آخر الأخبار

خالد إبراهيم يكتب: آخر المعجزات.. اعتقاد مُفرِط يغتال صاحبه

شارك

أخيرا، خرج فيلم " آخر المعجزات " للنور، بعدما ظل حبيسا للأدراج خلال عام كامل، عُرض الفيلم ضمن مسابقة الأفلام القصيرة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولى، وسط حضور جماهيري مُكثف، فالفيلم الذى تصل مُدته إلى 20 دقيقة تقريبا، وأخرجه عبد الوهاب شوقى، مستوحى من قصة "معجزة" لنجيب محفوظ، التي جاءت ضمن المجموعة القصصية "خمارة القط الأسود".

مصدر الصورة
خالد إبراهيم

الفيلم يحكى عن يحيى الصحفى الذى نراه في خمارة يسكر، ونكتشف أنه مُحال إلى التحقيق، لأنه أخطأ في كتابة اسم شيخ طريقة تُوفى، فبدلا من أن يكتبه "مأمون"، كتبه ميمون"، مما أثار حفيظة أتباع الشيخ، وبينما هو في حالته البائسة، يُفاجئ أن الجرسون يبلغه أن شخصا يُدعى "مأمون" يريده على الهاتف، فيصاب بصدمة كبيرة، ويرد على الهاتف، ويبلغه الشخص الآخر أنه ينتظره، ثم يغلق الهاتف، يحتار يحيى في الأمر، فيقرر الذهاب لأتباع الشيخ المُتوفى، ويقابل شيخا منهم ليحكى له عما حدث، فيخبره الشيخ أن ما حدث "كرامة"، وأن عليه أن يكون منهم، وأن ينتظر العلامة الثانية، ويذوب يحيى بداخل أتباع الطريقة ويصبح بالفعل منهم، وتتحول حياته تماما، حتى يكتشف يحيى أن هناك لعبة في الأمر، وأنه مُجرد شخص تعرض للخداع.

لم يكن يحيى ضحية لشخص قرر أن يتلاعب به فحسب، ولكنه وقع ضحية لتفكيره، واعتقاده بأنه في لحظة قد يكون شخصا "مُختارا"، دون أن يكون هناك أياً أمارات لذلك، فحالة الاستسلام التى كان يُعاني منها بعد احالته للتحقيق، مهدت أرضا خصبة لعقل يحيى أن يُصدق ويؤمن بما هو غير معقول، استسهل يحيى وصدّق أنه قد تحدث له مُعجزة تنتشله من مصيره وحياته وبؤسه، دون أن يتشكك في الأمر أو يُعمل عقله للحظة واحدة، فما كان من هذا الاعتقاد إلا أن اغتاله.

مصدر الصورة
خالد كمال فى آخر المعجزات

يمتلك الفيلم حيزا واسعا لاستيعاب التأويلات المختلفة، لا سيما تلك التي تتعلق بالروحانيات، والأبعاد الميتافيزيقية، وهو أمر موجود في النص الأصلى بشكل أو بآخر، لكن المخرج عبد الوهاب شوقي، أخذ المضمون إلى مستوى أكثر عمقا، بجعل محور الحدث، شيخا صوفيا لاحدى الطرق الصوفية، وهي تفصيلة ليست موجودة في القصة الأصلية، كذلك، تلك المشاهد التي يتحول فيها يحيى من أحد رواد الخمارات، إلى درويش، وشيخ طريقة مُحتمل له كرامات، كالسيدة الحامل التى لا يعيش لها طفلا، فجاءته لتأخذ بركته، ليعيش الطفل القادم، فيتقمص دور الشيخ الذى عاش دهرا من الزمان يأتيه المريدون ليحصلوا على بركته، فوضع يده على رأسها وقرأ الفاتحة، وهو على يقين أن هذه هي الإشارة الثانية.

بطل النص ظن في لحظة أنه نبي، وأن معرفة الأسماء معجزة، كمعجزات من أحيا الميت، ومن أُسرى به إلى المسجد الأقصى، ومن هنا انطلق، واذا كان بطل قصة نجيب محفوظ، أخذ يبحث ويقرأ في الكتب التراثية ويُزيد من علمه، بعدما شعر أنه شخصا "مُختارا"، فإن بطل عبد الوهاب شوقي في الفيلم، ذهب من فوره إلى شيخ الطريقة، الذى أخبره أنه "مُختار"، والاختلاف هنا ليس في الأحداث فحسب، ولكن في زرع وسيط في الفيلم، وهو الشيخ الذى ذهب له البطل، وهي تفصيلة تقتضيها الدراما وتدخل في صلبها مباشرة، وتتماشى مع الروح التى بثها عبد الوهاب في القصة.

مصدر الصورة
بوستر فيلم آخر المعجزات

في رواية محفوظ، لم يُعرف للبطل اسما، هو مجرد شخص أو انسان، لكن في الفيلم، منح عبد الوهاب شوقي بطله اسم "يحيى"، وهذا الاسم تحديدا، له في عالم السينما المصرية ثِقلا فلسفيا ونفسيا ودينيا، وسنجد أن أبطال داوود عبد السيد ويوسف شاهين وغيرهما يميلون في كثير من أعمالهم لاختياره، لكن لعل يحيى بطل "آخر المعجزات"، أقرب إلى يحيى المنقباوى بطل فيلم "أرض الخوف"، الذى تمت زراعته في عالم ليس عالمه، عاش فيه في البداية بيقين مُكتمل بما يفعله، مؤمنا به، يعرف هويته جيدا، ويمسك بتلك الفروق بين شخصيتيه في العالمين، ولكن رويدا رويدا، تخفي هذه الفروق، وتبدأ نزعات الشك في الظهور، وقد أخذت هذه الرحلة سنوات طويلة، أما "يحيى" في آخر المعجزات، فلم تأخذ رحلته سوى أيام قليلة، بتحولات حادة وعنيفة، وليست ناعمة كما في "أرض الخوف".

الشك ثم اليقين حتى الإيمان المُطلق في الشيء تيمة رأيناها جميعا في واحد من أفضل الأعمال الدرامية في الربع قرن الماضى، وهو مسلسل "السبع وصايا"، الذى يتحدث باختلاف تفاصيله عن نفس الفكرة، وهى، كيف أن هذا الاعتقاد المُطلق والإيمان الأعمى بشيء لا مادى، قاد الجميع إلى الهلاك والموت، بينما الأمر كله مُرتب وموضوع بعناية فائقة من شخص آخر، زرع الفكرة ورسم الحكاية بذكاء لتبدو وكأنها قدرية، ليصل لمبتغاه، لكن فكرة عبد الوهاب شوقي كانت أكثر تركيزا.

بل أن نجيب محفوظ قبل أن ينشر مجموعته القصصية "خمارة القط الأسود"، التي تضمن قصة "المعجزة" المستوحى منها الفيلم، جاء في رواية "الطريق"، خطا مشابها، للحدث الرئيس في فيلم "آخر المعجزات"، ففي رواية الطريق، كان صابر الرحيمي يبحث عن والده سيد سيد الرحيمي، ونشر اعلانا في الجورنال، فاتصل به أحد الأشخاص وقال أنه سيد سيد الرحيمي، وأعطى صابر العنوان، وحينما فشل صابر في إيجاد العنوان، عاد للفندق، واكتشف أن المُتصل يخدعه، لمجرد التسلية، وهو قريب الشبه بما حدث ليحيى في قصة المعجزة، حينما حاول أحد رواد الخمارة السكارى أن يتسلى أيضا.

نجح عبد الوهاب شوقي في قراءة القصة الأصلية، قراءة مختلفة، حتى وإن أضاف عليها وحذف منها وعدّل فيها، وفقا لرؤيته الفنية أولا، وثانيا وفقا لآليات السينما ومتطلباتها، على مستوى القصة والأحداث، فبدا وكأن الفيلم لا يتطابق مع القصة، وهو أمر يُحسب لعبد الوهاب شوقي، ولا يُحسب عليه، كذلك نجح خالد كمال فى تأدية دور "يحيى"، ذلك الشاب الأربعيني والذى يبدو أنه يحمل خلفية شديدة البؤس، أوصلته لتلك الحالة من اليأس.



شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا