في زمنٍ تتسارع فيه الخطى وتضيع الملامح بين صخب اليومي وضغط العابر، يطل علينا المخرج عادل حسان من قلب المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية كمن يؤمن أن الذاكرة ليست رفاهية، بل شرط من شروط البقاء، فمنذ تولّيه إدارة المركز، لم يكن هدفه إدارة مؤسسة رسمية فحسب، بل إحياء روحٍ غابت خلف الغبار، واستعادة ذاكرةٍ فنيةٍ ظلت تصرخ في صمتٍ طال أمده.
لقد أدرك عادل حسان أن الفنون الثلاثة التي يضمها المركز، وهي المسرح، والموسيقى، والفنون الشعبية ليست مجرد ملفات منفصلة في أرشيف الدولة، بل هي وجوه لروح واحدة، تمثل الوجدان المصري في تنوعه وثرائه، فراح يعيد رسم الخريطة الثقافية للمركز بعين الفنان الذي يرى ما وراء الزمن، وبعقل الإداري الذي يدرك أن التنظيم لا يقل أهمية عن الإبداع.
من أولى خطواته اللافتة أنه اختار أيامًا على مدار السنة لتصبح علامات دائمة تحتفي بالفن المصري في تجلياته المختلفة، فحدد يومًا للموسيقى، وآخر للمسرح، وثالثًا للفنون الشعبية، كأنما أراد أن يجعل من العام تقويمًا فنيًا تنبض أيامه بإيقاعات الإبداع، واختار الخامس عشر من سبتمبر ليكون اليوم المصري للموسيقى، يومًا تُرفع فيه الراية لكل نغمة صادقة عزفت وجدان هذا الشعب من سيد درويش إلى عبدالوهاب، ومن بليغ إلى عمار الشريعي، ومن الأجيال القديمة إلى الأصوات الجديدة، ثم جاء الثامن عشر من مارس ليكون اليوم المصري للفنون الشعبية، احتفاءً بتلك الجذور العميقة التي تمتد من النوبة إلى الصعيد، ومن الدلتا إلى سيناء، حيث تتشكل ملامح الشخصية المصرية في غنائها ورقصها وحرفها وأهازيجها.
أما المسرح، عشقه الأول ومجاله الأصيل، فقد حظي بنصيبٍ وافر من اهتمامه، فأنشأ مؤتمرات ومسابقات وفعاليات أعادت له حضوره الحيوي، ومن بينها مؤتمر "نحو سياسة وطنية لتطوير المسرح المدرسي" الذي فتح بابًا مهمًا للنقاش حول المسرح كأداة للتربية الجمالية وتكوين الوعي لدى الأجيال الجديدة، ذلك المؤتمر لم يكن مجرد فعالية، بل نداءً لمستقبلٍ يرى في الخشبة فصلاً من كتاب التربية الوطنية.
ولأن الذاكرة الفنية لا تحفظ نفسها إلا بالبحث والتوثيق، أطلق عادل حسان مسابقة " سيد درويش للدراسات الموسيقية " في دورتها الأولى، لتكون منبرًا علميًا يُعيد قراءة تاريخنا الموسيقي بعين الباحث لا السارد، وكانت باكورتها تحت عنوان "دور زكريا أحمد في المسرح الغنائي المصري".
، وبهذه الخطوة، فتح المركز بابًا جديدًا أمام الباحثين والنقاد لاستعادة رموزنا بروح العصر، وربط التاريخ بالراهن، لتبقى الموسيقى حية في الوجدان لا في المتاحف فقط.
وفي كل مناسبة من تلك الأيام التي جعلها علامات في التقويم الثقافي، كان حسان حريصًا على تكريم القامات الفنية في مجالاتهم، مؤمنًا أن التكريم ليس مجرد درعٍ أو شهادة، بل رسالة احترام ووفاء، ورسالة وعيٍ للأجيال الجديدة بأن الفن الحقيقي لا يضيع، وأن المبدعين الكبار يستحقون أن تظل أسماؤهم منقوشة في ذاكرة الأمة.
ولأن الثقافة فكرٌ ومعرفة قبل أن تكون عرضًا أو لحظة على الخشبة، أقام داخل المركز معرض الزمالك للكتاب، ليضيف بعدًا جديدًا للأنشطة الفنية، ويحوّل مقر المركز إلى فضاء للتفاعل بين المبدعين والقراء، حيث تتجاور الكتب مع الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية فى حوارٍ متكامل، يعيد إلى الأذهان روح "الثقافة الشعبية" بمفهومها الأصيل: الثقافة التى تنبع من الناس وتعود إليهم.
ما يقوم به عادل حسان ليس مجرد سلسلة من الفعاليات أو أنشطة موسمية، بل مشروع وطني متكامل لحماية ذاكرة مصر الفنية، في زمنٍ تتغير فيه الأولويات وتبهت فيه الملامح، قرر أن يجعل من الفن خريطةً للهوية، ومن الذاكرة جسدًا حيًا يتنفس ويقاوم النسيان، ولقد أعاد للمركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية هيبته ودوره كبيت للذاكرة الثقافية المصرية، ومؤسسة تحمل رسالة لا تقل أهمية عن أي وزارة من وزارات الوعي.
إنه لا يكتفي بأن يُدير، بل يفكر، ويبتكر، ويمنح المعنى لما يديره، ومن ثم، يمكن القول إن المركز في عهده تحول من أرشيفٍ للتاريخ إلى مختبرٍ حيٍّ للذاكرة، ومن مبنى إداري إلى فضاء للروح، حيث تلتقي الأجيال ويُعاد وصل ما انقطع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
فمن يعرف عادل حسان يعرف أنه لا يؤمن بالحدود بين الفنون، بل يراها أجنحةً لروحٍ واحدةٍ تحلق باسم مصر.