أتذكر في 2001 أي قبل 24 عامًا، أن زميلى المصور الصحفى الشهير حسن عبد الفتاح حكى لى بل وكتب عن رحلته إلى العراق قبل الغزو الأمريكي، وبالتحديد عن مقهى السيدة أم كلثوم هناك لصاحبها "عبد المعين الموصللى"، كان هناك في بغداد عاصمة الرشيد وبالتحديد في حى المربعة وهو حى يتجمع فيه أغلبية المصريين الذين يعملون في العراق مع أشقائهم من أبناء الشعب العراقى، وهناك وأنت تسير في هذا الشارع تجد صوت سيدة الغناء العربى أم كلثوم يجلجل بأحلى الأغانى، كما تجد صورتها وهى تشدو وتمسك بالمنديل الشهير وهى تتصدر مقهى أم كلثوم في بغداد وهو أشهر مقهى في العراق وقتها، وجميع الذين يأتون لسماع صوت سيدة الغناء العربى، خاصة الأغانى النادرة التي غنتها في بداية مشوارها الفني.
وصاحب هذا المقهى الذى ينبعث منه صوت أم كلثوم كما ذكرنا هو الحاج "عبد المعين الموصللى"، وقد تم افتتاحه في بغداد عام 1964 أي منذ 61 عامًا والمقهى وقتها كان كما هو منذ هذا التاريخ.. ولا أعلم الحقيقة وضعه حاليًا بعد الغزو الأمريكي، وتكاد صور أم كلثوم وهى أكثر من خمسمائة صورة تزين كل مكان وتغطى جدران المقهى، وكان يعمل بالمقهى وقتها رجل اسمه "أبو العباس السماوى" وكان عمره 91 عامًا وكل متعته في الحياة هو سماع صوت أم كلثوم فقط أثناء العمل.
ويتذكر أبو العباس أن أم كلثوم حضرت عام 1964 لتغنى في المقهى ومنذ هذه اللحظة صار مقهى أم كلثوم يحمل اسمها تكريما لها.. ومنذ هذه اللحظة قرر صاحبه عبد المعين أن يقتنى جميع أغانى هذه الفنانة التي أصبحت رمزًا لكل العرب.
وسافر عبد المعين إلى القاهرة من أجل مهمة واحدة فقط هي الحصول على جميع أغانى أم كلثوم منذ بدايتها.. وحتى الأغانى التي كانت تغنيها منذ أن كان عمرها عشر سنوات.. واستغرقت هذه الرحلة ثلاث سنوات في شوارع وأزقة وحوارى القاهرة، وعاد الحاج عبد المعين إلى بغداد وهو يحمل كنزًا لأم كلثوم نشك كثيرًا أنه موجود عند أسرة أم كلثوم نفسها، وهذا الكنز يتكون من "700" أغنية "ماستر" على الشرائط والأسطوانات الأصلية وهى مجمل أغانى أم كلثوم في خمسين عامًا.
وقتها سأل الزميل حسن عبد الفتاح صاحب المقهى: هل تبيع هذه الأغانى؟ فقال: ولا كنوز الدنيا لا تعوضنى عن هذا التراث العظيم لست الكل ثومة التي أمتعتنا ومازلنا نستمتع بصوتها حتى الآن. ويكمل الحاج عبد المعين حديثه قائلاً: أنا أملك مقهى آخر بالموصل وعمر هذا المقهى "75" عامًا أي أن عمره حاليًا "99" عامًا وأيضًا أغانى أم كلثوم تذاع هناك طول الوقت.
ويضيف الحاج عبد المعين قائلاً: إنه لاحظ بعد عرض مسلسل أم كلثوم وكان مر وقتها سنة واحدة على عرض المسلسل في التليفزيون العراقى، أن جيل الشباب بدأ يأتي بكثرة للتردد على المقهى يوميًا لسماع صوت أم كلثوم بعد أن كان المقهى لا يلتقى فيه إلا عشاق أم كلثوم فقط ممن هم فوق الخمسين والستين عامًا، ولكن بعد المسلسل تفوق جيل الشباب على جيل الكبار وصاروا هم الأغلبية.
وتتوسط المقهى تلك القصيد الخالدة التي كتبها الشاعر الراحل أحمد رامى ليرثى بها أم كلثوم عند وفاتها.. يقول مطلعها: ما جال في خاطرى أنى سأرثيها بعد الذى صغت من أشجى مغانيها قد كنت أسمعها تشدو فتطربنى واليوم أسمعنى أبكى وأبكيها
ويوجد أيضًا خطاب للسيدة أم كلثوم كتبته بخط يدها إلى صديقتها الشاعرة والأديبة العراقية "وديعة جعفر الشبيبى".. وقد كتبت أم كلثوم هذا الخطاب في 19 يوليو عام 1946 وقالت لها في سطوره: "كان من بين المحاسن التي نعمت بها في رحلتى الأخيرة إلى القطر الشقيق العراق تلك الفرصة الطيبة التي شرفت فيها بلقائك والتعرف إلى شخصيتك الممتازة، فقد أسعدنى حقا أن ألقى أختا من العروبة تتحلى بأدبك وتقرب من مضمار الشعر وتسمو فيه سموك الممتاز، أما قصيدتك العصماء التي حييتينى بها، فهى درة نفيسة حقا، وإنى إذ أقدم لك وافر الشكر أرجو أن أعبر لك عن إعجابى الشديد بك وبشعرك وأدبك وأرجو أن تقبلى منى هذه الصور الفوتوغرافية لى، عنوانا للشعور الذى أحمله لك..وتقبلى وافر تحياتى وأطيب تمنياتى "المخلصة أم كلثوم".
وهذا الخطاب الموضوع داخل إطار في صدر المقهى، نجد حوله بروازا آخر يحمل جدولا لأغانى أم كلثوم.. من الذى لحن الأغنية، ومن المؤلف الذى كتب كلماتها وما هي السنة التي غنت فيها أم كلثوم الأغنية، وذلك بالإضافة إلى صورنادرة لأم كلثوم منذ أن كان عمرها ست سنوات حتى لحظة وفاتها.
ويؤكد الحاج عبد المعين أن أغلب رواد المقهى من المعجبين بأم كلثوم هم الذين يهدون له الصور النادرة لها..ثم يضيف فيقول: إن هذا المقهى شهد حفل زفاف منذ عشرين عاما أي في 1981 لعروسين أصرا على أن يقام حفل زفافهما هنا في هذا المقهى وظلا طوال الليل يسمعان أغانى أم كلثوم، وقال العريس: إن هذه القهوة شهدت بداية تعارفنا وجمعتنا أغانى أم كلثوم وتحابينا من خلالها، ولذلك قررنا إقامة ليلة زفافنا في المكان الذى نحبه ونعشقه وشهد مولد حبنا.
وأكتفى بهذه القصة التي تظهر مدى صدق معانى كلمات هذه السيدة العظيمة التي عاشت وتعيش في قلوبنا ويا ست الكل "بعيد عنك حياتنا عذاب".