يوفر موقع القيادة الجنوبية للجيش الأميركي على منصة إكس، منذ أغسطس/آب الماضي، لقطات حية لغارات سفنه الحربية المنتشرة في البحر الكاريبي على مراكب من سماهم البيان الرسمي "إرهابيي المخدرات" (narco-terrorist) مع إشارة إلى حصيلتها من القتلى. وتفيد مقدمة البيانات العسكرية بأن أمرها أصدره وزير الحرب بيت هيغسيث، وأنها أوقعت على التوالي في أيام 5 و7 و10 و16 نوفمبر/تشرين الثاني و4 و15 و22 ديسمبر/كانون الأول ما مجموعه "26 إرهابيا من الذكور". لكن الموقع الذي يستعرض أشكال الانتشار العسكري الأميركي المستجد في المنطقة ذاتها، والذي يضم حاملتي طائرات، يتجاهل تماما عمليات نفذتها وحدات خفر السواحل الأميركية في المنطقة ذاتها، وانتهت بالسيطرة على 3 ناقلات تحمل شحنات ضخمة من النفط الفنزويلي، المنقول عبر ما بات يعرف عالميا بـ"أسطول الظل".
الغارات القاتلة على قوارب من تنعتهم واشنطن بإرهابيي المخدرات، والغارات الأقل عنفا على "أسطول الظل" القادم من سواحل فنزويلا، تمثل أحدث أشكال الحملات العسكرية التي تشنها الولايات المتحدة في البحر الكاريبي. وهي أيضا واحدة من أشكال الحروب الممتدة إلى بحار المتوسط والأسود والبلطيق، في إطار الصراعات الإقليمية التي تمثل إحدى الدول المنتجة للنفط أحد طرفيها، وهي فنزويلا وروسيا وإيران.
يشير مصطلح أسطول الظل إلى شبكة من السفن التجارية القديمة وناقلات النفط التي تعمل خارج الأطر القانونية والرقابية الدولية، بهدف تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية وعسكرية بطرق تحتال على العقوبات الدولية. وسفينة الظل، أو "السفينة الشبح"، هي عادة سفينة قديمة ذات ملكية غامضة. وتعمد هذه السفن إلى تغيير أعلامها على نحو متكرر، بحيث تزيل علم دولة لتحل محله علم دولة أخرى. وتفضل الشركات المالكة لهذه السفن عادة تسجيلها في دول لا تفرض قيودا صارمة، مثل بنما أو ليبيريا وغيرها، مما يجعل تتبعها صعبا.
تعود ملكية سفن أسطول الظل لشركات وهمية مسجلة في مناطق تجارية حرة، حيث يمكن أن تتم عمليات الشراء والبيع السريعة من قبل شركات مجهولة أو تم تأسيسها حديثا مما يساعد على إخفاء المالكين الحقيقيين، ويجعل من الصعب تتبع أصولها أو فرض العقوبات عليهم.
تقول جينيفر باركر، المتخصصة في القانون البحري بجامعة نيو ساوث ويلز الأسترالية، للجزيرة إن "اكتشاف من يملك هذه السفن ومن يؤمنها كان في غاية الصعوبة بسبب [الورق الغامض] حولها". أضافت: "أحيانا، ما يفعلونه هو خلط النفط، لذا سيكون هناك سفينة شرعية تقوم بعملية نقل من سفينة إلى سفينة في البحر تعمل مع أسطول الظل، ويخلطون النفط بحيث يصبح من الصعب تتبع مصدر ذلك النفط… لتجنب العقوبات". وتضيف أن "العدد المتزايد من الأساطيل المظلمة يمثل تحديا حقيقيا".
نشأ أسطول الظل في روسيا إثر اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022، وبعد فرض العقوبات الدولية عليها في السنة ذاتها. وتفيد دراسة نشرتها مجلة فوربس في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي بأن الأسطول السري الروسي ينقل نحو 3.7 ملايين برميل من النفط يوميا -نحو 65% من صادراتها النفطية البحرية- ويولد ما يقرب من 87-100 مليار دولار من الإيرادات السنوية، وفقا لتحليل أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في ديسمبر/كانون الأول 2025.
وبفضل أسطول الظل حافظت موسكو على صادراتها النفطية إلى حد كبير رغم العقوبات الغربية، مما ضمن إيرادات ثابتة لحربها في أوكرانيا، رغم أنها ليست بالحجم نفسه. وحذت حذوها كل من إيران وفنزويلا بغرض تجاوز العقوبات. في الضفة الأخرى، عزز الطلب المرتفع على النفط في أسواق كبرى مثل سوقي الصين والهند الحاجة إلى إيجاد طرق غير رسمية لنقل الموارد النفطية، مما جعل أسطول الظل خيارا إستراتيجيا لهذه الدول.
إضافة إلى ذلك أتاح الأسطول للمشغلين تحقيق أرباح كبيرة عبر الاستفادة من فروق الأسعار في الأسواق غير الرسمية، وتجنب التكاليف المرتفعة المدفوعة للتأمين والرسوم التنظيمية.
وتشير بيانات "إس آند بي غلوبال" ومعلومات المخابرات الأوكرانية إلى أن روسيا اعتمدت بشكل كبير على أسطول الظل عام 2025. وكانت الهند الوجهة الرئيسية للنفط الروسي المهرب، حيث استوردت نحو 5.4 ملايين طن (أو 55% من مبيعات النفط الخام الروسي عبر ناقلات الظل) بين يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول. بموازاة ذلك أخذت الصين حصة أصغر ولكنها لا تزال كبيرة، بلغت نحو 15% من الإنتاج العالمي. ويتم حاليا نقل معظم النفط الخام الروسي البحري خارج أنظمة الشحن المتوافق مع مجموعة الدول السبع الكبرى، مما يؤكد دور أسطول الظل المركزي في هذه التجارة.
