الأنماط التاريخية في إدارة أزمات الشرق الأوسط تبدأ من زمن محمد علي باشا؛ ذلك النمط التوسعي المصري أَخضعَ المنطقة لفهم غربي مفاده أن مصر «لا بد أن تُدير لها أزمات» أو تُحيط بها مشكلات تمنعها من بلوغ مراكز القوة. هذه لعبة قديمة: الحملات الصليبية لم تكن من الأساس دفاعًا عن كنيسة القيامة، أو السيطرة على مقدسات دينية، بقدر ما كانت مشروعًا توسعيًا لنهب موارد الشرق، وقد طُوِّعَ الوازع الديني ليغطي أهداف اقتصادية وسياسية؛ ونفس المنطق وُظِّف لاحقًا في مشروع توطين اليهود كأداة وظيفية، وتكوين جماعات إسلامية مُستغلة لتحقيق مصالح قوى خارجية.
الدلالة التاريخية، مَنْ يسيطر على مصر يسيطر على «مربط الفرس» في المنطقة، لذا سعت القوى الكبرى عبر أدوات مباشرة وغير مباشرة إلى تحجيم مصر داخليًا وإقليميًا. لكن التاريخ أظهر أن مقاييس القوة قابلة للانقلاب؛ وبفضل ردود فعل داخلية وإقليمية—ورحمة الله—جاءتنا موجات مرتدة أنهت محاولات تفكيك التأثير المصري، رغم أن محاولات التطبيع التي بدأت 2020 هدفت لإخراج إسرائيل من تبعيتها المطلقة للغرب عبر خلق أذرع إقليمية جديدة تخدم مصالحها بعيدًا عن واشنطن ولندن.
حيث جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للأكاديمية العسكرية لم تحمل مجرد كلمات بل حملت خطابًا قياديًا واضحًا: «محدش يطلب مني أراهن بحياة المصريين وأدخل المساعدات لغزة بالقوة». تلك الجملة وجدت صدى شعبيًا وسياسيًا لأنّها تترجم قواعد صناع القرار في القاهرة: الأولوية حماية المواطنين والحفاظ على مؤسسات الدولة. والجيش أداة لحماية الشعب وسيادته لا متنفساً لسياسات انتقامية لا تخدم الأمن القومي. هي عقيدة مصرية راسخة: السيادة والمصلحة الوطنية قبل أي اعتبارات أخرى، والدعم الإنساني يقدَّم وفق قواعد تحفظ الدولة وجيشها من الانزلاق إلى معارك بالوكالة.
المشهد الدولي بدوره يبدو تعقيدًا. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يقدّم نفسه كإمبراطور يسعى لتشكيل العالم وفق مصالحه. نرى في موقفه المتصلب من الطاقة الخضراء ليس مجرد خلاف اقتصادي، بل إدراك أن هيمنة الولايات المتحدة مهددة بتقدم الصين في ملف الهيدروجين الأخضر. هذه الطاقة تمنح دولًا مثل مصر فرصة لتجاوز معضلة غياب الموارد التقليدية، وبناء صناعات ومدن عصرية تعتمد على مصادر نظيفة. بينما ينحاز ترامب لصناعة النفط والفحم، تمضي مصر في خطوات جادة لتوطين هذه التكنولوجيا، ما يفتح بابًا لتوازنات جديدة في الاقتصاد والسياسة معًا. خيارات الإدارة الأمريكية الحالية في دعم الوقود الأحفوري أو التباطؤ في الانتقال للطاقة النظيفة ليست مجرد خيار اقتصادي، بل لها انعكاسات جيوسياسية على قدرة دول مثل الصين ومصر على كسب مساحات نفوذ جديدة في خريطة الطاقة العالمية.
في المقابل، خطاب بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة جاء باهتًا. زعيم إسرائيل الذي هرب لأسابيع خشية الملاحقة، عاد ليكرر سردية “الدولة المحاصرة”، ويعيد فتح ملف إيران، رافضًا الاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتبارها تهديدًا وجوديًا. لكن الواقع أن الاعتراف الدولي المتزايد بفلسطين يضع إسرائيل في مأزق استراتيجي، ويكشف تراجع مسار التطبيع الذي طالما راهن عليه نتنياهو. فبينما يسعى لتسويق صورة القوة، تزداد هشاشة البيئة المحيطة به، ويظل عالقًا في إدارة أزمة لا يملك حلولًا طويلة الأمد لها.
الاعتراف المتسارع من دول أوروبية وعدد كبير من الدول بدولة فلسطين يغير من قوانين اللعبة؛ لم يعد الاعتراف شعارًا رمزيًا بل أداة شرعية تضغط لإعادة صياغة الحل السياسي. وصول أكثر من 150 دولة للاعتراف — رقم له وقع سياسي — يضع إسرائيل أمام معضلة استراتيجية: كيف تدير واقعًا دوليًا يعترف بحقّ دولة فلسطينية بينما تستمر في عمليات عسكرية واسعة؟ هنا تظهر أهمية الدور المصري في السياق الإقليمي كـ«مُسهِم شرعيّ» في الدفع نحو حلول لا تُبنى على الإقصاء أو التهجير.
هنا تبدو أهمية القرار المصري بعدم المشاركة في قمة ترامب الأخيرة بنيويورك. الرسالة واضحة: مصر لا تبحث عن حضور بروتوكولي أو مسكنات سياسية، بل عن حل حقيقي يوقف الحرب ويمنع التهجير. غياب الرئيس السيسي ليس موقفًا انسحابيًا بل تأكيد على أن القاهرة لن تمنح غطاء سياسيًا لأي صفقة مسكنة أو محاولات لفرض حلول على حساب مصر أو حساب الفلسطينيين.
هذا الثبات يكتسب بعدًا تاريخيًا عند ربطه بما جرى قبل 47 عامًا. ففي سبتمبر 1978، وقّع السادات اتفاقية كامب ديفيد، تمهيدًا لمعاهدة السلام التي استعادت سيناء كاملة. يومها اعتُبر القرار مغامرة، لكنه كان في جوهره رؤية استراتيجية: الحرب وسيلة لتحقيق السلام وضمان السيادة. واليوم يواصل السيسي النهج ذاته، بتثبيت معادلة الردع العسكري والتنمية الداخلية في آن واحد، لتبقى مصر عصية على محاولات الحصار أو الابتزاز.
في الملف الاقتصادي–الاستراتيجي، ملف الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر يدخل الآن كمحور تغيير للقوة العالمية. تحوّل الدول الكبرى نحو هذه التكنولوجيا يعني إعادة توزيع قوة التصنيع والهيمنة الاقتصادية — وحال نجاح دول مثل مصر في توطين هذه الصناعة فإن ذلك يمنحها فرصة نفوذ جديدًا على مستوى المنطقة، ويضع واشنطن أمام قلق حقيقي من إضعاف ميزة الطاقة التقليدية التي كانت تحتكرها القوى الغربية لسنوات. هذا الصراع على التكنولوجيا والموارد يصبّ في إطار تنافس أوسع بين الولايات المتحدة والصين ودول صاعدة أخرى.
الأحداث بعد 2011 أثبتت أن الفوضى كانت تهدف لإسكات مصر أو تقسيمها. لكن ثورة 30 يونيو 2013 أعادت الدولة إلى مكانها الطبيعي. مصر لم تكتفِ بدحر الإرهاب في سيناء، بل رفعت شعار “لا للتهجير” سواء في كافة الملفات التي وضع ملف التهجير امام الحلول في غزة أو ليبيا أو السودان أو ملف سد النهضة، مع ذلك استطاعت مصر فرض رؤيتها وموقف في تحيد أطراف إقليمية وأدوات وظيفية، ودعم ومساندة في بناء الجيوش الوطنية، وبناء على التطورات في الإقليم، تتحرك القاهرة بحكمة لبناء شراكات مع أطراف إقليمية ذات تأثير.
الاعتراف الدولي المتصاعد بدولة فلسطين يمثل لحظة تاريخية جديدة. موقف القاهرة كان محوريًا في الحشد لهذه اللحظة، ومعه دعم فرنسي لافت بقيادة ماكرون. الاعتراف ليس تنازلًا بل تثبيت لحقيقة أن إسرائيل دولة احتلال، وأن مشروعها الصهيوني يفقد مبرراته بمرور الوقت. الخطاب الشعبوي الذي يرفض الاعتراف بحجة الحفاظ على الحقوق لم يعد مقنعًا، فالمسألة لم تعد مجرد نزاع على أرض، بل إقرار دولي بواقع تاريخي.
المشهد الراهن هو ساحة تفاوض على مآلات ما بعد الحرب: هناك تناقض واضح بين رؤية إسرائيل وحلفائها التقليديين من جهة، ورؤية قوى غربية أخرى تحاول إدارة الأزمة بآليات مختلفة من جهة أخرى. صراع الروايات هذا يظهر في محاولات فرض «تهجير ناعم» أو حلول ترضي المصالح دون حل جذري، وفي خلافات بين واشنطن وتل أبيب حول من يتسلم زمام إدارة القطاع؛ بينما بريطانيا لجأت لسياسات اعترافية لإعادة دورها الوسيط، وإعادة المشهد للخطة الأولى ان الهدف تصدير الأزمات، وإدارة الصراع، وأمريكا تحت قيادة ترامب توازن بين مصالحها الاستراتيجية مع روسيا والصين وحاجة إطفاء جبهات سريعة، وحتى إمكانية تحويل قطاع غزة إلى «ريفيرا» أمريكية، بشراكة بريطانية.
مصر، في قلب هذه اللعبة، تملك أدوات الردع العسكرية والدبلوماسية والشرعية؛ ولذلك تكرر مبدأها: لا تهجير، لا مساومة على السيادة، واستثمار الفراغ الدولي لصياغة حلول تحفظ الأمن والمصالح. لذلك الجيم السياسي الآن معقّد وحساس، ونهايته قد تكون إما تفاوضًا عقلانياً يضع القاهرة لاعبًا محوريًا في صياغة الحل، أو تصعيدًا يفرض على الجميع حسابات جديدة — ومصر جاهزة بكل قدراتها، لكن السياسية لا تزال طويلة ومطوَّلة.
مصر اليوم تواصل معركتها التي بدأت منذ عقود: الدفاع عن السيادة وصياغة المعادلة الإقليمية. من كامب ديفيد إلى حرب غزة، الثابت أن القاهرة لا تفرط في دم أبنائها، لا تساوم أو تتفاوض على حقوقها أو سيادتها، وتعرف كيف تحمي مصالحها، وتبقى قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص. مصر لا تُجرّ إلى معارك الآخرين، لكنها تظل حجر الزاوية الذي لا يكتمل أي حل بدونه.