سيظل يوم 6 أكتوبر 1973 يوما لا ينسى، هو عيد عند كل المصريين، لقد حرروا أرضهم وانتصروا على العدو الغاشم الذي احتل جزءا عزيزا من أرضهم، وقدم الجيش المصري في هذه الحرب العظيمة واحدة من أهم البطولات في القرن العشرين.
وقد لعب المحررون العسكريون دورا مهما في رصد البطولات التى يقوم بها رجال القوات المسلحة المصرية، ومن هؤلاء المحررين الأديب الكبير جمال الغيطانى.
وظهرت تجربة جمال الغيطاني فى كتابه "على خط النار.. يوميات حرب أكتوبر"، وتمثل جانبا من رسائله الصحفية التى أمد بها جريدة الأخبار عندما عمل كمراسل عسكرى على الجبهة خلال حرب الاستنزاف، ثم حرب ونصر أكتوبر العظيم، خلال الفترة مابين عامى 1969 ـ 1974 والتى رصد فيها الأحداث والتطورات العسكرية على الجبهة.
نجح الغيطانى فى إبراز بطولات الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، وكيف تحول الفلاح، العامل، الطبيب، المهندس، من مجرد إنسان عادى إلى مقاتل يبذل روحه عن طيب خاطر واصرار لا يلين فداء لهذا الوطن، وقد نجح الأستاذ الغيطانى فى رصد الجوانب الإنسانية لمقاتلى الجبهة بدرجة مبهرة، إلى الحد الذى تحتار فيها أن كان يكتب بروح الأديب أم بروح المراسل العسكرى الذى يتعرض لنفس المخاطر التى يتعرض لها مقاتلو الجبهة.
يحتوى الكتاب على ثلاثة فصول: رسائل فترة حرب الاستنزاف، المصرى على خط النار.. سواء لأحوال الجنود والضباط أو لسكان محافظات القناة، ويتناول الفصل الأخير بعض رسائل الأعمال العسكرية على الجبهة مع العدو الإسرائيلى أثناء حرب أكتوبر.
فى الفصل الأول رسالة صحفية مهمة للغيطان يتحدث فيها فى ذلك الوقت عن سر حربى يذاع لأول مرة ويقول: أخيراً وبعد صمت استمر عامين كاملين، يزاح الستار عن عملية بحرية من أجرأ العمليات العسكرية التى تمت بعد حرب يونيو 1967 لقد أثار أختفاء الغواصة الأسرائيلية داكار كثيراً من التساؤلات فى مختلف أنحاء العالم وترك حيرة عميقة فى عقول المعلقين، الخبراء العسكريين لماذا؟
لأن الغواصة اختفت تماماً ولم يظهر لها أى أثر فى مياة البحر المتوسط وكأن أحد الاحتمالات القوية وقتئذ هو احتمال تعرض الغواصة الإسرائيلية لقذيفة من إحدى السفن الحربية وفعلاً داكار أغرقتها البحرية المصرية فى مياهنا الإقليمية.. ويكشف التفاصيل الكاملة للعملية الرائعة التى لا تقل أهمية عن تدمير المدمرة "إيلات" درة البحرية الإسرائيلية.
وحرص الغيطانى فى كتاباته من الجبهة على تدوين بطولة الإنسان المصرى ممثلا فى الجندى المقاتل، الذى تعرض عقب 1967 لحرب نفسية مكثفة لنزع الثقة وتصوير المصريين باعتبارهم شعبا لا يجيد القتال، فإن أجاد الفن والحضارة، فإن الأمر لا ينطبق على قدرته على درء العدوان، وهو ما حرصت اسرائيل والداعمون لها على تكريسه بشكل ممنهج لنزع الثقة وإحباط أى محاولة لتحرير الأرض، الأمر الذى جعل الغيطانى يحرص على أبراز بطولة الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، كيف يتحول ذلك الفلاح أو العامل أو المهنى أو الطبيب أو المهندس من إنسان اعتيادى، إلى مقاتل، وهو ما نجح فيه بامتياز لدرجة استرعت انتباه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى أشاد بأول تحقيقات الغيطانى عن الجندى المصرى على خط النار، مما اعتد به كشهادة تثبيت فى موقعه الجديد للمراسل العسكرى الشاب آنذاك.
يقول جمال الغيطاني تحت عنوان "المقاتل عبد الوهاب":
قسمات وجهه هادئة، عام 1969 اشترك فى الإغارة على أحد المواقع الحصينة بخط بارليف، ورفع العلم المصرى لأول مرة وقتئذ، وفى بداية هذا الأسبوع شاهد المقاتل عبدالوهاب العلم المصرى يرتفع فوق نفس الموقع، يرتفع إلى الأبد، إن وجهه الهادئ يعكس الروح الحضارية العميقة للإنسان المصرى بانى الحضارة الذي يبنى ويبدع ويخلق أرقى الفنون.
وعبد الوهاب حاصل على دبلوم المدارس الثانوية الزراعية لكننا نعرف من زملائه المقاتلين، أنه أشرس مما نتصور، وأنه لحظات الهجوم يندفع فى مقدمة المقاتلين، وأنه يرفض نزول الإجازة الميدانية القصيرة، لا يريد أن يغيب ثانية واحدة عن ميدان القتال، إن شراسته فى القتال تعكس أيضا جانبا من جوانب شخصية الإنسان المصرى، إن بانى الحضارة فى لحظات الخطر يتحول إلى أشرس المقاتلين للدفاع عنها، إن العداء للعدو تجده لدى المقاتل عبد الوهاب وزملائه، عداء شخصيا رهيبا، هذا العدو يهدد مصر.
وما هى مصر؟
إنها باختصار، عمله الذى يكفل له الرزق، إنها أبوه الذى وصل إلى اعتاب الشيخوخة، إنها البيت الذى يأويه، إنها شقيقته التى يدافع عن عرضها أنها الأمل فى حياة هنيئة وادعة بها ما يكفيه من الرزق، إنها غطاء يستره، وأرض يحتمى بها، وتطلع إلى مستقبل آمن لأولاده. هذه هى مصر التى يفتديها أنبل من فينا اليوم بدمائهم، وعندما تصبح مصر مهددة، عندكا يصبح كل هذا مهددا من عدو بربرى، يريد أن يدمر الحياة عندئذ يصبح عبد الوهاب مقاتلا شرسا، عنيدا، لا يخاف الرصاص ولا الشظايا، ولا الطيران المعادى، لا يخاف الموت نفسه وهكذا يقهر عدو مصر.