كنتُ - مثل كثيرين من أبناء جيلي - أرى في مريم فخر الدين فتاة أحلامي الأولى، تلك التي علّمتنا معنى الرقة على الشاشة، وأهدتنا صورة الحب الصادق النقي، حب لا يعرف المبالغة ولا الضجيج، وكانت فتاة أحلام جيلي كله، بصوتها الهادئ وعينيها اللتين تتكلمان بلغةٍ من حنينٍ لا يشيخ، ومع مرور الزمن، بقيت " إنجي" في فيلم ( رد قلبي) رمزًا خالدًا للرومانسية في السينما المصرية، أيقونة للحب الممنوع الذي ينتصر بالمشاعر لا بالمواجهة، وفي كل مرة نشاهدها فيها، نشعر أن الشاشة تعود إلى زمنٍ كان فيه الحُب طاهرًا، والعاطفة فنًا، والبطلة تحمل من البراءة ما يكفي لتغسل القلب من قسوته.
كانت مريم فخر الدين تنساب على الشاشة كما تنساب القصيدة في حلم شاعرٍ عاشق، وكانت وجه من ضوء وطمأنينة، وعينان لا تنطقان إلا بالحب، وملامح وُلدت لتروي حكايات القلب حين يعجز عن البوح، ولم تكن مجرد نجمة، بل كانت حالة وجدانية نادرة، تشبه الندى حين يهبط على وردة الفجر، أو الصمت الجميل الذي يسبق الاعتراف.
تميز أداء مريم فخر الدين بصدقٍ فطريٍ لا يحتاج إلى زينة أو افتعال، وكانت تعرف أن الرومانسية ليست مجرد دمعة أو ابتسامة حالمة، بل هي حالة داخلية تنبع من الإحساس العميق بالشخصية، وفي فيلم " رد قلبي" الذي قامت فيهلا بدور "إنجي"، قدّمت نموذجًا للفتاة التي تتصارع بين طبقتها الاجتماعية ومشاعرها الإنسانية، فكان أداؤها مرآة للعاطفة المقهورة والتمرد الرقيق، ولم ترفع صوتها، ولم تبالغ في تعبيراتها، بل جعلت من الهمس نداء ومن النظرة خطابًا عاطفيًا.
أما في "حكاية حب" أمام عبد الحليم حافظ، فقد بلغت ذروة النضج التعبيري، إذ نجحت في رسم شخصية المرأة التي تحب بصمت وتخاف من الفقد، وكانت انفعالاتها محسوبة، لكنّها عميقة، تحمل من الرقة ما يجعلها تتسلل إلى قلب المشاهد دون استئذان، وحين تقدّم بها العمر، حافظت على نفس المصداقية والهدوء الداخلي، وأدركت أن التحول إلى أدوار الأم ليس تراجعًا، بل استمرار ذكي لمسيرة نضج فني وإنساني، وبهذا الاتزان والذكاء، أثبتت أن الموهبة الحقيقية لا تهرم، بل تتجدد بوعي الفنان ورقيه.
اليوم.. الثالث من نوفمبر، تمر ذكرى رحيلها، وهي الحلم الذي يسكن ذاكرة السينما المصرية، فتاة الأحلام التي تُمثل الرومانسية بكل ما فيها من حنين وصدق وبراءة، وأجمل ما في مريم فخر الدين لم يكن فقط ما تركته من أدوار في شبابها، بل ما فعلته حين تقدمت في العمر، فحين غادرها لقب " فتاة الأحلام"، لم تغادر الشاشة، وأدركت بذكاءٍ فني نادر أن التمثيل ليس عمرًا، بل طاقة حياة، فصارت الأم الحنون، والسيدة الوقورة، والمرأة التي تحمل مزيج الحكمة والحنان في آن، ولم تتشبث بصورة الماضي، بل تجاوزتها بشجاعة الفنانة التي تعرف أن دوام البقاء لا يكون بالجمال، بل بالصدق والمرونة والقدرة على التحول.
لم تكن مريم فخر الدين فقط وجهًا حالماً في زمن الرومانسية، بل كانت أيضًا امرأة جريئة وصريحة إلى حد الإدهاش، فلم تعرف المجاملة طريقًا إلى قلبها ولا إلى كلماتها، فكانت تقول رأيها كما تشعر به، دون زخرفة أو خوف من ردود الأفعال، وفي لقاءاتها التليفزيونية والصحفية، بدت دائمًا تلك السيدة التي لا تُجيد التمثيل خارج الكاميرا، فتتكلم بعفوية نادرة، وتفتح دفاتر حياتها كما هي، دون تجميل أو انتقاء، وتحدثت بصراحة عن علاقتها بعبد الحليم حافظ، كما روت مواقفها مع عادل إمام ببساطة الإنسانة التي لا تتوارى خلف الأضواء، وحين سُئلت عن فاتن حمامة ولقب "سيدة الشاشة العربية"، لم تُساير الرأي العام، بل عبّرت عن وجهة نظرها كما تراها، وهو ما أثار آنذاك جدلاً وربما غضب فاتن نفسها، لكنها لم تتراجع عن رأيها، وكانت تؤمن أن الصدق، حتى لو أغضب البعض، أنبل من الصمت المزيّف، ولذلك بقيت في ذاكرة الجمهور فنانة لا تخشى الحقيقة، ولا تضع الأقنعة، سواء أمام الكاميرا أو بعيدًا عنها.
وظلت مريم حاضرة في وجدان الجمهور حتى آخر أيامها، لأن حضورها لم يكن مجرد حضور جسدٍ أمام الكاميرا، بل حضور روحٍ عرفناها في لحظات الحلم والخذلان، في الرومانسية القديمة التي نفتقدها اليوم كما نفتقد زمنها الجميل، ورحلت مريم فخر الدين، لكن ابتسامتها لا تزال تضيء ذاكرة السينما كنافذة على عالمٍ من الطهر والعذوبة، فكانت "إنجي" الحلم، و"الأم" الذاكرة، و"المرأة" التي علمتنا أن الجمال الحقيقي لا يشيخ، بل يتحول - كما تحولت هي - من وجه على الشاشة إلى رمز خالدٍ في وجدان الفن المصري.
المصدر:
اليوم السابع