أما في حالة فنزويلا، الدولة التي فرض الرئيس الأميركي ترامب حظرا على دخول ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات (أسطول الظل) إليها وخروجها منها، فصنّف نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو "منظمة إرهابية". وعندما سأل الصحفيون ترامب عن النفط الموجود على متن أول ناقلة تم السيطرة عليها في العاشر من ديسمبر/كانون الأول، قال "سنحتفظ بها"، مضيفا أن النفط قد يستخدم في الاحتياطي الإستراتيجي لبلاده. وهو ما دفع الرئيس مادورو للقول إن واشنطن "تفتح عهدا جديدا من القرصنة البحرية الإجرامية في المنطقة".
يقدر المحلل السياسي الروسي أندريه سوزدالتسيف -في تصريحات نقلتها النسخة الفارسية من صحيفة إندبندنت يوم 12 ديسمبر/كانون الأول- أن عدد سفن أسطول الظل اليوم قد يكون أكبر من أي وقت مضى، إذ إن إيران وفنزويلا مجتمعتين لديهما نحو 600 سفينة. أما بالنسبة لأسطول الظل الروسي فتشير صحيفة "غازيتا" في 19 ديسمبر/كانون الأول إلى صعوبة رصده، وتنقل عن مصادر لم تحددها إمكانية حيازة موسكو 940 سفينة، أي ما يمثل نحو 17% من أسطول نقل النفط العالمي.
حسب تحليل لبيانات "مارين ترافيك" و"إل إس إي جي"، فإن ما لا يقل عن 65 ناقلة نفط روسية ترسو حاليا في مواقع مختلفة معظمها تقع قبالة سواحل روسيا في بحر البلطيق والشرق الأقصى. وكانت 5 ناقلات نفط راسية قرب الموانئ الصينية، و7 ناقلات أخرى راسية قبالة سواحل سنغافورة و25 من السفن العالقة موجودة في السابق في موانئ تابعة لإيران وقرب قناة السويس. وفقا لبيانات من لويدز ليست إنتليجنس، عبرت ما لا يقل عن 27 سفينة من سفن أسطول الظل مضيق سنغافورة في أوائل ديسمبر/كانون الأول، لتنضم إلى تجمع 130 سفينة أخرى بالقرب من أرخبيل رياو في إندونيسيا.
وقال تحقيق استقصائي عابر للحدود -نشرته مجلة فوربس تحت عنوان "أسرار أسطول الظل" في 19 ديسمبر/كانون الأول- إن طواقم من أوكرانيا ولاتفيا وقبرص (دول مشاركة في فرض العقوبات على أسطول الظل) تعمل على متن 60 من سفنه.
على الرغم من تطابق جنسيات طواقم سفن أسطول الظل مع جنسية الدول المتضررة من أنشطته، فإن ذلك لم يمنح سفنه حصانة من الهجمات المباشرة في مناطق النزاع الممتدة من الكاريبي إلى البحر الأسود مرورا بالبحر المتوسط. ففي 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، هاجمت مسيرات أوكرانية سفينة تابعة لأسطول الظل الروسي في البحر المتوسط على بعد 1500 كيلومتر من أوكرانيا نفسها، حسب تقرير نشرته صحيفة "ذا كييف إندبندنت". وأظهر مقطع فيديو أصدره جهاز الأمن الأوكراني ذخائر أسقطت من مسيرة قصيرة المدى، مما يشير إلى أن الضربة تمت من سفينة قريبة. جاء ذلك بعد إعلان جهاز الأمن الأوكراني (SBU) في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني إنه ضرب ناقلتين روسيتين خاضعتين للعقوبات، كايروس وفيرات، قبالة ساحل البحر الأسود التركي.
أما في بحر البلطيق فكان أسطول الظل الروسي مصدرا للقلق الأمني للدول الأوروبية المطلة عليه مثل ألمانيا والدانمارك والنرويج وبولندا وليتوانيا وإستونيا. ففي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، علقت حركة الطيران في مطار برلين لساعتين بعد رصد تحليق طائرات مسيرة مجهولة في أجوائه. وسبق هذا الحادث إغلاق اثنين من مدرجات مطار ميونخ في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول بسبب رصد طائرات مسيرة، ألقت بعض السلطات باللوم فيها على روسيا، وهو ما نفاه الكرملين. وأبلغت ألمانيا كذلك عن حالات تحليق الطائرات المسيرة في الأشهر الأخيرة فوق قواعد عسكرية ومواقع صناعية وبنى تحتية حيوية أخرى.
كما علقت مطارات في الدانمارك والنرويج وبولندا أخيرا الملاحة الجوية بسبب رصد طائرات مسيرة ومناطيد مجهولة، مما دفع ألمانيا ورومانيا وإستونيا إلى توجيه أصابع الاتهام إلى روسيا التي نفت هذه المزاعم. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى إقامة ما يسمى بـ"جدار المسيرات" لاستخدامه كشبكة من المستشعرات والأسلحة لتحديد وتحييد توغلات المسيرات. وذكرت مجلة فوربس من جانبها أن البحرية السويدية أبلغت عن وجود عسكريين روس على متن ناقلات أسطول الظل الخاضعة للعقوبات في بحر البلطيق، مما يؤكد أن السفن التي كانت تُعامل سابقا كمدنية أصبحت الآن محمية بنشاط كأصول إستراتيجية.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة