نساء الكوافير وبين صاحبه، بل يكشف هشاشته ويتركه على السطح من دون أن يمنحه سلطة تطور الأحداث، النساء هم العالم الحقيقي للفيلم، والعلاقة الأكثر تأثيراً هي علاقة المرأة بالمرأة وليست علاقة المرأة بالرجل. شخصية مني المثلية، تمثل المرأة في مرحلة التعافي، وهي التي دفعت ثمن مواجهتها مبكراً، حين انصدمت في مجتمع لم يكن صراعها معه ذاتيا بقدر ما كان مع أسرتها الصغيرة ومحيطها الأكبر الذي يرفض اختلافها، كانت تجربتها أعمق من أن تختزل في جرح عابر لكن التجربة إعادة تشكيل مناعتها النفسية ووعيها بالعالم، لهذا تبدو شخصية أقل هشاشة وأكثر ألفة مع صومعة الكوافير، التجربة اكسبتها يقيناً جعلها أكثر مرونة في التعايش مع الألم. تبدأ أحداث الفيلم في اليوم الثاني للتفجيرات الإرهابية لكنيسة مار جرجس التي وقعت في طنطا عام 2017، يمر الخبر من شاشة التلفزيون الى صوت الراديو و اذن مني المسيحية التي يبدو عليها تأثر لحظي ينتهي بعد دخولها الكوافير وإدارة الراديو للقرآن ثم صعودها لاكتشاف جثة نادية، يمر الحدث من نافذة تليفون نور وزوجته، ويظل أثر الانفجار في الخلفية بعد ان يرفض سائق التاكسي توصيل مني الي غايتها بسبب تعدد كمائن الشرطة التي انتشرت على الطريق، ويظل التفجير خلفية باردة يوحى لنا أن العالم الخارجي ينهار، ليس كحدث سياسي قدر ما هو صدمة وجودية تعكس هشاشة العالم الداخلي للشخصيات.

فلك التي خرجت عن النص

فلك سيدة سبعينية تقرر ارتداء فستان زفاف والتجول به في الشارع ارضاء لـ مشاعرها المكبوتة منذ سنوات، لكنها ليست حرة بما يكفي للتعبير عن تلك المشاعر في مجتمع أصبح التبلد جزء اصيل من تكوينه، تسخر منها نساء الكوافير، وتتصادم فلك مع المستنقع الذي يعج بالخراف في الشارع، حتى تسقط ضحية التحقق المتأخر للأنوثة، وهي مدرسة الرسم التي عاشت تخط أحلامها على الورق دون أن تعيشها على الأرض، كانت فلك تجسيداً متحقق لفشل المجتمع نفسه الذي يمنع الفرد أن يعيش ذاته.
رجل الكوافير صاحب العلاقات النسائية المتعددة، الذي يقوم بدوره الفنان أحمد مجدي، من المفترض أن يكون الشخصية الذكورية الوحيدة في الفيلم وهو محور الصراع بين نساء الكوافير لكنه يتحول إلى نسخة كرتونية بلا ذكاء عاطفي يثير الأهتمام ، بارد الوجه يمشي كـ ريشة تتقاذفها الرياح بلا وجهه، قوة وهمية مزيفة تستمد طاقتها من نظرات الإعجاب العابرة، يبدو الرجل نموذج فاضح للسلطة الذكورية الحديثة التي تتباهى بمظهرها دون أن تمتلك عمقاً أو تأثيراً حقيقياً. فيلم بنات الباشا أعاد مركزية المرأة في سرد حكاياتها بنفسها، لم تخرج بنات الباشا من هذا العالم الضيق بخسائر فادحة، لكن نجاة كل منهن بدأت من اللحظة التي توقفت فيها كل واحدة من النظر إلى الرجل كـ جائزة، وبين انتحارات فاشلة، وأسرار مكبوتة، وخسارات معلقة يترك الفيلم سؤالا مفتوحا، هل يمكن للمرأة أن تتصالح مع ذاتها قبل أن يغفر لها المجتمع حقّ اختلافها؟


شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا