فى قلب معبد الأقصر، وأمام الأعمدة التى تحمل تاريخ آلاف السنين، صعد خالد النبوى إلى خشبة مسرح مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الرابعة عشرة (يناير 2025)، ليتسلم تكريمه عن مشوار امتد من القاهرة وصولًا إلى هوليوود، وبابتسامة مميزة حيّا الجمهور، ثم التفت ليبارك لابنه نور على نجاح فيلمه "الحريفة" الذي تجاوز حاجز المئة مليون جنيه إيرادات، في إنجاز لم يصل إليه هو من قبل، وإن كان قد اقترب منه ــ أو تجاوزه بحساب القيمة الشرائية للجنيه وقتها ــ في أفلام مثل "إسماعيلية رايح جاي"، لم يخفِ النبوي فخره بابنه، ولم يتردد في الاعتراف بأنه "يتعلم منه"، قبل أن يلمّح بروح التحدي المعتادة لديه أنه لا يزال مستعدًا لمغامرات جديدة، ومنافسة نجله نفسه، تلك الروح نفسها ــ الميل للمخاطرة والتجريب ــ كانت سر تألقه الدائم، وإن كلّفته أحيانًا التراجع عن صدارة المشهد والغياب لسنوات، قبل أن يعود بقوة عبر الدراما التلفزيونية ليجدد صلته بالجمهور.
الذهب لا يصدأ مهما تراكم عليه غبار السنوات، لا يعتريه التغير يوماً، ولا يصيبه الصدأ أبدا، يوما بعد يوم يزداد رونقاً وبريقاً وصفاءً ولمعاناً، وخالد النبوي أحد هؤلاء الفنانين الذين كلما مر الزمان يزداد ألقا وتوهجها، نجوميته لا تخفُت، قادر دائمًا على إبهار المشاهدين، ممثل فريد بمعني الكلمة تميز بحضوره القوي وإحساسه المرهف ونظراته المعبرة وإشاراتها الدالة. صوت قوي معبر ذو نبرات مميزة ومخارج ألفاظ سليمة، كل هذا فضلًا عن عقله المتفتح والمثقف الذي زاده جمالًا وجاذبية، لنكون أمام مزيج متكامل بين الموهبة الفنية التي لا مثيل لها والشخصية التي يتمنى أن يكونها عليها أي فنان.
خالد النبوي لا يشبه أحدًا، فقد خلق لنفسه طبعة خاصة، ينسج لكل شخصية روحًا جديدة تجعلها جزءًا حيًا في مخيلة الجمهور، محوّلًا كل دور إلى لوحة فنية تعكس صراعات النفس البشرية، لعب خالد النبوي طوال مشواره كل الألوان التمثيلية، فاجتذب قلوب الجمهور، واستطاع أن يكون "جوكر" يؤدي دوره المكتوب ببراعة في الأداء، وإجادة في توظيف أدواته كممثل، فقدم أدوار: الضابط، واللص، والشريف، والمحامي، والأمير، والفلاح، والصعلوك، أنماطًا كثيرة من المجتمع، ارتدى ثيابها وقدم تجاربها بصدق شديد، وأدخلنا إلى عوالمها من خلال سيطرته الكاملة على أدواته وانفعالاته، مما جعل الجمهور يتعايش مع هذه الشخصيات ويتأثر بها، بل ويخلق مشاعر مختلفة معها.
لم يكتفِ خالد النبوي، بموهبته، لكنه أصقلها بالعلم، من خلال دراسته بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وبثقافة ومعرفة واسعة جعلته فنانا استثنائيا، وعيه الكبير جعله قدرا على الوفاء بمتطلبات كل يدور يقوم بتقديمه، وهو ما يتطلب قراءة واطلاعًا كبيرًا، مما يجعلنا نقف أمام فنان استثنائي، متعدد القدرات الإبداعية، أفنى عمرًا طويلًا في محاولات فنية مختلفة، وتضعنا كذلك أمام فنان صاحب رؤية وموقف من القضايا الاجتماعية والسياسية، اختار أدواره خاصة في بداية مشواره بعناية.
أطل علينا خالد النبوي ، لأول مرة من خلال أدوار صغيرة، وكانت أول أعماله هي سهرة تليفزيونية "بيت أزياء ماما"، وبعدها فيلم "ليلة عسل" 1990 مع المخرج محمد عبد العزيز، وتعرف عليه الجمهور بشكل أكبر في "المواطن مصري" مع مُعلمه في المعهد المخرج الكبير صلاح أبو سيف، ليخطفه بعدها المخرج العالمي يوسف شاهين الذي أفسح له المجال، وراهن على موهبته، ورسم له مستقبلاً واعداً في عالم التمثيل، بدأها بـ "القاهرة منورة بأهلها" 1991، ومن ثم انطلقت نجومية "النبوي"، وتصدّره المشهد السينمائي، وأعطى له أدوار البطولة في عدة أفلام من إخراجه مثل "المهاجر" 1994 و"المصير" 1997، وتميز بحضوره الطاغي على الشاشة، حتى لو ظهر في مشهد واحد، وبدا كأنه يسابق الزمن ليحقق انتشاره الفني، ويترك بصمته الخاصة، وملاحقة دوران العجلة السينمائية.
امتلك خالد النبوي منذ بدايته، أداءً استثنائيًّا، مبدعًا ومغامرًا في أعماله، ففي أول بطولاته "المهاجر" 1994، وهو الدور الذي حمل قدرا كبيرا من المغامرة والجرأة في تقديمه، اعتمد خالد النبوي على التكيف الحقيقي الذي يقوم على المعايشة الصادقة، مبتعدا في أدائه قدر الإمكان عن القوالب والكليشيهات الجاهزة، ومن خلال شخصية "رام" أو (النبي يوسف ابن يعقوب)، أظهر معايشته الكاملة للشخصية عبر الصوت الخاص بها، مقدما صورة أو هيئة تخصه هو دون غيره، وكان صوته قادر على أن يعبر باللغة التي تناسب الشخصية وانفعالاتها التي يمليها الموقف الاجتماعي والنفسي والطبيعة الانفعالية وتفاعلها جميعا وفقا لإيقاع العمل بشكل عام.
في أدواره التاريخية بشكل عام، لم يقع النبوي في فخ "التقليد"، بل حاول أن يكون صادقًا ومنسجمًا، فالممثل المبدع لا يقدم كل ما حدث لشخص معين، وإنما يختصر ما هو أساسي لفهم الشخصية. لذلك رأيناه في أدوار مثل (ملا) في فيلم ملكوت السماء 2005، و(طومان باي) في ممالك النار 2019، و(الإمام الشافعي) في رسالة الإمام 2022، يغوص بعمق في تفاصيلها. وبحكم خلفيته المسرحية، اجتهد على مستوى الابتكار لا الاستعراض، محاولًا إعادة تأويل المسار التاريخي لهذه الشخصيات بأسلوب شيق يقوم على العمق الدرامي وإبراز الأبعاد النفسية والتلوين الصوتي في الأداء، وهو ما يشير إلى حساسيته الفنية وفهمه لأبعاد كل شخصية. وقد لخّص النبوي نفسه هذه الفلسفة بقوله: «الممثل جزء من حدوتة، حدوتة من الواقع تمس الناس أو حدوتة متخيلة تمس خيالهم وتجعلهم قادرين على التخيل»، مشددًا على أن أدوات الشخصية لا بد أن تكتمل أمام الممثل كي يعيشها. واستشهد بمثال من كواليس رسالة الإمام حين قال إنه لم يجد شخصية الإمام الشافعي إلا بعد أن شاهد شيخًا سبعينيًا يُدعى "عم زكريا" وهو يربط عمامته، عندها شعر أن الشخصية اكتملت أمامه بكل هيبتها.
لكن هذا الأداء لم يمنع أن تُوجَّه إليه أحيانًا اتهامات بالمبالغة أو "الأوفر" في التعبير الانفعالي، غير أن هذه المبالغة كانت في كثير من الأحيان مبررة داخل السياق الدرامي الذي تطلب تضخيم المشاعر وتكثيفها لتصل إلى المشاهد، خاصة وأنه كان يتعامل مع شخصيات تاريخية أكبر من الحياة العادية بطبيعتها.
ورغم حصوله على البطولة مبكرًا، لم ينشغل "النبوي" بفكرة النجم الأوحد، وكان الأهم له هو تأثير الدور الذي يقدمه في العمل الفني. فنجاحه ــ في قناعته ــ لا يُقاس بالبطولة المطلقة، بل بالتأثير الدرامي وأهمية الشخصية التي يقدمها. لذلك نجده بعد المهاجر يتراجع إلى الأدوار الثانية أو البطولة الجماعية في أعمال مثل إسماعيلية رايح جاي (1997)، وفتاة من إسرائيل (1999)، وحديث الصباح والمساء (2001)، مما يثبت أنه أحد أكثر نجوم جيله ذكاءً في اختيار أدواره، إذ مال لتقديم أعمال خالدة في الذاكرة الفنية بغض النظر عن مساحة الدور، مستغلًا إياها في تكوين قاعدة جماهيرية عريضة.
غير أن هذه القناعة نفسها أثرت عليه في مراحل لاحقة، فدفع ثمنها على مستوى النجومية والشباك، إذ خاض تجارب سينمائية لم تحقق القبول الكافي لدى الجمهور، وكانت سببًا في تراجعه رغم انطلاقته الكبيرة جدًا مقارنةً بأبناء جيله الذين تأخر بروزهم لكنهم اقتنصوا النجومية وحافظوا عليها.
لكن هذا أيضًا، إن أثبت شيء، فهو النبوي وقدرته على التكيف مع مختلف الشخصيات، والتنقل بين الأدوار المتناقضة بمرونة عالية، ففي فيلم الديلر (2010) قدّم شخصية "علي الحلواني" بأسلوب شعبي واقعي، فلم يكن مجرد شخصية شريرة أو مشاغبة، بل تجسيدًا لإنسانية معقدة تمزج بين التمرد والعفوية. وقد أوضح النبوي في تصريحات تلفزيونية عن تحضيره للدور: «ركزت على تقديم الشخصية كإنسان طموح بدلاً من تصنيفها كشريرة، واعتمدت على المعايشة الكاملة لفهم دوافعها وتصرفاتها». هذا الأداء العميق جعل الشخصية تكسب القلوب وتترك انطباعًا قويًا، ليؤكد على دقة اختياراته وقدرته على تجسيد مختلف الأبعاد الإنسانية.
حرص النبوي الكبير على التنوع الكبير في أدوارها سواء بالتنوع بين التراجيديا أو بعض الأدوار الكوميديا أيضا، أو بالتنوع في تجسيد الشخصيات التي تتسم تصرفاتها بالطيبة بصفة عامة أو في تجسيد بعض الشخصيات التي يمكن وصفها بالشخصيات الشريرة. ومع تقدمه في العمر، تحول إلى دور الأب، وهو تلك التناقضات، ونقلها خالد النبوي برهافة وذكاء، وبانتقالات صعبة داخل المشهد الواحد أحيانا، من الجدية إلى الكوميديا، ومن الهدوء إلى الانفعال والصخب، ومن إثارة الاستفزاز إلى إثارة التعاطف، مشخصاتي ممتع الأداء.
ورغم هذا التنوع والنجاحات، ما زالت السينما تحمل لخالد النبوي تحديًا خاصًا. فبعد عودته القوية عبر الدراما منذ شخصية طومان باي في "ممالك النار"، لم تحقق محاولته الأخيرة بفيلم "أهل الكهف" عن نص توفيق الحكيم الصدى الجماهيري المُنتظر، مقارنة بأعمال سابقة مثل "الديلر" التي لاقت قبولاً واسعًا. وهنا يظل السؤال: هل يعثر النبوي على الدور السينمائي الذي يعيد حضوره الاستثنائي على الشاشة الكبيرة، كما فعل في بداياته، أم تبقى الدراما ملعبه الأقرب في هذه المرحلة؟
في النهاية، يبقى خالد النبوي واحدًا من الفنانين الذين يمتلكون طاقة معنوية خاصة قادرة على اجتذاب الجمهور، إذ ينجح حتى في أبسط أفعاله أن يمنحها بريقًا مختلفًا. ورغم تقديمه أعمالًا نالت نصيبها من الإيرادات، ظل يبحث عن القيمة قبل المكسب. ومنذ بداياته المسرحية امتلك رؤية فنية واضحة، وحاول أن يجعل اختياراته متسقة مع قناعاته حول جوهر الفن كفعل وعي ورسالة جمال ومتعة. وكان دائمًا من القلائل الذين تشكّل هموم الناس جزءًا من همومهم، فحملها بصدق وسعى لنقلها إلى الشاشة وإيجاد حلول لها.
واليوم، وبينما يحتفل النجم خالد النبوي بعيد ميلاده التاسع والخمسين، يقف متأملًا مشواره بين المحلية والعالمية، بين نجاحات كبيرة واخفاقات بارزة، يبدو كأنه المهاجر الدائم بين الأدوار والأزمنة، بين التاريخ والواقع، بين الأب والابن. وربما سرّ بقائه حتى الآن أنه لم يتوقف عن التجريب، ولم يتنازل عن إيمانه بأن الفن فعل وعي، ورسالة جمال لا تشيخ، وكان تكريمه في مهرجان الأقصر في بداية العام تتويج رمزي لرحلة طويلة، حمل فيها تراث يوسف شاهين، ودليلًا على بصمته في السينما المصرية والعالمية، ثم سلّم الراية معنويًا لابنه نور، ليؤكد أن الهجرة بين الأجيال جزء من الحكاية.