في عالمٍ تتسارع فيه الألحان وتضيع فيه ملامح الأصالة بين ضجيج الإنتاج السريع، تطل علينا المطربة سوزان مختار كصوتٍ يذكّرنا بأن الغناء ما زال قادرًا على أن يوجِع ويُداوي في آنٍ واحد.
وأغنيتها "ما فيش فايدة" ليست مجرد تجربة فنية جديدة، بل شهادة ميلاد لمدرسة في التعبير الغنائي الأنثوي، حيث يلتقي النضج الإحساسي مع الذكاء الموسيقي في توليفة نادرة، تُعيد المستمع إلى جوهر الطرب، ومنذ النغمة الأولى، يأخذنا صوت سوزان إلى مساحةٍ دافئة من الصدق الإنساني، فصوتها يحمل نغمة البوح لا الاستعراض، فيه بُحّة محببة، وجرحٌ موسيقيّ يقطر عاطفة، ولا تؤدي الجملة الغنائية كما كُتبت، بل كما عاشتها؛ كأنها لا تُغني عن امرأة، بل تتحدث باسم كل امرأة اختبرت الحب على حافة الصبر.
تُعد أغنية "ما فيش فايدة" للمطربة سوزان مختار نموذجًا دالًا على استمرار الحس الطربي داخل الأغنية العربية المعاصرة رغم تحولات الذائقة السمعية وهيمنة القوالب التجارية، ويستدعي هذا العمل من المستمع إصغاءً تأمليًا لا استهلاكيًا، إذ تتقاطع فيه أبعاد النص الغنائي واللحن والأداء الصوتي في بناءٍ تعبيري متكامل يقوم على اقتصادٍ موسيقي وثراءٍ وجداني في آنٍ واحد.
ومنذ الجملة الافتتاحية للأغنية، يظهر صوت سوزان مختار بوصفه حاملًا لبصمةٍ سمعيةٍ خاصة تتجاوز حدود الأداء التقني إلى ما يمكن تسميته بـ"الخبرة الشعورية المنغَّمة"، فصوتها متوسط المدى، دافئ الطبقة، يحمل بُحّة خفيفة تُكسبه صدقية وجدانية، وهذه البُحّة ليست عيبًا صوتيًا، بل عنصر هويةٍ يربط بين التعبير والغناء، ويجعل المتلقي يستقبل الصوت لا كمجرّد أداة بل كـ"جسدٍ عاطفي" يعبّر عن التجربة من داخلها.
في أدائها، تميل سوزان إلى الاقتصاد في الزخارف الصوتية والتركيز على الجملة اللحنية بوصفها وحدةً شعورية، وهو ما يمنح الأداء صفاءً دراميًا نادرًا في الأغاني الحديثة التي تميل غالبًا إلى المبالغة الحركية في النغم.
في المقطع الأول "ما فيش فايدة.. صوابعي العشرة ليك قايدة"، يتحوّل الأداء إلى شكلٍ من التمثيل الصوتي (vocal dramatization)، حيث تُبدع سوزان في التحكم في ديناميكية الصوت بين المدّ والانكسار، وتبدأ الجملة على طبقةٍ متوسطة محايدة ثم تهبط تدريجيًا على نهاية الجملة، في محاكاةٍ صوتيةٍ دقيقة لمعنى "الاستسلام المُحِبّ"، فهي تستخدم التنهيدة كوسيطٍ تعبيري، فيتحول النفس ذاته إلى جزء من البنية الموسيقية، لا إلى فراغٍ بين الجمل.
وفي المقطع الثاني الذي تقول فيه "عملت أنا زي معملتش.. وشايف حبي ليك خنقة".. هنا تُظهر سوزان ما يمكن تسميته بـالمرونة العاطفية في الأداء، إذ تتبدّل بين صوتٍ جهوري مكسور وصوتٍ هامسٍ مُتصالح، فتجعل المستمع يتنقّل معها بين لحظة الاحتجاج ولحظة الإدراك، وهنا تتجلّى قدرتها على التدرّج التعبيري؛ فهي لا تنفجر في الغناء بل تُفكّك الانفعال داخله، ما يعيدنا إلى مفهوم الأداء الدرامي في الغناء العربي الذي ميزّ أصواتًا كأم كلثوم ووردة.
اللحن الذي صاغه أحمد زعيم يقوم على مقام شرقي طربي الأساس (يقترب من نهاوند أو راست في بنائه العام) لكنه يعتمد على إيقاعٍ بطيءٍ متأمل يتيح للصوت مساحة حركة حرّة، ويُلاحظ أن اللحن يتعامل مع الكلمة كمحرك للانفعال لا كمجرد حاملٍ موسيقي، إذ تتبدّل الجمل اللحنية تبعًا للتطور الشعوري للنص، من الانكسار إلى التسليم، ومن العتاب إلى الرضا، وهذا التدرج اللحني المتدرج بالتصعيد والهدوء يخلق ما يمكن وصفه بـمنحنى التعبير الصوتي الذي يقود المستمع من التوتر إلى السكينة.
أما التوزيع الموسيقي (أحمد علي) فيتّسم بذكاءٍ هندسيّ واضح؛ إذ يُبقي الآلات في موقع الخلفية لتأكيد مركزية الصوت، فيوازن بين دفء الجيتار وعمق الكيبورد دون أن يسمح لأي آلة بتجاوز النطاق الشعوري للأغنية، إنه توزيع يحقق ما يسميه النقاد بـ"الشفافية السمعية"، أي أن تسمع كل عنصرٍ دون أن يطغى على الآخر.
كتب الشاعر بلال عبده نصًا غنائيًا يقوم على التصعيد الداخلي للوجدان، لا على الحكاية التقليدية، والنص يُعبّر عن رحلةٍ شعورية من الفقد إلى القبول، وتتعامل سوزان مع مفرداته بوصفها نصًا أدائيًا لا لغويًا فقط، وعلى سبيل المثال، في قولها: " ولو راحتك بعيد عني خلاص والله مش كارثة"، وهنا نلحظ أن الصوت يختار نغمة هادئة شبه حيادية، كأنه يُعلن الوعي لا الانكسار، فتتحول الكلمة من جملة درامية إلى موقفٍ إنسانيٍّ متسامٍ.
أداء سوزان مختار يقوم على التوازن بين التقنية والإحساس، بين التحكم في الصوت وبين إطلاقه عند اللحظة المناسبة، وتجيد ما يسميه النقاد بـ"الإيقاع الداخلي"، أي تلك القدرة على خلق حركةٍ شعوريةٍ داخل اللحن دون تدخلٍ آلي أو إيقاعي، كما تستخدم الصمت كأداة تعبيرية مكافئة للصوت؛ إذ تترك فراغاتٍ صوتية قصيرة تمنح الكلمة بعدها الانفعالي، وبهذا المعنى، تغني سوزان مختار لا بالحنجرة فقط، بل بـ"وعيها السمعي" بموقع كل جملة في البنية الشعورية العامة للأغنية.
تمثل أغنية "ما فيش فايدة" تجربة فنية تؤكد أن الطرب المعاصر يمكن أن يظل حيًا حين يُبنى على صدق التجربة ووعي الأداء، فهي أغنية تستعيد البعد الإنساني في الغناء العربي، وتعيد الاعتبار لفكرة أن الصوت ليس وسيلة تسلية، بل أداة تعبير جمالي ونفسي، وتُثبت سوزان مختار من خلالها أنها ليست مجرد صوتٍ جميل، بل ممثلة موسيقية تعرف كيف تحوّل النص إلى تجربةٍ وجدانية مكتملة العناصر.
المصدر:
اليوم السابع