آخر الأخبار

إعمار لا تهجير.. كيف قادت مصر التحول الأهم في أزمة غزة؟

شارك
مصدر الصورة

مع اندلاع أحداث السابع من أكتوبر 2023، واشتداد المواجهات والصراع في قطاع غزة، قرأت مصر المشهدَ بعين الخبير الذي يدرك أبعاده التاريخية والسياسية والإنسانية، ومنذ اللحظة التي أعلن فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي، بوضوح، أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة خط أحمر، وأن مصر لن تشارك في ظلم أو تُسهم في إفراغ الأرض من أهلها؛ اتخذت القاهرة موقفًا استراتيجيًّا مبكرًا رسم ملامح التعامل مع الأزمة.

رفض التهجير وفرض إعادة الإعمار

ووقفت مصر في وجه بعض الأطروحات التي كانت تميل إلى حلول تتضمن التهجيرَ أو نقلَ السكان، قائلةً عبر رئيس الجمهورية "نرفض تهجير الفلسطينيين، ولن نسمح به"، واختارت مسارًا دبلوماسيًّا مكثفًا غيَّر وجهَ النقاش تمامًا، لتحوِّله من أفكار الاقتلاع والإزاحة والتهجير إلى رؤية شاملة لإعادة الإعمار؛ تضمن بقاء الفلسطينيين على أرضهم، وتؤسس لمرحلة جديدة من إعادة البناء والاستقرار في القطاع.

الإعمار.. خيار عربي رسمي

استطاعت مصر، على مدى سنتَين منذ بدء أحداث غزة، عبر تحركاتها المتواصلة، أن تفرض رؤيتها كخيار عربي رسمي، بعدما تبنَّتها القمة العربية الطارئة وأدرجتها كبند رئيسي على جدول الأولويات، لتتحول فكرة الإعمار داخل غزة من طرح مصري، إلى مبادرة عربية معترف بها دوليًّا.

القاهرة تضع "البديل العملي"

حدَّدت القاهرة موقفها بوضوح منذ بداية الأزمة، فمع تصاعد التحذيرات من خطط تهجير قسري أو إعادة توطين جزئي لسكان القطاع في سيناء أو دول مجاورة، قالت مصر "لن نسمح بتهجير الفلسطينيين، ولن نكون طرفًا في تصفية القضية"، قالها الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام العالم أكثر من مرة، ومعقبًا "تهجير الفلسطينيين ظلم لن نشارك فيه"، رافعًا شعارًا أصبح مرجعيةً لأي نقاش لاحق.

وأدركت مصر منذ البداية أن الرفض وحده ليس كافيًا؛ فمواجهة فكرة التهجير لا تكون بالخطابات فقط؛ فلابد من خطة عملية، وبالفعل طرحت البديل القابل للتنفيذ، عبر خطة عملية تضمن الأمن الإنساني والمعيشي للفلسطينيين، وتقطع الطريق على أي مشروعات تهجير أو تقسيم.

وبدأت الأجهزة المعنية، عبر وزارة الخارجية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة ووزارات التعاون الدولي والإسكان، في إعداد خطة مصرية متكاملة لإعادة إعمار غزة، تضم حلولًا هندسية وإنسانية واقتصادية عاجلة، وتستهدف في المقام الأول تمكين الفلسطينيين من البقاء في أرضهم.

خطة التعافي المبكر وإعادة إعمار غزة

حملت الخطة المصرية عنوان "خطة التعافي المبكر وإعادة إعمار غزة"، مستندةً إلى عدة محاور؛ أبرزها التعافي داخل القطاع؛ فكل مراحل البناء والإسكان والمشروعات الخدمية ستتم داخل غزة نفسها، دون أي نقل للسكان أو توطين خارجها، فتبدأ مرحلة عاجلة لإزالة الأنقاض وتأمين المناطق المأهولة، عبر فرق هندسية مصرية، بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وهيئات الإغاثة الدولية، ثم بناء وحدات سكنية مؤقتة فدائمة، مع إعادة تشغيل المرافق الأساسية كالكهرباء والمياه والمدارس والمستشفيات وشبكات الصرف.

ويتم تأسيس هيئة إدارة مؤقتة تضم ممثلين فلسطينيين وفنيين، عربًا ودوليين؛ لإدارة مشروعات الإعمار، دون أية وصاية سياسية.

وتتضمن الخطة المصرية إنشاء صندوق تمويل عربي دولي، تشرف عليه القاهرة وجامعة الدول العربية والبنك الإسلامي للتنمية؛ لتجميع المنح والتعهدات ومراقبة الإنفاق.

وضرورة ربط الإعمار بوقف شامل لإطلاق النار، يضمن أمن السكان ويتيح دخول مواد البناء والمساعدات الإنسانية.

وتحولت الخطة، بهذا الشكل، إلى مزيج بين العمل الإنساني والسياسي، وتحفظ وحدة الأراضي الفلسطينية وتمنح الأمل في مستقبل أفضل بعد سنوات الحرب والدمار.

اعتماد الخطة في قمة عربية

ودعت مصر، بعد صياغة الخطة ومناقشتها على مستوى وزراء الخارجية العرب، إلى قمة عربية طارئة في القاهرة خُصصت لمناقشة مستقبل القضية الفلسطينية بعد الحرب، وخلال القمة عرضت القاهرة وثيقة متكاملة بعنوان "رؤية مصر لإعادة إعمار غزة"، شملت الجدولَ الزمني المقترح، والتكلفة التقديرية، وآليات التمويل والإشراف.

وتبنى القادة العرب الخطةَ بالإجماع، وخرج البيان الختامي للقمة بنصٍّ صريح يؤكد "رفض أي محاولات لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم أو تغيير التركيبة السكانية في قطاع غزة، ودعم الخطة المصرية الشاملة لإعادة الإعمار داخل القطاع".

وبالفعل سبق أن قال أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، في مؤتمر صحفي، إن الخطة المصرية بشأن غزة تحولت إلى الخطة العربية بعد إقرارها، مشيرًا إلى أنها ترسم مسارًا جديدًا للأمن في غزة، وأنها خطة مرنة وقابلة للتطوير.

وأوضح بيان سابق لجامعة الدول العربية أن مجلس الأمن دعا إلى نشر قوات حفظ سلام في الضفة وغزة، وأن هناك إمكانية لإيجاد بديل واقعي لتهجير الفلسطينيين؛ وهو ما يدعم خطة مصر لإعادة الإعمار.

إعمار غزة.. البديل العربي للتهجير

وأعطى اعتماد القمة العربية الخطةَ شرعية سياسية وإقليمية، وجعلها مرجعيةً لأي تحرك دولي لاحق، وشكَّل هذا الموقف العربي الموحد رسالةً قويةً للولايات المتحدة وإسرائيل وأوروبا؛ مفادها أن البديل العربي عن التهجير هو الإعمار داخل غزة، تحت مظلة فلسطينية وعربية.

أوروبا في الصف المصري

وبعد القمة العربية التي تبنّت الرؤية المصرية، بدأت القاهرة جولة دبلوماسية مكثفة شملت باريس وبرلين وروما ولندن؛ للترويج لخطة الإعمار وكسب الدعم الدولي لها.

وكانت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى القاهرة، لحظة مفصلية في هذا المسار؛ إذ مثَّلت نقطة تحول في الموقف الأوروبي تجاه الأزمة. فقد أدرك ماكرون، عقب زيارته العريش ولقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن التهجير القسري ليس حلًّا، بل كارثة إنسانية وسياسية، وأن الطرح المصري القائم على تثبيت الفلسطينيين على أرضهم هو الخيار الواقعي الوحيد القادر على حماية الأمن الإقليمي.

وجاءت الزيارة لتؤكد تطابق الرؤية بين القاهرة وباريس بشأن ضرورة وقف النار الفوري، وإطلاق خطة إعمار عاجلة داخل القطاع، وهو ما مهَّد لإجماع أوروبي نادر حول الموقف المصري.

وبالفعل، أصدر وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، في خطوة لافتة، بيانًا مشتركًا أعلنوا فيه دعمهم الكامل للرؤية العربية بقيادة مصر، مؤكدين أن إعمار غزة داخل أراضيها هو السبيل الوحيد للحفاظ على الاستقرار ومنع تصاعد الأزمات الإنسانية.

وعبّر الاتحاد الأوروبي عن استعداده للمشاركة في تمويل مشروعات الإعمار، ووضع آليات رقابية شفافة لضمان توجيه الأموال إلى مشروعات مدنية تخدم السكان. وحتى الأمم المتحدة، عبر منسقها الإنساني للشرق الأوسط، أشادت بالخطة المصرية ووصفتها بأنها "الطرح الأكثر توازنًا وإنسانيةً"؛ لأنها تجمع بين سرعة الإغاثة واحترام السيادة الفلسطينية.

موقف واشنطن وتل أبيب

وأبدت الولايات المتحدة ترحيبًا حذرًا بالخطة المصرية، مؤكدة أنها "إطار مهم يجب تطويره بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية"، بينما شددت إسرائيل على ضرورة أن تكون أية عمليات إعادة إعمار مرتبطة بضمانات أمنية صارمة، ومنع تسرب مواد يمكن استخدامها في أنشطة عسكرية.

وواجهت القاهرة هذه التحفظات بدبلوماسية واقعية، مؤكدةً أن نجاح الإعمار مرهون بتوقف العمليات العسكرية وإطلاق مسار سياسي جديد يضمن عدم تكرار المأساة.

أهل غزة أصحاب القرار على أرضهم

وجاء ذلك أيضًا في وقت سعت فيه أطراف أخرى لطرح مقترحات "إدارة مؤقتة دولية أو مشتركة"؛ لكن مصر تمسكت بأن أهل غزة يجب أن يكونوا أصحاب القرار على أرضهم، وأن أي إدارة أو إشراف دولي يجب أن يكون مؤقتًا وتحت مظلة عربية- فلسطينية.

الفلسطينيون.. ترحاب وحذر

وعلى الجانب الفلسطيني، كان الترحيب بالخطة المصرية من قِبل الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها السلطة الوطنية وحركة فتح، معتبرةً إياها "الضمانة الوحيدة لبقاء غزة فلسطينية الهوية والسيادة".

وأبدت حركة حماس وبعض القوى تحفظات محدودة على فكرة "الإدارة الخارجية"؛ لكنها أكدت استعدادها للتعاون في إعادة الإعمار تحت إشراف عربي محايد، ما دامت لن تمس سيادة الفلسطينيين على أرضهم.

بينما الشارع الغزّي رحَّب بالموقف المصري واعتبره "تحولاً حقيقيًّا من مجرد دعم سياسي إلى فعل إنساني واقعي"؛ خصوصًا بعد وصول أولى القوافل المصرية التي بدأت إزالة الأنقاض وفتح الطرق في المناطق المدمَّرة.

تغيير قواعد اللعبة

ونجحت مصر، حسب مراقبين دوليين، في تحويل مسار النقاش بالكامل، فبدلًا من الحديث عن "أين سيذهب سكان غزة؟"، أصبح السؤال الجديد "كيف ستُعاد الحياة داخل غزة؟".. هذه النقلة السياسية غيَّرت حسابات الأطراف الكبرى، وفرضت مقاربةً جديدةً تستند إلى بقاء الفلسطينيين لا إخراجهم.

ورأى باحثون أن القاهرة استطاعت الجمع بين ثلاثة عناصر، نادرًا ما تجتمع، موقف مبدئي ثابت، وخطة عملية قابلة للتطبيق، وتحرك دبلوماسي نشط ضمن إجماع عربي.. وبهذا تحولت من دولة رافضة للتهجير إلى قائدة لمبادرة إقليمية تحظى بإجماع سياسي وإنساني.

تحديات المرحلة المقبلة

ورغم إيجابية الخطة وزخمها والقبول والإجماع بشأنها، فلا تزال هناك تحديات ضخمة تواجه تطبيقها على الأرض، تتمثل في ما يلي: تأمين التمويل، فالتكلفة الإجمالية المقدَّرة للإعمار تتجاوز مليارات الدولارات، وهو ما يتطلب التزامًا دوليًّا طويل المدى، وأيضًا البيئة الأمنية الهشة، فاستمرار التوترات الميدانية قد يعرقل دخول المعدات والمواد الإنشائية، وآلية الحكم والإدارة حيث ضرورة التوصل إلى توافق فلسطيني حول الهيئة التي ستشرف على الإعمار وتدير المساعدات، وأيضًا الرقابة الدولية، فبعض المانحين يشترطون آليات مراقبة دقيقة لتجنّب أي توظيف سياسي أو عسكري للمواد.

ورغم كل ذلك؛ تراهن القاهرة على أن توحيد الجهد العربي والدعم الأوروبي يمكن أن يضع الخطة على سكة التنفيذ في أقرب وقت؛ خصوصًا بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار،وبعد إطلاق برامج تمهيدية في شمال ووسط القطاع.

من الخط الأحمر إلى الخطة العربية

وتوازت هذه الرؤية مع جهود مصرية حثيثة لوقف إطلاق النار، قادتها القاهرة من شرم الشيخ مدينة السلام؛ حيث جمعت بين الأطراف المعنية والداعمين الدوليين في مشاورات ماراثونية هدفت إلى تثبيت التهدئة وفتح الطريق أمام الإعمار. فكانت مصر تتحرك على مسارَين متوازيَين: إنساني عاجل لوقف نزيف الدم وإنقاذ المدنيين، وسياسي استراتيجي يضع تصورًا لما بعد الحرب، يضمن استقرارًا دائمًا لا هدنة مؤقتة.

وتُحسب لمصر قدرتها، في نهاية المطاف، على تحويل الخط الأحمر إلى خطة عمل واقعية، من تصريح رئاسي في ذروة الصراع، إلى وثيقة عربية معتمدة في قمة رسمية، استطاعت القاهرة أن تغيِّر الاتجاه وتكتب سطرًا جديدًا في تاريخ تعامل المنطقة مع أزمات غزة، فبينما كان العالم منشغلًا بسيناريوهات التهجير والممرات الإنسانية المؤقتة، كانت مصر تكتب سيناريو مختلفًا عنوانه "الإعمار داخل الأرض.. لا الخروج منها"، وأثبتت التجربة المصرية أن القيادة تكون بالقدرة على تقديم البديل الإنساني والسياسي القابل للتطبيق، وهو ما جعل خطة إعمار غزة المصرية نقطة تحول حقيقية في مسار الصراع، ودرسًا في الدبلوماسية العربية الفاعلة.

مصراوي المصدر: مصراوي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا