آخر الأخبار

جمال عبد الناصر يكتب: رشدى أباظة تحدّى النمط وجسّد الرجولة كمعنى جمالى

شارك

يُطلّ رشدي أباظة من ذاكرة السينما المصرية لا كوجه وسيم، ورمز لـ"الجنتلة"، بل أراه فنانا لم تكن وسامته سوى العتبة الأولى إلى عمق أكبر، فهو حالة فنية رسخت مفهومًا جديدًا للتمثيل الرجولي القائم على الحضور الطاغي والانفعال الداخلي المضبوط.

ربما كانت الفطرة مفتاحا لحب الناس له منذ الظهور الأول في السينما، فهو لم يحتج إلى صراخ أو مبالغة ليقنع، بل كان يمتلك تلك الهالة النادرة التي تجعل من الصمت فعلًا دراميًا، ومن النظرة جملة تمثيلية كاملة.

رشدي أباظة قدم خلال مسيرته عشرات الشخصيات، لكنك لا تجد فيها تكرارًا أو ارتباكًا، لأن كل دور عنده كان كائنًا حيًّا مستقلًّا، له ملامحه الخاصة، حتى وإن ارتدى نفس البذلة وربطة العنق، وتتجلى قيمته الحقيقية في كونه الممثل الذي جسّد الرجولة كمعنى جمالي وإنساني، لا كقالب جاهز، فكان البطل والعاشق، الفارس والمجرم، رجل السلطة ورجل الهامش، دون أن يفقد في أي دور منها احترامه لمهنة التمثيل أو للجمهور.

رشدي أباظة لم يكن فقط "دنجوان الشاشة"، بل كان فنانًا كاملًا، يفهم جسده كما يفهم الجملة الحوارية، ويستخدم حضوره كما يستخدم أدواته، لهذا بقي في الذاكرة ممثلًا استثنائيًا، لا تكرره الأجيال، ولا تختصره صورة.

مصدر الصورة
رشدي اباظة

أحبه جدا في فيلم "في بيتنا رجل" فقد كانت الصلابة المنضبطة لرجل الأمن تظهر بلا افتعال، وفي "الزوجة رقم 13" يتحول إلى زير نساء يرسم خفته على الشاشة كما يُرسم الكاريكاتير دون أن يسقط في المبالغة، بينما تتجلى أعقد ملامحه في "الرجل الثاني"، حيث الأداء المشوب بالتهديد والفتنة، والتوتر الهادئ الذي ينبع من عينيه لا من قبضته، وفي "غروب وشروق" يصبح الصمت أداته الكبرى، والعين التي تراقب وتنهار دون بكاء هي مجمل تعبيره.

لم يكن رشدي أباظة ممثلًا أكاديميًا بقدر ما كان فنانًا بالفطرة، يعرف متى يتحرك ومتى يتوقف، متى يهمس ليُفهم ومتى يصمت ليُرعب، لذلك ظلّ، حتى بعد رحيله، النموذج الأكثر اكتمالًا لما سمّاه الجمهور: "الراجل اللي مفيهوش غلطة"، ولم يكن بطلًا وسيمًا فقط، بل وسامة تمثيلية تملك من الذكاء ما يجعلها تؤدي أدوار الفتوة والمثقف والعاشق والقاتل بكثافة واحدة.

حاز حب النساء لا بملامحه فحسب، بل بما أضفاه على الرجولة من حنان مكبوت وهدوء مريب ونُبل غامض، وفي حضوره، بدا الرجل حاميًا ومربكًا في آن، عاشقًا لا يتوسل، وغاضبًا لا يهين، لذلك لم يكن محبوبًا فقط، بل كان مرغوبًا ومهابًا، واستثنائيًا بما يكفي لتتمنى كل امرأة أن تكون بطلة أمامه ولو لمشهد.

حين تراه على الشاشة، لا تصدّق أنه يمثل، لأن تمثيله لم يكن مرئيًا كحرفة، بل محسوسًا كطبيعة، وصوته يحمل اقتراحًا لا أمرًا، نظرته تقترح سردًا لا حوارًا، ومشيته تصلح كمدخل لمشهد من غير كلام، ولم يكن يكرر نفسه رغم أن ملامحه لا تتغير، كان يُغيّر كل شخصية من الداخل، كأن كل رجل فيها له لسان ودم ونبض خاص.

في ذكرى ميلاده، لا نرثيه، بل نعيد اكتشافه، لأن الرجال كثيرون، لكن من جعلوا الرجولة فنًا قلائل، ورشدي أباظة أولهم.


شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا