آخر الأخبار

شيماء منصور تكتب: أم كلثوم.. رحلة فى وجدان كوكب الشرق كما لم نرها من قبل

شارك

لطالما راودني تساؤل منذ طفولتي ..ما الذي كان يشعر به جمهور كوكب الشرق أم كلثوم وهو يجلس أمامها، يستمع إلى ذلك الصوت الصادق الذي لا يشبه أحد، لا أخفيكم سرًا، كم تمنيت أن أكون واحدة من ذلك الجمهور العريض، أن أراقب وجوههم عن قرب وهي تضيء من عزوبة صوتها، وأن أصفق وأصفق دون أن أشعر بالتعب، تمنيت كثيرًا، بل كثيرًا جدًا، أن أعيش تلك اللحظة التي تجمع بين الطرب والدهشة، بين السماع والحلم، بين صوت يملأ القلب ووجدان يذوب في حضورها.

لم أعرف الجواب إلا أمس، حين دعاني المخرج أحمد فؤاد لمشاهدة عرضه "أم كلثوم" على إحدى مسارح مدينة السادس من أكتوبر، وما إن انطفأت الأضواء وظهرت صورتها الهولوجرامية تغني "إنت عمري" ، حتى حدث شيء لم أتوقعه، شعرت وكأنني عبرت إلى زمن أخر، زمن لا يشبه زمننا هذا، زمن صنعه صوتها وحده، فبرغم أنها لم تكن جسدا من روح ودم، إلا أن حضورها كان طاغيا، ملئت القاعة كلها دفئا وحنينا، شعرت وكأنني داخل الحلم الذي طالما راودني، وأشفقت على جمهورها كيف كان يشعر مع إنتهاء الحفلة، كيف يتحملون عودة الصمت بعد أن سكن صوتها أرواحهم.

في العرض المسرحي الغنائي أم كلثوم، رأيتها كما لم أرها من قبل، رأيت جانب في حياتها لم أعرفه، ولعل الكثير كذلك لم يكن يعرفه، صاغه المؤلف والشاعر دكتور مدحت العدل بطريقة تجعلك تشعر بتلهف لمعرفة الأحداث، تشعر أن دقات قلبك تتسارع عندما تعرف كم الصعوبات التي تعرضت لها أم كلثوم لتصبح هي كوكب الشرق، وأظهر كم كانت إمراءة ذكية، كم كانت امرأة محظوظة بحب من حولها وإيمانهم بها، كم كانت امرأة استثناية.

لو تحدثنا عن تفاصيل العرض المسرحي أم كلثوم" دايبين في صوت الست" لم تكفي سطورا فوق السطور، فبالرغم أن العرض كانت مدته تزيد عن الساعتين إلا أننا لم نشعر بملل للحظة، فكانت الأحداث متسارعة، وأحداث حقيفة تخترق القلب، منذ أن غادرت أم كلثوم بلدتها الريفية مع والدها وعائلتها لتغني في القاهرة، وحضر لها أول حفلة الشاعر أحمد رامي، هذا الشاعر العظيم الذي كان قد أعتاد أن يكتب أغانيه باللغة العربية الفصحى، ولكن طلبت منه أم كلثوم أن يكتب لها بالعامية، وعندما علم عبد الوهاب صديقه الفرب، رفض ونصحه ألا يلبي لها رغبتهاولكن فاجئه صديقة الذي كان قد وقع في حب أم كلثوم وقال له " أن امسحور بيها يامحمد، أنا عيان بيها، ومش هكتب ليها عن أنا هكتب عنها"، ومن هنا بدأت رحلة طويلة جمعتها برامي، رامي الذي ظل جانبها إلى نهاية عمرها برغم كل الظروف الذي مروا بها سويا، وغيرة زوجته العمياء بسبب يقينها من حبه لها.

" أنا السلطانة أنتي مين يابنت بنت الفلاحين" قالتها منيرة المهدية وقلبها يعتصر حسرة، بعد ظهور أم كلثوم التي سحبت بساط الغناء من تحت قدميها، ولم تكن تعرف منيرة حجم أم كلثوم حتى سمعت صوتها وأدركت أنها أمام صوت يفوق الخيال، فماكان عليها إلا أن تحاربها، نعم حاربتها بكل ماأوتيت من قوة، بعلاقتها جعلت الصحافة تنشر الشائعات والأكاذيب عنها، حتى استسلم الأب وقرر العودة بها وبأبنائه لبلدته مرة أخرى، فلم يستطع تحمل العار كما قال، لكن كان لأم كلثوم رأي أخر، أنها لن ترحل وسترد على هذه الشائعات بصوتها الجبار، ونجحت أم كلثوم وبجبروت صوتها وبأنانية وحقد منيرة المهدية أنتهت وظلت أم كلثوم صامدة ناجحة.

فيلم عايدة كان مرحلة صعبة في حياة أم كلثوم، فقد أقنعها به القصبجي ورامي، أما هي فلم تكن تشعر بالعمل كما أعتادت أن تحس بما تقدمه لكنها أقدمت على التجربة، وكان في نفس الوقت قد قدم عبد الوهاب فيلم أمامها، ولكن ماحدث أن عبد الوهاب نجح نجاحا ساحقا، أما هي فالهزيمة كانت تطاردها، وتذكرت الكابوس الذي لطالما راودها، بأنها تغرق في الترعة، مما أدخلها في حالة نفسية سيئة وألقتك لاللوم على القصبجي ورامي، ولكن سرعان ماأزاحت عن كتفيها غبار الفشل، وردت على نجاح عبد الوهاب بنزولها انتخابات نقابة الموسيقين أمامه والتي استطاعت أن تنتزع الفوز بسهولة.

وفي مشهد مؤثر أكاد أجزم أنه أذاب لحظة جليد وجوه الحضور، وكادت العيون أن تفيض، ظهرت أم كلثوم وهي على فراش المرض بعدما علمت إصابتها بتضخم في الغدة الدرقية، وأوصاها الطبيب أن تخضع لعملية جراحية ولكن هناك إحتمالية لفقدها صوتها، أو أن تستمر على العلاج الذي سيأخذ وقتا طويلا، وهنا أنفعل رامي الذي قال أن صوتها ليس ملكها بل ملكنا جميعنا، في محاولة منه أن يمنعها عن إجراء تلك العملية.

وتعاونت أم كلثوم مع شركة فوزي وغنت كلمات بليغ حمدي لأول مرة في أغنية لا تحتوي على كلمات بل سحر من نوع خاص، وهي أغنية " حب إيه اللي انت جاي تقول عليه"، وفي لقاء السحاب تعاونت أم كلثوم مع عبد الوهاب، حتى جاءت النكسة وقامت أم كلثوم بدور لا يقل أبدا عن دور الجندي في الجبهة، قدمت حفلات في كل محافظات مصر، وذهبت للخارج تغني حتى جمعت ملايين االجنيهات وتبرعت بها للمجهود الحربي.

"ماتعيطوش.. الفنان عمره مابيموت" بكلمات رقيقة أنتهت المسرحية التي كنت أود أن تظل وقتا أطول، والحقيقة أنني منذ اللحظة الأولى وقد شعرت بقلق ممزوج بالخوف من مشهد موتها، ولكن كان لدى المخرج والمؤلف من الذكاء مايجعل هذا المشهد خفيفا، ولك يظهرها على فراش الموت، بل أنهى المسرحية بأغنية مليئة بالبهجة أمتزجت بروح الحداثة مع الأصالة ليخرج كل الجمهور وقد رسمت على وجهه بسمة وهو يتذكر الست أم كلثوم ودايبين في صوتها.

منذ اللحظة الأولى وقد أيقنت أنني أمام عناصر عرض مبهرة، فدعونا نتحدث في البداية عن التمثيل، فقد قدمت ملك أحمد دور أم كلثوم وهي صغيرة ببراعة خطفت الأنظار لها، وخطفت القلوب بصوتها الذي برغم صغر سنها إلا أنه كان صوتا تحسبه من شدته لإمرأة كبيرة، ولم يقل إنبهارنا بل لعله زاد بمجرد ظهور أسماء الجمل التي أدت دور أم كلثوم الكبيرة، فللحظة يهيء لك أنك أمامها وتشعر أن الشخصية قد لبستها بالفعل، ناهيك عن صوتها الجبار، ولا نستطيع أن نغفل أحمد الحجار في دور عبد الوهاب فكما يقال دائما أن ابن الوز عوام، وأحم دابن النجم الكبير علي الحجار أثبت هذه المقولة سواء في صوته أو حضوره على المسرح، أما سعيد سلمان الذي قام بدور رامي ونقل مشاعره بكل صدق وإبداع، وهاني عبد الناصر الذي قدم دور السنباطي، ويوسف سلامة الذي قدم دور القصبجي فكانوا موفقين لأكبر درجة في تأدية أدوارهم.

أما ليديا لوتشيانو التي قدمت دور منيرة المهدية، أتذكر بعدما أنهت أغنيتها الأخيرة وأختفت في حفرة المسرح كدلالة على إنتصار أم كلثوم عليها، في هذا المشهد بالتحديد ظللت أصفق لها بشدة من شدة إعجابي بأدائها وصوتها، ولا نستطيع أن نغفل أبو العلا الذي قام بدوره محمد عماد إسماعيل، والذي قام كذلك بدور الطبيب المعالج لأم كلثوم، فلديه حضور كبير على المسرح، أما هدير الشريف التي أدت دور زوجة رامي، استطاعت أن تجعلنا نتعاطف معها، تلك المرأة التي تعيش مع زوجها وهي تعلم أنه يحب ثومة، وأنه معها بجسده فقط أم روحه وقلبه مع أم كلثوم، هدير بإحساسها المرهف قدمت مشهد من أعظم مشاهد المسرحية جعلت الجميع يشعر بها وبمشاعرها، ولا سيما أن الأب الذي قام به عمر صلاح، والأخ منار الشاذلي، والأخ إسماعيل السيد كان لحضورهم تأثير كبير كذلك، بالإضافة للأداء الخفيف لأيمن عبد النعيم الذي قام بدور محمد فوزي، ولأحمد عبد العزيز الذي قام بدور عمر الخيام، وكذلك الصحفي صالح وزعيم الالاتيه حسين روبين لم يمر مشاهدهم إلا بعدما تركوا للمشاهد بصمة.
وجاء الديكور الذي صممه ونفذه الدكتور محمود صبري، مزيجًا مدهشا بين الواقعي والافتراضي، حيث استخدم المخرج شاشات ضخمة عرضت عليها مشاهد متنوعة فصارت خلفية نابضة بالحياة، تتبدل مع كل مشهد بانسيابية مذهلة، وتكاملت تلك الصورة مع الكتل الحقيقية على خشبة المسرح، فخلق الاثنان معا عالما بصريا مبهِرا، وهناك بعض المشاهد التي كان الديكور فيها بطلا فمثلا على سبيل المثال مشهد أم كلثوم مع والدها أثناء سيرهم وهما ذاهبان لإحياء حفلة ظهرت الشاشة وهي تتحرك بين البيوت والأراضي الزراعية والأطفال يلعبون، بينما كانت أم كلثوم ووالدها يتحركون مكانهم حتى ظهرت الصورة بمنتهى الروعة وكأنهم هم من يتحركوا بين البلاد، أما المشهد الأخر هو مشهد الكابوس الذي أمتزجت فيه الشاشة بفيديو غرق أم كلثوم في الترعة وتأخذها الحشائش إلى الأسفل حتى رأتها وكأنها أيادي خفية تحاول جاهدة أن تغرقها، لنجد نفس الأيادي تظهر على المسرح في صورة أمتزج فيها الواقع مع الخيال ،في انسجام مذهل بين الشاشة والمسرح. وأدت الموسيقى الذي قدمها كلا من الموسيقار خالد الكمار والموسيقار إيهاب عبد الواحد دورها بذكاء، واستطاعت أن تمزج بين الحاضر والماضي بسلاسة وبراعة فكانت بمثابة لغة موازية للحوار، وكأن الألحان كانت تحاور الممثلين على المسرح، وليس الألحان فقط بل الكلمات التي نسجها العظيم مدحت العدل كانت بمثابة لغة درامية مختلفة تكمل الحوار وتكشف خبايا النفس، فحملت معاني كبيرة ،وقد استطاعت مصممة الملابس الرائعة ريم العدل أن تستحضر روح تلك العقود الذهبية، دون أن تقع في فخ التقليد أو المبالغة، وكان هناك بعض اللمسات لها فمثلا مشهد المواجهة بين أم كلثوم وعبد الوهاب والتي جعلت فيه الكورال يرتدي نصف أبيض ونصف أسود مما يخيل لك أنهم شخصين وليش شخص واحد، كذلك مشهد منيرة المهدية التي أرتدت فيه فستانين مختلفين في اللحظة نفسها بسرعة ومهارة فائقة صنعتها مصممة الملابس، أما الاستعراضات لعمرو باترك فكما اعتدنا أن يكون اسمه بمثابة جسر من الثقة لأعماله وقد نجح هذه المرة أيضا أن يبني جزءا جديدا من هذا الجسر، بإباعه في رسم الاستعراضات بطريقة أنيقة ومعبرة أضافت للعرض روح من البهجة والحيوية دون أن تفقده بعده الدرامي بل على العكس كانت جزئا مهما في دراما العرض.

وجاء التأليف بسيطا في لغته عميقا في معناه، وجعلنا نرى ونعرف مالا لم نكن نره أو نعرفه من قبل، فهو لم يقدم سيرة مباشرة، بل قدم حالة، عن المرأة التي غنت للحب والوطن في وقت واحد، فأخذنا دكتور مدحت العدل في رحلة وجدانية تعيدنا إلى زمن كان فيه الفن مقدس والمسرح محراب صدق، فجعلنا نعيش سحر أم كلثوم من جديد.

دعونا نأكد أن عرض يحمل اسم واحدة بحجم أم كلثوم ليس أمرأ سهلا على الإطلاق، فمبالك أنه أيضا عرض غنائي إستعراضي، ولكن جاء هنا دور مخرج واعي مبدع، استطاع أن يثبت نفسه بالعديد من العروض الناجحة، حتى يأتي إخراجه لأم كلثوم وكأنه تتويجا لمسيرته وإعلانا منه بأننا أمام مخرج مختلف، فقد استطاع أحمد فؤاد أن يكون بمثابة خيط يربط كل عناصر العمل في نسيج واحد، فقد قدم قراءة معاصرة لذاكرة غنائية تعيش في وجدان المصريين، لم يعتمد على الإبهار البصري بقدر ماراهن على الصدق الإنساني، فجعل العرض يتحرك بين أضلعنا بإيقاع داخلي نابع من كل العناصر، جعل الزمن يتوقف قليلا وأعاد مشاعرنا إلى صفائها الأول. في النهاية لا نملك إلا أن نشكر كل من له دور في إنجاح هذا العمل المتكامل ونتمنى أن يتم تقديم الكثير والكثير عن رموزنا العظماء.


شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا