لم يكن مقتل غسان نعسان السخني، القيادي العسكري في جيش النظام السوري السابق، في منطقة كسروان اللبنانية، مجرّد حادث جنائيّ عابر.
طلقات قليلة قتلت السخني، لكنها أعادت فتح أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيداً: ملف “فلول نظام الأسد في لبنان”، حجم هذا الوجود، وما يحمله من مخاطر بتحويل البلاد إلى ساحة مفتوحة لتصفية حسابات عابرة للحدود.
العثور على جثة السخني بعد ساعات من اختفائه، في ظروف غامضة، فجّر موجة تساؤلات تتجاوز تفاصيل الجريمة إلى أبعاد سياسية وأمنية. فالرجل كان قائد مجموعة “الطراميح” التي عملت ضمن الفرقة 25 مهام خاصة، التي كان يقودها سهيل الحسن، قبل أن يلجأ إلى لبنان عقب سقوط النظام. غير أن مسار الهروب انتهى على نحو دموي، مع طلقات نارية لا يزال الجدل محتدماً حول خلفياتها الحقيقية.
حصرت الرواية الرسمية الجريمة في إطار جنائي بحت. فقد أعلن الجيش اللبناني ، توقيف السوري (و.د.) في 23 ديسمبر، بعد عملية رصد ومتابعة أمنية، مشيراً إلى أن الموقوف استدرج السخني إلى خراج بلدة كفرياسين في قضاء كسروان، في 22 من الشهر نفسه، حيث أطلق النار عليه من مسدس حربي، ما أدى إلى مقتله، على خلفية خلاف مالي.
غير أن هذه الرواية لم تُقفل باب الشكوك. فمراقبون يرون أن مقتل ضابط سابق بهذا الوزن لا يمكن فصله بسهولة عن السياق الأمني الإقليمي. فالتوقيت، والمكان، والسجل العسكري للسخني، جميعها عناصر عززت فرضية التصفية الأمنية، في مشهد يعكس ارتدادات مرحلة ما بعد سقوط الأسد على الداخل اللبناني.
مع انتشار الخبر، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي. مدونون رأوا في مقتل السخني مؤشراً على بدء مواجهة مفتوحة بين الأجهزة الأمنية السورية وفلول النظام السابق في لبنان، مطالبين الحكومة اللبنانية باتخاذ إجراءات عاجلة لمنع نشاط جماعات مرتبطة بنظام الأسد داخل البلاد، ومحذّرين من تحوّل لبنان إلى ساحة لتصفية الحسابات.
ولم يأتِ هذا القلق من فراغ. فحادثة السخني سبقتها “عملية خطف سامي أوبري، قائد الدفاع الوطني في حلب، من طبرجا ونقله إلى سوري” كما أشار مدونون .
وفي هذا السياق، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن السخني قتل بعد محاولة خطف فاشلة. ما يعزّز، بنظر مراقبين، فرضية أن ما يجري ليس سلسلة مصادفات.
من جانبه يعتبر الخبير العسكري والاستراتيجي عصمت العبسي، في حديث لموقع “الحرة”، أن مقتل السخني “يحمل غطاء جنائياً، لكنه واقع ضمن مسار أوسع لاستهداف إعادة ضبط فلول النظام السابق، أي أنه عملياً جزء من رسالة أمنية أوسع، أكثر من كونه حادثاً منفصلاً عن السياق”.
بعد سقوط نظام الأسد، فرّ مئات القادة والضباط والعسكريين السوريين إلى خارج البلاد، واتخذ عدد منهم من لبنان ملاذاً مؤقتاً أو دائماً. كثيرون منهم متهمون بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وبعضهم مدرج على لوائح عقوبات دولية أو مطلوب للانتربول.
تقارير إعلامية غربية، بينها موقع “ ذا ميديا لاين “، تحدّثت عن وجود مئات الضباط من النظام السابق داخل لبنان، ولوائح سلّمتها دمشق إلى بيروت تتضمن أسماء نحو 300 ضابط مع تفاصيل دقيقة عن أماكن وجودهم وتحركاتهم. معلومات تعكس، وفق هذه التقارير، متابعة استخبارية لصيقة وضغوطاً دولية متزايدة، لا سيما من فرنسا، لملاحقة متورطين بجرائم جسيمة.
وعن حجم معرفة الأجهزة السورية بهؤلاء في لبنان، يجيب العبسي: “عالي جداً. ثمة قوائم مفصّلة بأسمائهم ورتبهم وأماكنهم وأرقام هواتفهم ونشاطهم، مع متابعة ميدانية واتصالات مع بيروت وواشنطن حول الملف”.
مدير البرنامج القانوني في مركز سيدار المحامي محمد صبلوح يشير إلى أن الضباط السوريين الموجودين في لبنان “دخلوا البلاد بشكل غير شرعي بعد سقوط نظام الأسد، ما يجعل إقامتهم غير قانونية ويمنع تصنيفهم كلاجئين، خصوصاً مع اتهام بعضهم بارتكاب جرائم تعذيب بحق الشعب السوري”، ويتحدث عن مفارقة لافتة: “بعضهم حصل على إقامات رسمية رغم دخوله غير الشرعي، بحسب ما أكدت تقارير إعلامية أجنبية”،
كما يلفت صبلوح في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “القضاء الفرنسي طلب، عبر استنابة قضائية، ملاحقة بعض هؤلاء الضباط، وزوّد السلطات اللبنانية بمعلومات عن أماكن سكنهم”، متسائلاً “كيف يمكن للبنان الادعاء بعدم العلم بوجودهم، في وقت تملك أجهزة استخبارات دولية عناوينهم؟”.
ولا يبتعد هذا الكلام عن وقائع موثّقة، كان أبرزها مقابلة أجرتها شبكة CNN في بيروت مع بسام الحسن، المستشار الأمني السابق للأسد، والذي أكد خلالها بأن الأخير أعطى تعليماته بإعدام الصحافي الأميركي أوستن تايس.
يرى مراقبون أن مقتل السخني ليس سوى جرس إنذار. فالملف السوري داخل لبنان بات قنبلة موقوتة، وقد ينفجر إذا استمر التعامل معه بسياسة التجاهل.
المرصد السوري لحقوق الإنسان اعتبر أن لبنان دخل “مرحلة خطيرة من الانفلات الأمني المرتبط بالملف السوري”، كاشفاً عن اجتماع عُقد في بيروت ضم ممثلاً عن المخابرات السورية، وشخصاً قُدّم على أنه عضو في “هيئة السلم الأهلي”، إلى جانب ضباط أمنيين لبنانيين. ورُوّج للاجتماع، على أنه يندرج في إطار التعاون لمكافحة الإرهاب وضبط الحدود، إلا أن المرصد أكد أن الهدف الحقيقي تمحور حول ملف ضباط النظام السابق في لبنان ومحاولات تسليم بعضهم إلى دمشق، وهي محاولات قوبلت برفض لبناني.
وبحسب معلومات المرصد، فإن فشل هذا المسار دفع دمشق إلى اعتماد خيارات أكثر خطورة، من بينها تنفيذ عمليات اغتيال وتصفية عبر فصائل موالية لها تنشط داخل لبنان، بهدف فرض وقائع جديدة بالقوة.
وربط مراقبون بين اغتيال السخني وما تم تداوله عن لقاءات أمنية عقدها العميد عبد الرحمن الدباغ، المسؤول في جهاز الاستخبارات السورية، في بيروت مؤخراً، تناولت ملفات شخصيات سورية مقيمة في لبنان، يشتبه بتورّطها في أنشطة أمنية و تحريضية تسهم في زعزعة الاستقرار الداخلي في سوريا.
وترافقت هذه التطورات مع تسريبات صحافية عن تحركات سرية يقودها كبار جنرالات النظام السابق من منفاهم لإثارة اضطرابات مسلحة داخل سوريا، وهو ما كشفت عنه صحيفة “ نيويورك تايمز ” استناداً إلى اتصالات هاتفية ومراسلات نصيّة مخترقة. ورغم ذلك، ذكرت الصحيفة أن مسؤولين سوريين يراقبون هؤلاء القادة قللوا من شأن التهديد الفعلي، مشيرين إلى تصدّع هذه الشبكات.
في المقابل، يؤكد العبسي أن الخشية قائمة، مشدداً على أن القلق ينصب خصوصاً على “تشكّل نواة معارضة مسلّحة وأمنية ذات خبرة داخل بنية الدولة القديمة، أكثر من الخوف من انقلاب كلاسيكي”.
وعن دلالة الاجتماعات الأمنية غير المعلنة في بيروت، يجيب العبسي: “تثبيت قواعد لعبة جديدة. دمشق تطلب رسمياً رأس الفلول السابقين، وتعيد تعريف العلاقة الأمنية مع لبنان بعيداً عن نموذج الوصاية القديمة، لكن دون التخلي عن الضغط”.
قانونياً، يجد لبنان، الموقّع على اتفاقية مناهضة التعذيب، أمام خيارين لا ثالث لهما، وفق صبلوح، “إما تسليم هؤلاء الضباط إلى جهة قضائية تضمن محاكمة عادلة، أو محاكمتهم داخل لبنان إذا كانت هناك مخاوف جدية من تعرّضهم للتعذيب في حال ترحيلهم”.
ويذكر أنه بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، سلّم الجيش اللبناني، في الشهر نفسه، إدارة العمليات العسكرية في سوريا نحو 70 سورياً، بينهم ضباط برتب مختلفة في قوات النظام السابق، بعد توقيفهم لدخولهم الأراضي اللبنانية بشكل غير شرعي عبر منطقة جبيل، كما ذكرت “ الوكالة الوطنية للإعلام “.
ويحذر صبلوح من خطورة تحوّل لبنان إلى ملاذ آمن لمرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، معتبراً أن “استمرار وجود هؤلاء من دون محاسبة قد يورّط لبنان في أزمات أمنية وسياسية، سواء عبر استخدام أراضيه للتخطيط لأعمال تخريبية، أو عبر توتير علاقاته مع سوريا الجديدة والمجتمع الدولي”.
وفيما يتعلق بالتهديدات الأمنية المحتملة، يوضح العبسي أن لبنان “مهدد بسلسلة تصفيات وخطف ذات طابع سوري – سوري على أرضه، مع مخاطر تسييس الملف داخلياً ودولياً إذا لم يُضبط باتفاق واضح”.
ويشير العبسي إلى أن هذا الملف “يعجّل في بناء علاقة أمنية إلزامية بين بيروت ودمشق، لكنها ستكون متوترة ومليئة بالمساومات”.
المصدر:
الحرة